الأحد، 13 يناير 2019

13 يناير 1919 خطاب سعد الأول في الثورة


13 يناير 1919
خطاب سعد الأول في الثورة
عماد أبو غازي

 أثناء عملي في تحقيق مذكرات النفي التي كتبها مصطفى النحاس في سنوات النفي إلى سيشيل؛ بين عامي 1921 و1923؛ صادفت في حوادث يوم 11 يناير سنة 1923 النص التالي:
 "وأرسلنا تلغرافًا بتاريخ الغد إلى زغلول باشا بإمضاءاتنا جميعًا؛ هذا بمناسبة تصريحكم التاريخي في 13 يناير؛ نرسل لرئيسنا العظيم تمنياتنا القلبية بمستقبل سعيد، إجلال للحرم.
أرسلنا هذا التلغراف بمناسبة الاجتماع العظيم الذي حصل بدار حمد باشا الباسل في 13 يناير سنة 1919، وفيه أعلن سعد أن مصر مستقلة قانونًا، ولم يبق إلا السعي لدى الدول للاعتراف بهذا الاستقلال، وإن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، كأنه إقليم من أقاليمها، وإن حقوق الأجانب مرعية محتفظ بها، وإننا بعيدون عن مناوأة عائلة محمد علي كما أشاعه المرجفون، متمسكون بأن تكون مصر دولة مستقلة على رأسها عائلة محمد علي مصلح مصر العظيم."


 وفي حوادث يوم 15 يناير يقول النحاس:
 "ورد من سعد باشا الرد الآتي من جبل طارق بتاريخ 13 يناير الساعة 9:30 صباحًا، وصل في تاريخه مساءً:
 "مكرم – مصطفى – عاطف – سينوت – فتح الله – ماهي – سيشيل
 كان تلغرافكم مفاجأة لطيفة لي ولحرمي، وأثر فينا تأثيرًا أسال عبراتنا، إذ ذاكرتكم أحسن فنهنئكم بها، ونشكركم بقلوبنا على التفاتكم الرقيق.
زغلول."


 ويوم 13 يناير سنة 1919 أحد الأيام المهمة والفاصلة في تاريخ الثورة المصرية، فقد تطورت الأمور بسرعة خلال شهر يناير 1919 لتشق طريق الثورة، كان يوم 18 يناير الموعد المحدد لافتتاح مؤتمر الصلح في باريس يقترب، ولا توجد بشائر لحل أزمة سفر الوفد المصري إلى الخارج، سواء إلى لندن للتفاوض مع الحكومة البريطانية، أو إلى باريس لعرض القضية المصرية أمام المؤتمر الذي كان يفترض أن يرسم خريطة العالم ما بعد الحرب، بات واضحًا أن رسائل الوفد لم تجد نفعًا، لا رسائله إلى المعتمد البريطاني في القاهرة، ولا تلك التي أرسلها سعد إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء البريطاني، كذلك لم يحرك سفراء الدول الأجنبية في القاهرة الذين خاطبهم الوفد ساكنًا، إذاً لا أمل في مساندة خارجية للقضية المصرية دون حركة الشعب، هذا ما أدركه سعد ورجال الوفد.
 بدأ الوفد المصري أسلوبًا جديدًا في التحرك، الاتجاه إلى الداخل من أجل الضغط على الخارج، كان حشد الجماهير قد بدأ بالفعل منذ اليوم الأول لتشكيل الوفد من خلال حركة جمع التوكيلات التي قدمت نموذجًا في النضال الوطني السلمي القانوني والسياسي، فعلى الصعيد القانوني أعطى التوكيل مشروعية للوفد في تمثيل الأمة، وعلى الصعيد السياسي وفرت حركة جامعي التوقيعات فرصة أمام أنصار الوفد للاتصال بالجماهير وشرح القضية، ومن ناحية أخرى كان التوكيل بمثابة عقد التزام بين الوفد وجماهير الشعب ظل يشكل قيدًا على كل محاولة للتفريط في حقوق الأمة في المفاوضات السياسية مع بريطانيا، كانت حركة جمع التوكيلات قد مهدت الأرض أمام دعوة الوفد، لكن عدم الترخيص للوفد بالسفر كان يحتم على قادته التحرك بشكل أوسع بين الشعب.
 ولما كانت الأحكام العرفية مطبقة، ويحول تطبيقها بين الوفد وتنظيم اجتماعات جماهيرية، فقد اتبع قادة الوفد خطة بديلة تقوم على تنظيم لقاءات واسعة في منازلهم، وكانت البداية بدعوة من حمد باشا الباسل لاجتماع في منزله القريب من بيت الأمة يوم 13 يناير 1919، وحضر الاجتماع عدد كبير من الساسة والكتاب وأعضاء الهيئات النيابية والأعيان، وألقى سعد زغلول أول خطاب "جماهيري" له بعد تشكيل الوفد المصري، وقد صادف الاجتماع مرور شهرين على الزيارة التاريخية التي قام به سعد ورفيقيه لدار المعتمد البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918، والتي كانت نقطة البداية لأكبر ثورة شعبية في تاريخ مصر الحديث.


 وفي خطابه أكد سعد على أن المطالبة بالاستقلال ليست جديدة على المصريين، فقد بدأت عقب الاحتلال مباشرة، وروى قصة تشكيل الوفد ومنعه من السفر، وتحدث عن مؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس الأمريكي ولسن، ثم شرح مطالب الوفد في الاستقلال التام، وأكد أن هذا الاستقلال يشمل السودان كما يشمل مصر باعتبارهما من وجهة نظر الوفد كيان واحد، وتحدث بإسهاب عن الأجانب في مصر في محاولة جديدة لطمأنتهم، وأشار إلى حاجة مصر لوجود الأجانب وإلى أهمية استمرار الامتيازات كمرحلة انتقالية، وأكد أن الامتيازات لا تتنافى مع الاستقلال، وختم خطابه باقتراح إرسال برقية إلى الرئيس الأمريكي باسم المجتمعين يحيونه فيها ويعلنون تأييدهم لمبادئه، ولم يكتف سعد بإلقاء خطابه في حشد واسع، بل قام الوفد بطبع الخطاب وتوزيعه على أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم.
 الطريف في الأمر أن الصحف الخاضعة للرقابة لم تشر إلى خطاب سعد، ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 أن ما أوردته صحيفة الأهرام في عدد 14 يناير كان "نبذة عابرة لا يفهم منها شيء"، قالت الأهرام في خبرها الذي أنقله بنصه من كتاب الرافعي: "دعا أمس حمد الباسل باشا العضو في الجمعية التشريعية جماعة كبيرة من أعيان العاصمة والأقاليم إلى تناول الشاي في منزله بشارع الداخلية، فلبى دعوته نحو 159 ذاتا ووجيها وأديبا، وضرب في حديقة داره الواسعة سرادقا جميلا نسقت فيه الكراسي والمقاعد والأخونة على أجمل طراز، ثم قدمت الحلوى وأطايب المآكل للحاضرين مع الشاي والقهوة، فقضوا جميعا من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة بأطيب الأحاديث، ثم انصرفوا رويدا رويدا وجماعات جماعات، وهم يتحدثون بفخامة هذا الاجتماع وبفضل الداعي وكرمه، وكان سعادته وشقيقه وأله يقابلون المدعوين بما فطروا عليه من اللطف والكرم العربي، ويمتعون أسماعهم مع أصدقائهم وصحبهم بما يشنفها، وتمنى الكل لو كثر مثل هذا الاجتماع الكبير". هذا بعض ما تفعله الرقابة بالصحف!
 كان هذا الخطاب أول خطاب سياسي يلقيه سعد زغلول في أثناء الثورة المصرية التي بدأت أحداثها الفعلية يوم 13 نوفمبر 1918 وانتهت بتولي حكومة الوفد في يناير 1924.
 استمرت الأمور في تصاعدها وقدم رشدي باشا رئيس الوزراء استقالته تضامنا مع الوفد واحتجاجا على منع الوفد الرسمي والوفد الشعبي من السفر، لكن السلطان فؤاد رفضها، وقامت بريطانيا باستدعاء مندوبها السامي السير ونجت إلى لندن للتشاور معه في أحوال البلاد، فغادر مصر عن طريق بور سعيد يوم 21 يناير.
 فكر سعد في تكرار تجربة اجتماع دار الباسل باشا، فدعا إلى اجتماع في بيت الأمة يوم 31 يناير 1919، لكن السلطات البريطانية قررت منع الاجتماع، وبالفعل أرسل الميـﭼور ﭼنرال واطسن قائد القوات البريطانية خطابًا إلى سعد باشا قبل الاجتماع بأربعة أيام يطلب منه إلغاء الدعوة، وقد نشر عبد الرحمن الرافعي نص الخطاب الذي يقول فيه واطسن:
 "علمت أن سعادتكم تعدون اجتماعا في منزلكم بمصر في 31 الجاري يحضره نحو الستمائة أو السبعمائة شخص، وإني أرى إن مثل هذا الاجتماع قد يحدث منه إقلاق للأمن، فبناء على هذا الإعلان الصادر تحت الأحكام العرفية المعلنة بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1914، أرجو أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع".
 وأرسل سعد اعتذارًا إلى المدعوين يبلغهم فيه أن الاجتماع ألغي بأمر السلطة العسكرية، وفي نفس الوقت أرسل الوفد برقيتي احتجاج إلى رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي، وأعقبهما ببرقية إلى ﭼورﭺ كليمنصو رئيس وزراء فرنسا الذي كان رئيسًا لمؤتمر الصلح للمطالبة بضرورة عرض القضية المصرية على المؤتمر.
 وهكذا سدت السلطات العسكرية البريطانية منفذ الاجتماعات الحاشدة في المنازل فماذا فعل الوفد؟
قرر الوفد وزعيمه سعد ألا يفوت فرصة لمهاجمة الاحتلال والدعاية لقضية الاستقلال إلا ويستغلها أفضل استغلال، خصوصا بعد أن صادرت السلطات العسكرية البريطانية حق الوفد ورجاله في الاجتماع بمنازلهم.
 وجاءت الفرصة على طبق من ذهب بمناسبة مناقشة مشروع قانون العقوبات الجديد الذي كانت سلطات الحماية البريطانية في مصر تعد لإصداره ضمن سلسلة من التعديلات التشريعية التي ترسخ سلطة الاحتلال في مصر وتجعل من نظامها القانوني نظاما تابعا، بما في ذلك إصدار قانون أساسي (دستور) جديد. وهي التعديلات المعروفة بقوانين برونيت نسبة إلى السير وليم برونيت مستشار دار الحماية البريطانية في مصر، وكان المستشارون الإنجليز يروجون لهذه التعديلات التشريعية ويقومون بالدعاية لها في الأوساط القانونية والتشريعية المصرية. وفي هذا السياق دعت الجمعية السلطانية للاقتصاد السياسي والتشريع والأحصاء لاجتماع في مقرها يوم 7 فبراير سنة 1919 لسماع المحاضرة مستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، وكان بريسفال قد ألقى محاضرة في نفس الموضوع يوم 17 يناير، وتلك كانت محاضرته الثانية في نفس الموضوع.


 ذهب سعد وعدد كبير من أعضاء الوفد المصري لحضور الاجتماع ضمن حشد ضخم من رجال السياسة والقانون من بينهم عبد الخالق باشا ثروت وزير الحقانية، وبعد أن انتهى بريسفال من محاضرته التي ألقها بالفرنسية، اعتلى سعد منصة الخطابة وأعلن أن لديه ملاحظات على المحاضرة وعلى مشروع القانون، وتحدث بالعربية موضحا أن بريسفال يعرف العربية، لكن الحقيقة أن سعد لم يكن يقصد برسفال بحديثه، إنما كان هدفه جمهور الحضور وعبرهم كل أبناء الشعب المصري، كما أن نقد مشروع القانون الجديد لم يكن هدف سعد الأساسي من الحضور والتعليق بل طرح قضية الاستقلال من خلال مناقشة هذا القانون، إنه أسلوب في النضال السياسي يتبعه المناضلون عندما تضييق عليهم السلطات سبل التعبير عن آرائهم، ابتدعه سعد وسار على خطاه أجيال وأجيال من بعده.
 استهل سعد كلمته قائلا: "أيها السادة، إني أشكر المحاضر على ما قاله من أنه يريد أن يكون لمصر في المستقبل شرع خاص، ولكني أقول لحضرته إن هذا الشرع موجود فعلا منذ أمد بعيد، إن أمتنا المصرية ليست من قبيل الأقوام الهمج الذين ليست لهم شرائع مقررة، إنما بلد كبلدنا تكون له حياة عريقة في القوانين والشرائع فإن من الخطر أن يعمد إلى تغيير كلي في شرعه بدون أن تدعو الضرورة لذلك أو تهدي إليه التجربة والاختبار، إن قانون العقوبات المصري المأخوذ عن القانون الفرنسي جرى عليه العمل منذ زمن طويل، فهو جزء من محصولنا القانوني تشربته أفئدة قضاتنا ومحامينا، وسرى في أخلاق الأمة سير الدم في الجسد..."
 وانطلق سعد بذكاء شديد من المناقشة القانونية إلى المناقشة السياسية، فانتقد استخدام الجمعية العلمية وسيلة للترويج لقبول الأمة بهذا التشريع وتمريره دون عرضه على الجمعية التشريعية، ثم انتقل إلى مهاجمة القانون لأنه يستند في مواده على حالة الحماية، وقال عن الحماية إنها: "حالة سياسية لا وجود لها الآن بمصر"... واستطرد قائلا: "إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة 1840، واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى، وعبثا يحاولون الاعتماد على ما حصل من تغيير هذا النظام السياسي أثناء الحرب، إنكم أيها السادة تعلمون وكل علماء القانون الدولي يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب أحداهما أن تكون تحت رعاية الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل، ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلا".
 وأكد على أن الحماية التي أعلنتها بريطانيا من جانب واحد سنة 1914 باطلة لا وجود لها قانونا، وإنها كانت ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها...
 وقد قضت كلمة سعد على مشروع برونيت تمامًا.
 واستقبلت الكلمة استقبالًا حماسيًا من الحاضرين، وسرعان ما ذاع خبرها وانتشر نصها بين المصريين، وأصبحت حديث الأمة، رغم تجاهل الصحف لها بسبب الرقابة والأحكام العرفية، لدرجة أن جريدة وادي النيل التي كانت تصدر في الإسكندرية أشارت إلى الموضوع في خبر مقتضب بعنوان: "في جمعية الاقتصاد والتشريع" جاء فيه: "ألقى المستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية بعد ظهر الجمعة الماضية بقية محاضرته الخاصة بالتشريع المصري الجديد في جمعية الاقتصاد والتشريع، وبعد أن انتهى من إلقائه وقف أحد السامعين وبسط بعض ملاحظات ثم انفض الاجتماع".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...