محمود بقشيش والبحث عن ملامح قومية للفن
التشكيلي المصري
عماد أبو غازي
ينتمي محمود بقشيش إلى
ذلك الجيل الذي يوصف بأنه جيل الستينيات؛ الجيل الذي بدأ مسيرته الإبداعية
والفكرية والسياسية حول منتصف عقد الستينات، وقدم أبناء ذلك الجيل إسهامًا جديدًا
ومختلفًا في الحياة الثقافية المصرية متأثرًا بالتحولات التي كانت تعيشها مصر في
تلك الفترة؛ وقد ارتبط كثير من هؤلاء بأفكار اليسار بمعناه الواسع، وانشغلوا
بقضايا العدالة الاجتماعية وبالهم الوطني العام.
ولد بقشيش في
عام 1938؛ أي أنه عاش طفولته وصباه وسنوات تكوينه الأولى في
المرحلة الأخيرة من الحقبة شبه الليبرالية في تاريخنا، وتخرج في قسم التصوير بكلية
الفنون الجميلة عام 1963، ومن وقتها حتى رحيله عنا في عام 2001، كان مشاركًا
بغزارة في الحركة الفنية التشكيلية المصرية، سواء من خلال معارضه الخاصة التي تصل
إلى عشر معارض، أو مشاركته بأعماله في عشرات المعارض الجماعية المحلية والدولية،
ومع استمرار العطاء الفني على مدى أربعة عقود يظل انتماؤه إلى جيل الستينيات؛ فقد
كان واحدًا من المبدعين الذين انطلقت مسيرتهم في ذلك العقد، وكانت همومه
وانشغالاته هي هموم وانشغالات أقرانه من مثقفي جيله؛ الهم الوطني والاجتماعي
والاهتمام بالشأن الثقافي العام.
لا تكمن أهمية محمود
بقشيش في إبداعه كفنان تشكيلي؛ رغم القيمة الفنية العالية لإبداعه، والعلامة التي
تركها في الحركة التشكيلية المصرية بشهادة أبرز نقاد العصر من مجايليه ومن الأجيال
السابقة عليه والتالية له، من أمثال حسين بيكار ونعيم عطية وكمال جويلي وعز الدين
نجيب وصبحي الشاروني ومختار العطار ومجدي يوسف وفاروق وهبة وسيد خميس ورضا عبد
السلام وشاكر عبد الحميد ومحمد كشيك وغيرهم كثيرين ممن شهدوا بقامته وقيمته؛ أقول
لا تكمن أهميته في إبداعه التشكيلي فقط، فلم يكن محمود بقشيش فنانًا تشكيليًا فحسب؛
بل كان أيضًا كاتبًا وناقدًا، وقبل ذلك وبعده مثقفًا فاعلًا ومتفاعلًا مع قضايا
الثقافة وهمومها، مع مشكلات الوطن ومشاغل الناس؛ شارك في العمل النقابي والعمل
الأهلي، وأسهم في اثنتين من أهم الإصدارات الثقافية التي كانت تعبر عن رؤى مغايرة
لما كان سائدًا، فقد كان عضوًا في هيئة تحرير مجلة سنابل، كما أصدر بجهده الفردي كراسة إبداعية حملت عنوان آفاق 1979، في سياق
موجة الكتب والنشرات غير الدورية التي تصاعدت في أواخر السبعينيات ومطلع
الثمانينيات، وشكلت تجربة مهمة في بناء منابر ثقافية مستقلة، لقد كان بقشيش مثقفًا
منحازًا لقيم التقدم والعدل والحرية، مهموما بالإسهام في تكوين الوعي الجمعي؛
وبالنسبة للكثيرين من أبناء جيلي، جيل السبعينيات فقد كان محمود بقشيش واحدًا من
النماذج الملهمة في الحركة الثقافية التي تعلمنا منها، من إبداعه وكتاباته ومواقفه
وتجربته الثقافية، أما أنا فقد كان لي فرصة التعرف عليه عن قرب منذ مطلع
الثمانينيات، والاستماع إليه والتعلم من تجربته والحوار مع أفكاره.
***
وسوف يكون مدخلي
للحديث عن بقشيش من خلال إسهامه النقدي؛ الذي تمثل في عشرات المقالات النقدية في
مجلات الهلال وإبداع وأدب ونقد والثقافة الجديدة والموقف العربي والقاهرة؛ هذا غير
خمسة كتب صدرت في حياته، وأخرى صدرت بعد غيابه قامت على جمع مادتها ومتابعة
إصدارها رفيقة دربه الكاتبة هدى يونس.
وقد اخترت الاشتباك مع
كتابه "البحث عن ملامح قومية"، الذي صدر في
سلسلة كتاب الهلال في فبراير 1989؛ فالكتاب من أكثر
أعماله قربًا إلى نفسي، كما أن القضية التي يطرحها فيه؛ قضية الملامح القومية للفن
من القضايا الشاغلة للحياة الثقافية المصرية مما يقارب قرن من الزمان، وما زالت
قضية حاضرة مفتوحة؛ وزاوية تناول بقشيش لها في هذا الكتاب وأسلوب تناوله مثير
للتفكير والتأمل.
لقد شهد القرن التاسع
عشر احتكاك مصر بالفنون الغربية الحديثة من خلال الفنانين الأوروبيين الذين
استقدمهم حكام مصر من أسرة محمد علي لعمل التماثيل الشخصية واللوحات لأفراد الأسرة الحاكمة؛ ثم
لعمل تماثيل الميادين والحدائق العامة في عصر الخديوي إسماعيل، وشكل هذا الاحتكاك
قطيعة مع الأشكال الفنية التقليدية التي كان أغلبها قد انحسر في الفنون الشعبية
والفن الديني؛ وعندما نشأت مدرسة الفنون الجميلة عام 1908 قامت على غرار
المدارس المماثلة في أوروبا، وعرّفت طلابها على الفن الغربي وأساليبه ومدارسه
الكلاسيكية والحديثة؛ ثم ظهرت إشكالية الملامح القومية للفن التشكيلي في مصر، أو
الطابع القومي للفنون بعد سنوات قليلة من افتتاح المدرسة؛ وبالتحديد في أعقاب ثورة
1919 التي رسخت
فكرة الهوية القومية المصرية بشكل واضح، ومن هنا بدء النقاش حول الفن القومي؛
وربما كان تمثال نهضة مصر؛ منحوتة مختار التي عبر بها عن الثورة فاتحة لهذا
النقاش، والذي انعكس في تطور تفاصيل التمثال، والفارق الواضح بينه في صورته الأولى
كما عرض في صالون باريس وشكله النهائي في ميدان باب الحديد.
وكان النقاش يتجدد بين حين وآخر في مراحل مختلفة من
مسيرة الحركة التشكيلية في مصر؛ وإذا كانت جماعة الخيال التي تأسست في عشرينيات
القرن العشرين تعبر عن اتجاهات جيل الرواد الفنية خاصة الاتجاه القومي في الفن،
بما حمله من محاولة للتجديد في المجتمع المصري بإعادة بعث الفنون الجميلة كمكون
أساسي في ثقافة النخبة، ومحاولة تقديم الفن الحديث للمجتمع كله، وتحقيق التفاعل
بين الفنون والآداب، وفي هذا
الإطار غلبت النزعة القومية على الفنون الجميلة في مصر، وكان مختار أبرز تجلياتها،
في المقابل نجد أن الجماعات الفنية والأدبية التي ظهرت في الثلاثينات ومطلع
الأربعينيات كانت تعبيرًا عن تمرد جيل جديد من المبدعين على الجيل السابق عليهم ويظهر مع الحركة
السوريالية المصرية منذ الثلاثينيات جدلًا فنيًا وفكريًا مع هذه النزعة القومية
ونقدًا ونقضًا للاتجاه القومي في الفن؛ لكن بعد وصول الضباط الأحرار إلى السلطة في
عام 1952، تصعد مرة
أخرى النزعة القومية في الفنون وتأخذ أبعادًا جديدة مع التوجه القومي العربي
للنظام.
والمتابع
للكتابات النقدية منذ عشرينيات القرن الماضي يستطيع أن يرصد بوضوح هذا النقاش
المتجدد بين حين وآخر حول النزعة القومية في الفن التشكيلي، والتي ارتبط تطورها
بالحوار حول الهوية والانتماء في المجتمع المصري؛ ولم يقتصر الحوار حول الفن
القومي على كتابات النقاد، بل خصصت له لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى
لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية مؤتمرًا كبيرًا تحت عنوان "الطابع القومي
للفنون التشكيلية" في نهاية عقد السبعينيات، لمناقشة القضية بأبعادها
المختلفة.
***
بعد هذا
الاستطراد أعود إلى محمود بقشيش وكتابه المهم "البحث عن
ملامح قومية – رحلة في أعمال 14 فنانًا مصريًا"؛ لقد حاول
بقشيش أن يناقش إشكالية الملامح القومية في الإبداع التشكيلي من خلال الاشتباك مع
أعمال مجموعة من الفنانين التشكيلين المصريين بأسلوب الناقد التشكيلي الفنان
والأديب في آن واحد، وقد رأى أنهم جميعًا "يشغلهم،
بدرجات متفاوتة، أن يكون للفن التشكيلي ملامحه الخاصة".
وقد حرص في
اختيار الفنانين "أن يكونوا مختلفين في أساليبهم الفنية متباينين في
المستوى ودرجة الانتماء إلى وعي الستينيات"؛ ذلك الوعي
الذي أظن أن بقشيش كان ينتمي إليه أيضًا بطريقته الخاصة وأسلوبه في التشكيل
والنقد، ويشير في مقدمته إلى أنه أراد بهذا الاختيار التأكيد على "وجود مدرسة
مصرية مقاومة في الفن التشكيلي تتنفس داخلها عديد من التيارات والأساليب الفنية
المتباينة والمتناقضة أيضًا"؛ ويستطرد قائلًا: "كما أردت أن
أثبت بهذه النماذج من النقد التطبيقي بطلان ادعاء البعض اختفاء أو تراجع النقد
التشكيلي في مصر"؛ وقد نجح بالفعل في تحقيق الهدفين.
ويضع بقشيش
النموذج القومي في مواجهة النموذج الغربي، ويؤكد على أن السعي لابتكار ملامح
متفردة بعيدة عن استنساخ النموذج الغربي قد شغل العديد من الفنانين المصريين منذ
بداية الحركة التشكيلية الحديثة؛ مؤكدًا أن كل جيل من أجيال الحركة الفنية
التشكيلية أسهم بدرجة أو بأخرى في ابتكار ابداعات تجسد موقفه من النموذج القومي
والنموذج الغربي.
ويناقش في
لمحة ذكية الاختلافات في ابتكار النموذج القومي بين محاولات ثلاثة من جيل الرواد؛
فيقول: "فإذا تأملنا إبداعات محمود مختار وراغب عياد
ويوسف كامل فإننا نجد اختلافًا أسلوبيًا واضحًا؛ ورغم ذلك فكل منهم يسعى بطريقته
إلى تمصير النموذج الغربي؛ فلجأ مختار إلى استعارة القناع الفرعوني، وأضاف عياد
إلى القناع الفرعوني قناع الأيقونة القبطية، وانغمس كامل في مصرية التعبير عبر
الأسلوب التأثيري الذي اعتنقه حتى النهاية."
لقد وضع بقشيش
كتابه في أربعة عشر فصلًا بعد المقدمة وأنهاه بخلاصة قصيرة موجزة؛ تناول في كل فصل
فنانًا واحدًا، ووضع لكل فصل عنوانًا يلخص رؤيته لإبداع هذا الفنان؛ تتوالى عناوين
الفصول بدأ بالفصل الأول، الفنان: صبري منصور... وذكريات
القرية؛ إنجي أفلاطون... والبحث عن الجذور؛ البهجوري... ووجوه الفيوم؛
عز الدين نجيب... بين الفن المستوي وفن التأثير؛ محمد حجي... والخيارات
الثلاث؛ عالم الفنان ممدوح عمار؛ سيد سعد الدين والتصوير النحتي؛ علي دسوقي والفن
البريء؛ محسن شرارة والتجريب في الفن؛ محمد رزق عاشق المطروقات النحاسية؛ صبري
ناشد راهب النحت الخشبي؛ غالب خاطر وفن الاحتجاج؛ مفردات عالم نوار الرمزي؛ وفي كل
فصل يقدم سيرة للفنان يحاول أن يرصد فيها تأثيرات النشأة والتكوين على أعماله،
ويتتبع مسيرته الإبداعية، وقد يتفاعل مع الفنان مباشرة مثلما فعل عند الكتابة عن
صبري منصور، ثم يتجه لتحليل الأعمال والبحث عن ملامح النموذج القومي فيها، ويجد
لدى كل واحد منهم محاولة جادة للبحث عن طريق لتقديم فن له ملامح قومية، سواء أكانت
تلك الملامح ملامح في الشكل أو ملامح في المحتوى؛ فقد يسعى فنان إلى استلهام أشكال
وأساليب فنية أو "تيمات" تعكس ملمحًا قوميًا؛
بينما يذهب آخرون إلى استلهام الموضوع أو المحتوى؛ ونجح في أن يقدم بسلاسة ثلاث
عشرة تجربة مختلفة في منابعها ومتنوعة في مساراتها والمئال الذي انتهت إليه؛ ويكشف
الرابط الذي يجمع بينها؛ البحث عن ملامح قومية.
ثم يأتي الفصل الأخير يحمل
عنوان الكتاب: البحث عن ملامح قومية؛ وقد يتصور القارئ للوهلة الأولى
أن الفصل الأخير استخلاص لرؤية الناقد الفنان لتجارب مجايليه ومعاصريه من
التشكيليين في بحثهم عن ملامح قومية للفن التشكيلي المصري؛ لكن حقيقة الأمر أن
الفصل الأخير مخصص للفنان الرابع عشر، أو بمعنى أدق لعمل واحد من أعماله؛ الفصل
الأخير يدور حول عبد الهادي الوشاحي وتمثاله البديع استشراف؛ لقد اختلف منهج بقشيش
في هذا الفصل عن منهجه في باقي فصول كتابه؛ وقدم فيه تحليلًا عبقريًا لتمثال
الوشاحي استشراف ؛ تلك القطعة النحتية التي سيطرت على الفراغ في قاعة العرض في
بينالي القاهرة الثاني عام 1986؛ أي قبل صدور الكتاب بثلاثة
أعوام، ويحتل أيضًا فراغ غلاف هذا الكتاب الذي صممه الفنان محمد
أبو طالب؛ وكانت قوة عمل الوشاحي وروعته حاضرة في الساحة الفنية عندما ألف بقشيش
كتابه؛ لقد قدم في هذا الفصل دراسة مقارنة بين استشراف الوشاحي وثلاثة أعمال فنية
أخرى: تمثال نصر ساموتراس الإغريقي، وتمثال مدينة بلا قلب
للنحات الروسي الأصل أوسيب زادركن، وتمثال الخماسين لمختار؛ وفي مناقشة عميقة
لأبعاد الأعمال الأربعة تستغرق عشر من صفحات الكتاب يبحث بقشيش عن الملامح القومية
في تجربة الوشاحي مقارنة بتجربة مختار ومتجاوزة لها.
وينتهي محمود
بقشيش في خلاصة بحثه المركزة عن الملامح القومية في الفن التشكيلي المصري إلى ثلاث
نتائج:
الأولى؛ الموقف
الحرج الذي وجد الفنان المصري المعاصر نفسه فيه بسبب انقطاع السياق الثقافي مع
الكلاسيكية المصرية الفنية للظروف التاريخية التي مرت بها مصر ومحيطها الإقليمي
والتي شهدت سلسلة طويلة من الانقطاعات.
الثانية؛ تنوع
المدارس الفنية المصرية الكلاسيكية، أو الوجوه الفنية ما بين فرعونية وقبطية
وإسلامية، وما بينها من تفاوت أسلوبي ومنهجي؛ وصعوبة الاستعارة منها جميعًا أو من
أحدها استعارة كاملة، واتجاه البعض نحو الاستعارات المجتزئة لأسباب نفعية في عصر
ثقافة البترودولار، مثل استعارة الزخارف الإسلامية والحرف العربي.
والثالثة؛ إن
الحل أمام الفنان المعاصر، من وجهة نظر بقشيش، "استلهام جوهر
الكلاسيكية المصرية، باعتبارها النبع الأم الذي أضفى على المدرسة القبطية
والإسلامية بعضًا من ملامحه، وهذا المشترك هو الميل إلى البناء والاحتفال بالنقاء
الخطي واختزال الزخرفة والتمسك ب "التابو" الذي يحول دون
حوشية التعبير الأخلاقي".
ويختم كتابه
بعبارة تلخص منهجه الذي رأى في العمل النحتي لعبد الهادي الوشاحي تحقيقًا له في
الواقع، تحقيقًا للمعادلة الصعبة: "كيف يلتقط الفنان هذا
المشترك الدائم المتصل وأن يستنطقه لغة معاصرة".
إن هذا الكتاب
الصغير في حجمه الكبير في قيمته يستحق أن يعاد نشره والنقاش حوله؛ فالقضية لم تغلق
بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق