الجمعة، 7 أغسطس 2015


قناة السويس تاريخ من المغامرة (2)
ده الجزء التاني والأخير من مقالي في الكتاب اللي طلعه الأهرام عن قناة السويس
عماد أبو غازي
 لقد كان مشروع قناة السويس ـ في رأي الكثيرين ـ سببًا في وضع مصر في بؤرة الصراعات الدولية منذ منتصف القرن التاسع عشر، فهل كان هذا أمرًا جديدًا بالنسبة لمصر؟ وهل كانت فكرة ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر وليدة الفكر الأوروبي في العصر الحديث، في مرحلة الثورة الصناعية؟ أو لم يكن لمصر امتياز الموقع منذ عصور تاريخها القديم؟ أو لم يدرك المصريون قيمة موضع بلدهم وموقعها ويفكروا في استغلاله؟
 الواقع أنه منذ ظهر مفهوما النظام الإقليمي والنظام العالمي، أي منذ عرف الإنسان في  موطنه أنه جزء من منظومة أكبر، منذ ذلك الحين ومصر تحتل موقعًا محوريًا ضمن المنظومتين الإقليمية والعالمية بمعايير الإقليمية والعالمية في ذلك العصر البعيد، والتي كانت تتغير من عصر إلى عصر؛ فبعد عدة قرون من بدء الحضارة المصرية وتكوين الدولة الواحدة الموحدة في الوادي والدلتا أدرك المصريون أنهم يشكلون جزءًا من نظام أوسع يتخطى حدودهم، وبدء اتصالهم بالعالم المحيط بهم.
 وفي إطار ذلك العالم القديم الذي كان محددًا في البداية بمراكز أكثر تطورًا، تلك التي شهدت ميلاد الثورة الزراعية وشكلت مركزًا متقدمًا لهذا العالم، في مصر وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى، وأطرافًا أقل تطورًا في المحيط الأوسع في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وشرقها ووسط آسيا، كانت مصر تحتل موقعًا متوسطًا في ذلك العالم، وتعد نقطة ارتباط بين أطرافه، ومن هنا تولدت لدى المصريون أفكار حول ربط أطراف ذلك العالم بعضها ببعض.
 فما قصة تلك الأفكار؟ وهل تحولت إلى مشروعات في الواقع؟
 إننا نعرف جميعا قصة مشروع قناة السويس الحالية ودور دلسيبس فيها، كما نعرف أن فكرة ربط البحرين الأحمر والأبيض سابقة على دلسيبس، فقد جاء علماء حملة بونابرت على مصر  ومعهم مشروعًا لقناة تربط البحرين لكنهم أحجموا عن تنفيذ المشروع لخطأ الحسابات الناتج عن حجم المعرفة العلمية المتاحة وقتها من ناحية، ولما أصاب أوضاع الحملة في مصر من اضطراب من ناحية أخرى.
 
 
 كما نعرف كذلك أن مشروعًا آخر لشق القناة طرحه مهندسون أوروبيون من رجال الحركة السان سيمونية على محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن الباشا رفض المشروع لإحساسه بأنه سيضع مصر في بؤرة الصراعات الدولية.
 
 لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن المشروع الذي ظهر إلى الوجود في القرن الماضي كان في الأصل مشروعًا مصريًا قديمًا. ففكرة الربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط فكرة قديمة راودت المصريين قبل عشرات القرون، بل تحققت بالفعل في بعض عصور التاريخ المصري، فعندما حفر دلسيبس قناة السويس كان يحيي مشروعًا قديمًا للغاية، ففي زمن ما في الماضي البعيد كان البحر الأبيض المتوسط متصلًا بالبحر الأحمر عبر نهر النيل، فقد كان خليج السويس يصل إلى الموضع الحالي لمدينة الإسماعيلية، حيث كان يتصل هناك بأحد الفروع القديمة للنيل الذي كان يتجه من الدلتا نحو الشرق. وتؤكد الدراسات الـﭽيولوﭽية لتلك المناطق هذه الحقيقة، فقد تركت المياة المتراجعة أثرها في الأرض، وآخر هذه الآثار وادي الطميلات وبحيرة التمساح والبحيرات المرة.
 وقد أوحت المنخفضات الطبيعية التي تمتلئ بها المنطقة للمصري القديم بالمسار الذي يمكن له أن يحفر فيه قناة تصل ما بين نهر النيل وقمة خليج السويس، وقد كانت لدى المصريين القدماء دوافعهم لإعادة شق طريق مائي صناعي يحل محل المجرى الطبيعي الذي طُمر مع مرور الزمان.
 لقد ارتبطت مصر منذ أقدم العصور بعالم البحر الأحمر، فكان للمصريين تجارتهم المستمرة مع المناطق الجنوبية والشرقية، وقد سجلوا تفاصيل رحلاتهم تلك في النقوش على جدران المقابر والمعابد، وكان شق مثل تلك القناة يمكن أن يوفر عليهم رحلة شاقة في الصحراء الشرقية ثم في صحراء سيناء فجزيرة العرب، أو في الصحراء الشرقية إلى الموانئ المصرية الجنوبية على شاطئ البحر الأحمر، فعبر تلك القناة كان يمكن أن تنتقل سفن الأسطول المصري مباشرة من وادي النيل إلى البحر الأحمر.
 إذًا فلم يكن قصد المصريين القدماء من وراء شق هذه القناة هو ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، بل مجرد ربط النيل بالبحر الأحمر وتوفير القدرة للأسطول المصري على أن يجوب البحر الأحمر منطلقًا من منف على رأس وادي النيل، لكن نتيجة هذا المشروع الضخم كانت تحقيق إمكانية الانتقال ما بين البحرين بسهولة ويسر، وربط طرق التجارة في العالم القديم بطريق بحري متصل.
 
 
 وتحفل المصادر التاريخية القديمة وكذلك النصوص الأدبية ـ سواءً في ذلك المصادر الإغريقية أو الفارسية أو الرومانية أو العربية ـ بالعديد من الروايات التي تغلفها كثير من الأساطير، وتلك الروايات مختلفة في تفاصيلها وإن اتفقت في مضمونها حول حفر هذه القناة ووجودها.
 ووفقًا لما تقوله تلك الروايات وما تحمله من قصص تجمع بين الحقيقة والخيال ترجع بعض المصادر الإغريقية حفر قناة تربط النيل بالبحر الأحمر إلى عصر الدولة الوسطى، وعلى وجه التحديد إلى عصر سونسرت الثالث المعروف لدى الإغريق باسم سيزوستريس، حيث يقول أرسطوطاليس في كتابه "علم الظواهر الطبيعية": "نحن نعتبر أقدم البشر هؤلاء المصريين الذين تظهر كل بلادهم قاطبة من عمل النيل ولا تعيش إلا به. وهذه الحقيقة تفرض نفسها على أي فرد يجوب هذه البلاد، ولدينا شاهد ظاهر نجده في إقليم البحر الأحمر، والواقع أن أحد الملوك شرع في القيام بحفر البرزخ لربط النيل بالبحر، وجعل هذا الممر صالحا للملاحة، وكان له فائدة عظيمة، والظاهر أن سيزوستريس هو أول الملوك القدامى الذين تبنوا هذا العمل ولكنه لاحظ أن مستوى الأراضي كان أكثر انخفاضًا عن مستوى البحر...".
 
سونسرت الثالث
 ولا تقتصر الروايات التي تعود بقصة حفر تلك القناة إلى زمن الدولة الوسطى على ما ذكره أرسطوطاليس، بل نجد لها أصداء في ملحمة الأوديسا التي تنسب إلى هوميروس، وعند الجغرافي إسترابون والمؤرخ الروماني بليني القديم، كذلك ترجع المصادر العربية بهذه القناة إلى نفس الفترة في تاريخنا المصري القديم.
 وبالرغم من أن هناك شواهد أثرية كثيرة تؤكد علاقة مصر بعالم البحر الأحمر منذ هذه العهود البعيدة إلا أنه لا توجد أدلة مؤكدة على حفر القناة الملاحية، لكن بعض علماء المصريات المحدثين يذهبون إلى أن العلاقات التجارية والحربية القوية بين مصر وشواطئ البحر الأحمر الشرقية والجنوبية، والتي ترجع إلى عصر الدولة الوسطى على الأقل، ما كان لها أن تقوم دون وسائل مواصلات مباشرة وسهلة، كما تشير الأدلة الأثرية إلى وجود أطلال لمدن يرجع بعضها إلى عصر الدولة القديمة في مواقع مختلفة بالمنطقة التي يفترض أن تلك القناة اخترقتها، ويستنتج هؤلاء العلماء احتمال وجود قناة تمد المناطق الواقعة شرق دلتا النيل بالماء العذب منذ عصر الإسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى. وتؤكد الشواهد الأثرية على وجود تلك القناة في وادي الطميلات زمن الدولة الحديثة إبان عصر رمسيس الثاني.
 أما الروايات شبه المؤكدة فترجع البدء في مشروع القناة الملاحية إلى العصر الصاوي، حوالي القرن السابع قبل الميلاد، حيث تؤكد رواية المؤرخ الإغريقي هيردوت الذي زار مصر في زمن الاحتلال الفارسي، أي في فترة قريبة من العصر الصاوي، على أن صاحب المشروع هو الفرعون المصري نخاو الثاني، أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وقد حكم مصر في الفترة ما بين سنتي 610 و595 قبل الميلاد على الأرجح، ورغم أن الآثار المادية لهذا الفرعون قليلة إلا أن المصادر التاريخية القديمة والنصوص الدينية المتأخرة لليهود تحفل بالكثير عن عصره، فقد قام نخاو بهزيمة الملك يوشيا ملك يهوذا وسحق جيشه خلال إحدى حملاته الحربية التي قادها بنفسه في فلسطين، وسيطرت مصر في بداية عصره على مناطق واسعة من فلسطين وسوريا ولبنان، وحاول أن يتصدى للنفوذ البابلي الصاعد لكنه فشل في ذلك بعد هزيمته في موقعة قرقميش التي تراجعت مصر بعدها إلى حدودها الطبيعية، وتنسب إلى هذا الفرعون مشروعات ضخمة مثل الر حلة التي قام بها أسطول مصري فينيقي للدوران حول قارة أفريقيا بدء من البحر الأحمر بمحاذاة الساحل الشرقي للقارة حتى رأس الرجاء الصالح، ثم الصعود شمالًا بمحاذاة الساحل الغربي حتى المضيق المعروف الآن بمضيق جبل طارق والدخول عبره إلى البحر المتوسط للعودة إلى مصر مرة أخرى، كما ينسب إليه المؤرخ الإغريقي هيردوت الشروع في حفر القناة التي تصل بين النيل والبحر الأحمر، حيث يقول: "كان للملك بسماتيك ابن يدعى نخاو خلفه على العرش، وكان هو أول من بدأ حفر القناة التي تجري لتصب في البحر الأحمر، وكان دارا ملك الفرس ثاني ملك اهتم بها، وكان طولها أربعة أيام بالسفينة، وكانت تتسع لسير سفينتين فيها متحاذيتين، وكان ماؤها يخرج من النيل من فوق مدينة بوبسطة بمسافة قليلة، وتمر بمدينة باتوم، وتسير لتصب في البحر الأحمر، وهكذا فإن هذه القناة الطويلة التي تجري من الغرب إلى الشرق مخترقة الأودية الصغيرة حتى الخليج الغربي، وفي أثناء انشغال نخاو بالقناة المذكورة مات فيها مائة وعشرون ألف مصري، وقد أمر بوقف العمل بسبب ذلك، وكذلك نزل عليه وحي معترضًا سير العمل فيها قائلًا: إن همجيًا سينجزها".
 
نخاو الثاني
وقد انجزت هذه القناة أو ربما أعيد افتتحها في عهد الملك الفارسي دارا الأول حيث تشير إلى ذلك لوحة تذكارية ترجع إلى عام 518 قبل الميلاد. وقد كان الفرس أثناء احتلالهم لمصر يحتاجون إلى مثل هذه القناة لربط مصر بالعاصمة الفارسية بطريق بحري متصل.
 
دارا الأول
 وقد أعيد حفر تلك القناة عدة مرات في عصور البطالمة والرومان والعرب إلى أن طمر الجزء الأكبر منها في بداية عصر الدولة العباسية كما يذكر المقريزي، ولم يعد المشروع إلى الوجود إلا مع دلسيبس.
 ترى من هو الهمجي المقصود في نبوءة نخاو من هؤلاء الذين حفروا القناة؟
 ومشروع نخاو في ضوء رحلة الأسطولين المصري والفنيقي حول القارة الأفريقية كان يهدف بلا شك إلى ربط البحرين الأبيض والأحمر وليس النيل والبحر الأحمر فقط، وهكذا فعندما تم حفر قناة السويس التي تعد اليوم من أهم طرق الملاحة العالمية، كان ذلك إحياءً لمشروع مصري قديم عمره من عمر مصر.
 وإذا كانت مصر في عصورها القديمة قد عرفت مشروعات لربط البحرين الأبيض والأحمر عبر النيل، فإن هذه المشروعات قد تجددت مرة أخرى بعد دخول العرب إلى مصر في القرن السابع الميلادي، ومصدرنا عن هذه المشروعات كتابات المؤرخين العرب، التي تتحدث عن الخليج الذي كان يعرف باسم خليج أمير المؤمنين، وتعود تلك الكتابات بأصول المشروع إلى قناة سيزوستريس التي تذكرها المصادر الإغريقية، وترجع المصادر العربية بهذا المشروع إلى فترة مبكرة جدًا في الحقبة العربية من تاريخ مصر، إلى عصر أول الولاة العرب عمرو بن العاص.
 هذا وتحفل الروايات التاريخية العربية بكثير من الاضطراب فيما يتعلق بحفر القناة في عصور الحضارة المصرية القديمة، وربما أتى الاضطراب نتيجة انقطاع صلة المؤرخين العرب بالتراث المصري القديم، ورغم ما تحمله تلك الروايات من خلط بين الأساطير والخرافات والوقائع التاريخية فإنها روايات لا تخلو من دلالة على وجود هذه القناة وأهميتها في ربط مصر بجزيرة العرب تجاريًا منذ أقدم العصور، فماذا يقول تقي الدين المقريزي شيخ مؤرخي مصر في القرن الخامس عشر الميلادي عن هذه القناة؟
 في خططه المعروفة بـ"كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" يتحدث المقريزي  عن الخليج المسمى بخليج أمير المؤمنين نسبة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فيقول: "هذا الخليج بظاهر القاهرة من جانبها الغربي فيما بينها وبين المقس"... والمقس منطقة تقع ما بين ميدان رمسيس وبولاق أبو العلا الآن، كانت بها إدارة جباية الرسوم الجمركية على البضائع الواردة للقاهرة، حيث كان ميناء بولاق يعد الميناء الشمالي للمدينة، وكلمة مقس أو مكس كلمة غير عربية تعني الضريبة وكانت تستخدم للرسوم الجمركية خاصة، ومن هنا يتكرر إطلاق اسم المكس على الأحياء المجاورة للموانئ، كما كانت كلمة مكس وجمعها مكوس تحمل معنًا آخر له دلالة سلبية حيث يشير بها الناس في العصور الوسطى إلى الضرائب غير الشرعية.
  ونعود مرة أخرى لشيخنا المقريزي الذي قال عن الخليج: "عرف في أول الإسلام باسم خليج أمير المؤمنين، ويسميه العامة الخليج الحاكمي وخليج اللؤلؤة، وهو خليج قديم أول من حفره طوطيس بن ماليا أحد ملوك مصر الذين سكنوا مدينة منف، وهو الذي قدم إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في أيامه إلى مصر، وأخذ منه امرأته سارة وأخدمها هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليهما، فلما أخرجها إبراهيم هي وابنها إسماعيل إلى مكة بعثت إلى طوطيس تعرفه أنها بمكان جدب وتستسقيه، فأمر بحفر هذا الخليج وبعث إليها فيه بالسفن تحمل الحنطة وغيرها إلى جدة، فأحيى بلد الحجاز".
 ومن المفترض أن ترجع وقائع تلك القصة إلى زمن يقابل عصر الدولة الوسطى في تاريخنا المصري القديم، الزمن الذي شهد وفود العديد من القبائل السامية من مناطق غرب آسيا إلى مصر، والتي تسجلها النقوش المصرية القديمة، خاصة نقوش مقابر بني حسن بالمنيا.
 
 
 
 جدارية من بني حسن تبين رحلة لمجموعة من القبائل السامية تطلب اللجوء لمصر
ويسترسل المقريزي في تتبع تاريخ القناة في العصر الروماني فيقول: "ثم أن أندرومانوس الذي يعرف بإيليا أحد ملوك الرومان بعد الإسكندر بن فيلبس المقدوني جدد حفر هذا الخليج، وسارت فيه السفن، وذلك قبل الهجرة النبوية بنيف وأربعمائة عام"، وينتقل بعد ذلك إلى مشروع تجديد القناة عقب دخول العرب إلى مصر قائلا: "ثم أن عمرو بن العاص رضي الله عنه جدد حفره لما فتح مصر، وأقام في حفره ستة أشهر وجرت فيه السفن تحمل الميرة إلى الحجاز، فسمي خليج أمير المؤمنين، فإنه هو الذي أشار بحفره، ولم تزل تجري فيه السفن من فسطاط مصر إلى مدينة القلزم (السويس الآن)، وكان يصب ماء النيل في البحر عند مدينة القلزم إلى أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بطمه في سنة خمسين ومائة،  فطم وبقى منه ما هو موجود الآن"...
 ومن رواية المقريزي التي سعى فيها للتأصيل التاريخي لتلك القناة تبدو بوضوح محاولته للربط بين القناة التي حفرها ملك مصر لإمداد السيدة هاجر بالطعام وقناة أمير المؤمنين، فللقناتين نفس الهدف، إمداد الحجاز بقمح مصر وخيرتها، لكن الحقيقة أيضًا أن قناة أمير المؤمنين يفترض أن لها نفس دوافع قناة دارا الفارسي، أي ربط ولاية جديدة بمركز الإمبراطورية.
 الغريب في الأمر أن مصر في عصر المقريزي، أي القرن الخامس عشر الميلادي وفي ظل حكم المماليك الجراكسة كانت مركزًا رئيسيًا لطرق التجارة العالمية، وكانت تجارتها الخارجية مزدهرة، بل كانت عوائد تجارة المرور تشكل المصدر الثاني لموارد الدولة بعد الزراعة، وتشكل مصدرًا مهمًا لموارد سلاطين المماليك الشخصية في ظل سياسة الاحتكار التي اتبعوها منذ عصر السلطان الأشرف برسباي، وكان هناك تحالف استراتـجي بين سلطنة المماليك وجمهورية البندقية أساسه مصالحهم التجارية المشتركة في السيطرة على تجارة العالم القديم، ومواجهة التهديدات القادمة من الشرق ومن الغرب لمصالحهما المشتركة، فكان هناك العدو الواحد الذي بات يشكل تهديدًا لكلا الدولتين، أعني الدولة العثمانية الصاعدة، وكانت هناك من ناحية أخرى مهمة مواجهة طموح دول غرب أوروبا الصاعدة خاصة أسبانيا والبرتغال بكشوفهما الجغرافية الساعية للوصول إلى الشرق الأقصى عبر طريق بحري مباشر، يمكنهما من إنهاء الاحتكار المملوكي البندقي لتجارة الشرق.
 وكانت بقايا خليج أمير المؤمنين لا تزال موجودة، وتاريخ الخليج وفكرته معروفة، فلماذا لم تقم مصر المملوكية بمشروع لإعادة شق خليج أمير المؤمنين لتربط طرق التجارة بين الشرق والغرب، خاصة بعد أن بدأت الكشوف الجغرافية التي قام بها الأسبان والبرتغاليين تؤتي ثمارها في كشف طريق بحري مباشر إلى شرق آسيا بالدوران حول رأس الرجاء الصالح؟
 المتتبع لمشروعات ربط النيل بالبحر الأحمر بقناة صناعية يكتشف أن الفكرة لم تغب عن المصريين منذ زمن الدولة الوسطى على الأقل، وإن هذه المشروعات أدت بطريق غير مباشر إلى ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر معًا عبر النيل.
 لكن الغريب في الأمر،  إنه بعد ردم خليج أمير المؤمنين في بدايات العصر العباسي لم تتكرر المحاولة مرة أخرى لإعادة حفر قناة جديدة، حتى في ظل عصور الاستقلال زمن الفاطميين والمماليك، رغم أهمية هذه القناة لمصر.
 كنت دائما أتساءل: لقد كانت بقايا خليج أمير المؤمنين لا تزال موجودة ومعروفة لدى الناس باسم الخليج الحاكمي، وتاريخ الخليج وفكرته معروفة ـ على الأقل ـ لدى النخبة المحيطة بالسلطة، كما نستنتج من رواية المقريزي، فلماذا لم تقم مصر المملوكية عندما واجهت الأخطار الناجمة عن كشوف الأسبان والبرتغاليين البحرية، والتي كانت معروفة أيضًا لدولة المماليك كما يتبين ذلك من قراءة ابن إياس المصري مؤرخ عصر سقوط دولة المماليك، بالتفكير في مشروع لإعادة شق خليج أمير المؤمنين لتربط طرق التجارة بين الشرق والغرب، ولتحبط مشروعات البرتغاليين والأسبان؟
 ولماذا لم تفكر جمهورية البندقية الحليف التجاري ـ القوي حتى ذلك الوقت ـ في ذلك المشروع؟
 إن المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الفترة سواء المصرية منها أو الإيطالية تشير إلى سعي جمهورية البندقية لمواجهة منافسة دول جنوب غرب أوروبا من خلال شرح الموقف الصعب الذي تتعرض له المصالح المشتركة للطرفين بسبب نجاح البرتغاليون والأسبان في الوصول إلى الهند والشرق الأقصى، والضغط على سلطنة المماليك في مصر لتخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على التجارة التي تمر عبر الموانئ المصرية، ومناشدتهم التخفيف من العوائق التي يواجهها تجار البندقية في مصر، تلك العوائق الناتجة عن الفساد والبيروقراطية، كذلك طالب البنادقة من سلطان مصر مخاطبة حكام الهند المسلمين ومناشدتهم عدم التعامل مع البرتغاليون والأسبان، وشرح مخاطر هذا التعامل على مستقبل الهند، وكنت أتصور دائمًا أن أيًا من المصريين أو البنادقة لم يفكر في الحل الحاسم المتمثل في إعادة استكمال شق القناة الواصلة بين النيل والبحر الأحمر ليتصل بذلك الطريق مباشرة بين موانئ إيطاليا والهند عبر مصر، ويفقد بذلك كشف فاسكو دا جاما لطريق رأس الرجاء الصالح قيمته وأهميته.
 هل عجز المماليك والبنادقة عن الإمساك باللحظة التاريخية، ولم يفكروا في مواجهة الأخطار المحيطة بهما بأكثر الطرق مباشرة، بمشروع "ثوري" لربط البحرين الأبيض والأحمر، في أعلى لحظة احتياج لهذا المشروع؟
ظل هذا السؤال يلح عليّ لماذا لم يفعلوها أو حتى يفكروا فيها؟ إلى أن روى لي الصديق الدكتور أحمد يوسف المهتم بتاريخ القناة قصة اكتشاف لوحة تثبت أن البنادقة عرضوا على السلطان الغوري فكرة شق قناة تربط البحرين الأحمر والمتوسط.
 
 
 وكتب مقالًا في صفحة تراث وتاريخ بجريدة الشروق، يقول أحمد يوسف في هذا المقال: "في سبتمبر عام 2000 طلبت إدارة شركة السويس الفرنسية العالمية ـ ثالث أكبر شركة في صناعة الكهرباء والطاقة النووية في العالم، وهي شركة حفيدة للشركة العالمية لقناة السويس البحرية التي أممها جمال عبد الناصر في 26 يوليو 1956 ـ مني ومن آخرين إبداء الرأي في لوحة ثمينة تعرضها شركة سوسبي العالمية للمزادات في لندن، تعود اللوحة لعام 1869 لفنان إيطالي اسمه جولين كالين 1830 ـ 1887، وكانت المفاجأة ان اللوحة تمثل تجارًا أو سفراء من فينسيا يقدمون لسلطان مصر خريطة توضح بعناية أن الإيطاليين يعرضون على مصر مشروعًا لربط البحر الابيض بالبحر الأحمر.
 
 
فمن أين أتي كابلين بهذه الفكرة للوحاته التي رسمها ولا شك بمناسبة احتفالات افتتاح قناة السويس في نوفمبر 1869؟
 تروي الوثائق الفينيسية أن مصر أرسلت بعثة استطلاعية الى فينسيا 1506/1507 مكونة من 20 شخصية في مجالات العلم والتجارة والسياسة، وهو ما يروية السفير مارينز سانود ومن المؤكد أن مشروع تحديث النقل البحري والبري عبر المتوسط ثم السويس على البحر الأحمر تم تداوله في هذه الزيارة، فقد أرسلت البندقية واحدا من سفرائها الأسطوريين إلى مصر وهو دومينيكو تريفيزانو عام 1512 لمقابلة السلطان الغوري وبحث مشروع حفر قناة تربط البحرين الأحمر بالتوسط وهو ما يرويه تريفيزانو في مذكراته التي خصصها لرحلته في مصر والموجودة بالمكتبة الوطنية في باريس. 
 يبدو اذا ان الفنانين المصورين لديهم حاسة تاريخية حادة وهو ما جعل جوليو كارلين يرسم هذه اللوحة المرفقة ويمكن للقارئ أن يتخيل المذكرة التي رفعتها لشركة السويس طالبًا أن تشتري اللوحة بأي ثمن وهي اللوحة التي يجدها الزائر للمقر التاريخي لشركة السويس في قلب باريس اليوم."
 إلى هنا ينتهي كلام الدكتور أحمد يوسف.
 
 السلطان الغوري يستقبل سفراء البندقية
وأطرح هنا سؤالي، ماذا لو فعلها المصريون والبنادقة يومها؟
 لقد قال لي أساتذتي الذين علموني دراسة التاريخ دومًا: إن مثل هذه الأسئلة غير واردة في دراسة التاريخ، فالتاريخ بمفهومه التقليدي لا يعرف سؤال ماذا لو كان؟ التاريخ دراسة ما كان بالفعل فقط، وليس دراسة ما كان يمكن أن يحدث!
 لكن لعبة السيناريوهات الوهمية والأسئلة الافتراضية في التاريخ لعبة ممتعة، لا أستطيع مقاومتها.
 لنفكر معا لماذا لم يقم المماليك والبنادقة بمثل هذا المشروع؟
ربما كان ذلك بسبب الغزو العثماني للشام ومصر الذي أنهى دولة المماليك تمامًا بعد أقل من خمس سنوات على طرح الفكرة، لكن الحقيقة أن السنوات الخمس لم تشهد أي شروع جدي في تنفيذ الفكرة وتحويلها إلى واقع.
 أو ربما يرجع إلى الأزمة السكانية التي كانت تعيشها مصر، فقد فقدت البلاد أكثر من نصف سكانها في سلسلة من الأوبئة والمجاعات منذ الفناء الكبير في أواخر عصر دولة المماليك البحرية لم تعد هناك أيدي عاملة تكفي لزراعة الأرض، فما بالنا بحفر قناة مات في حفرها بعد أربعة قرون عشرات الآلاف، وربما يرجع إلى ضعف الإمكانيات المالية للدولة، وربما يرجع إلى أن الدولة كانت تعيش أزمة النهاية التي فقدت فيها طاقاتها الإبداعية ومثل هذا المشروع كان يحتاج لعقلية مغامرة لا تمتلكها دولة شاخت وهرمت، وما ينطبق على دولة المماليك ربما ينطبق بدرجة أو بأخرى على جمهورية البندقية، التي سرعان ما زال مجدها بعد سقوط دولة المماليك بفترة ليست بالكبيرة.
 لنطلق لخيالنا العنان ونتصور مصير العالم لو أنهم فعلوا ذلك، حقا لو فعلوها لتغير تاريخ مصر والمنطقة العربية بل وربما  تاريخ العالم! لكن التاريخ لا يعرف كلمة لو، التي "تفتح عمل الشيطان" حسب المأثور الديني، والتي هي "حرف شعلقه في الجو" حسب المأثور الشعبي.
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...