الأحد، 6 يناير 2019

سعد والثورة


مقالي في مجلة ديوان عدد يناير 2019
سعد والثورة
عماد أبو غازي
  نحتفل هذا العام بالمئوية الأولى لثورة 1919؛ ودومًا ما يثار في الأحداث الكبرى السؤال المشروع عن دور الفرد القائد ودور الجموع في صنع الحدث، وعند الحديث عن ثورة 1919؛ فإننا نقف أمام حراك شعبي واسع استمر على مدى سنوات أربع، وأمام زعامة نجحت في أن تلتقط اللحظة التاريخية وتقود حركة الجماهير.  


   وإذا كانت زعامة سعد لم تبدأ إلا في عام 1918 فإن دوره في العمل العام وأنشطته الاجتماعية والسياسية سابقة على ذلك التاريخ بسنوات عديدة، منذ التقى بالشيخ محمد عبده أثناء دراسته، ثم أخذ يتردد على مجالس جمال الدين الأفغاني، وساهم الرجلان في تكوين ثقافة سعد وشخصيته في شبابه.
  وقد لفت ذكاء سعد نظر أستاذه محمد عبده فاختاره للعمل معه محررًا بالقسم الأدبي "بالوقائع المصرية" عندما تولى رئاسة تحريرها عام 1880، وفي أعقاب هزيمة الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، فصل سعد زغلول من وظيفته لاتهامه بمشايعة الثورة، ثم قامت السلطات باعتقاله مع آخرين بتهمة تشكيل جمعية سرية باسم "جماعة الانتقام"، ولم يثبت الاتهام ضده فأفرج عنه بعد عدة شهور.
 ثم اتجه سعد زغلول إلى العمل في المحاماة وبرع فيها، وأصبح من أشهر المحامين في مصر لما عرف عنه من قدرة على المرافعة وأمانة في العمل، ثم عين في سنة 1892 قاضيًا بمحكمة الاستئناف، وكانت أعلى المحاكم المصرية درجة في ذلك الوقت؛ وخلال عمله في القضاء درس سعد القانون دراسة نظامية وحصل على إجازة الحقوق من جامعة باريس بدرجة متفوقة، فأضاف إلى خبرته العملية دراسة قانونية.

 وفي سنة 1906، وفي إحدى محاولات سلطات الاحتلال البريطاني للتخفيف من الآثار السلبية لحادث دنشواي، ثم تعيين سعد زغلول وزيرًا للمعارف، وكانت المعارف من الوزارات الخاضعة لسلطة الاحتلال من خلال دنلوب المستشار البريطاني للتعليم؛ وقد لاقى هذا التعيين ارتياحًا من جانب الحركة الوطنية المصرية عبر عنه مصطفى كامل في مقال له بجريدة اللواء في 28 أكتوبر سنة 1906 تحت عنوان "سعد بك زغلول وزير المعارف" جاء فيه:
"لما قابل جناب اللورد كرومر أول البارحة سمو الخديوي المعظم في سراي رأس التين عرض عليه تعيين سعادة سعد بك زغلول المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية وزيرًا للمعارف المصرية، فارتاح سمو الخديوي لهذا الطلب لما يعهده في سعادة سعد بك من الفضل والعلم والأخلاق القويمة وأن ما يعرفه الناس في أخلاق وصفات سعد بك زغلول وهو في المحاماة أولًا، وفي القضاء ثانيًا، يحملهم جميعا على الارتياح لهذا التعيين الذي صادف مصريًا مشهورًا بالكفاءة والدراية والعلم الغزير، وحب الإنصاف والعدل، ولكن لما كانت الوزارة من سنوات مضت إلى اليوم منصبًا لا عمل فيه، وكان المستشارون الإنجليز أصحاب السيطرة التامة في النظارات، حق للناس أن يتساءلوا عما يعمله سعد بك زغلول في وزارة المعارف، هل يكون كبقية الوزراء- أمره وأمر المعارف بيد المستر دنلوب- أم يكون وزيرًا اسمًا وعملًا ويحيي سلطة الوزراء المصريين؟ اللهم إننا عرفنا سعد بك زغلول في ماضيه وحاضره أشد الناس تمسكًا باستقلاله وحقوقه، وأكثرهم انتقادًا على الذين تركوا سلطة مناصبهم لغيرهم... فإذا بقي سعد بك في وظيفته الجديدة كما هو وكما كان - وهو كما نعتقد - أملنا خيرًا كبيرًا للمعارف، ورجونا سريان هذه الروح إلى بقية النظار وعودة "الحياة المصرية" إلى الوزارة..."
 وطوال ست سنوات شغل فيه سعد المناصب الوزارية اختلف الناس حول كثير من مواقفه، فأيده البعض وانتقده آخرون، خاصة في صحافة الحزب الوطني؛ لكن الأمر الذي يتفق عليه الجميع أن سعد زغلول أثناء توليه وزارتي المعارف ثم الحقانية حقق بعض الانجازات المهمة مثل استئناف إرسال البعثات إلى معاهد العلم في أوروبا، وإنشاء مدرسة القضاء الشرعي ووضع مشروع قانون المحاماة الذي أنشئت بموجبه بعد إقراره نقابة المحامين، كذلك اصطدم سعد زغلول غير مرة بالمستشار البريطاني دنلوب الذي كان يسيطر على وزارة المعارف، أما أهم المواقف التي تحسب لسعد زغلول خلال توليه الوزارة فاستقالته من وزارة محمد سعيد باشا؛ وقد كان السبب الرئيسي لاستقالة سعد زغلول من الوزارة في مارس سنة 1912، قرار تحريك الدعوى العمومية ضد محمد فريد بتهمة التحريض على كراهية الحكومة دون مشاورته أو أخذ رأيه.
 وعندما أنشئت الجمعية التشريعية في سنة 1913 لتكون مجلسًا شبه نيابي، تقدم سعد زغلول للانتخابات في دائرتي الخليفة وبولاق بالقاهرة وفاز فيهما بتأييد ودعم من الحزب الوطني؛ وأصبح سعد الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية، وخلال الفصل التشريعي الأول والأخير للجمعية التشريعية برز صوت سعد كخطيب مفوه يدافع عن حقوق الأمة، ونالت مواقفه تأييد ودعم كل القوى الوطنية في مصر.
 وخلال سنوات الحرب العظمى اختار سعد الصمت، ليعود صوته فور إعلان انتهائها مطالبًا بحقوق الأمة، وليصبح زعيمًا لمصر وقائدًا لثورتها التي تفجرت يوم 9 مارس 1919 احتجاجًا على نفي سعد ورفاقه إلى مالطة؛ ثم لنضالها الوطني وسعيها من أجل الاستقلال والدستور طوال تسع سنوات حتى وفاته في 23 أغسطس سنة 1927.


 وهذه ثلاثة مواقف لسعد في سنوات الثورة تكشف عن جوانب من شخصيته القيادية والتزامه بالمبادئ:

(1)   حوار مع سعد زغلول في لندن
 في أبريل 1927 قبل وفاة سعد زغلول بأربعة أشهر صدرت في القاهرة الترجمة العربية لكتاب الروسي تيودور روذستين "خراب مصر"، وقد حملت الترجمة عنوانًا مختلفًا يعبر عن محتوى الكتاب، "تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده"، وقد ترجمه إلى العربية علي شكري محمد أحد الشباب المرتبطين بالحزب الوطني، وقام بترجمة الكتاب وكذلك مذكرات بلنت، وكتابه "التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر"، وعندما حاول طبع ترجماته في مصر سنة 1917 منعت السلطات العسكرية البريطانية نشرها. وخلال المرحلة القلقة بين ثورة مارس 1919 وصدور دستور 1923 وما تخللها من ملاحقات للوطنيين المصريين قام علي شكري بإحراق الكتب والترجمات، ثم عاد مرة أخرى بعد أن استقرت الأمور فترجم كتاب خراب مصر ونشره سنة 1927.
 لقد قدم علي شكري للترجمة بمقدمة طويلة تحدث فيها عن تطور الحركة الوطنية بعد تأليف الكتاب، وضمن المقدمة حوارًا أجراه مع سعد زغلول في أواخر أكتوبر 1920 في فندق سافوي بلندن، عندما ذهب سعد وأعضاء الوفد للتفاوض مع الحكومة البريطانية، وقد اعتمد علي شكري على صداقة والده لسعد في إجراء الحوار الذي تبدو فيه جرأته على سعد، ويكشف الحوار عن موقف سعد الجذري قياسًا إلى مواقف زملائه في الوفد، في المفاوضات حول مشروع ملنر، الذي رفضته الأمة وانقسمت حوله القيادة السياسية، وكان مدخل الحديث تصريح سعد لبعض الطلبة المصريين في لندن بأن مشروع ملنر "حماية بالخط الثلث"، واستمر الحديث وفقًا لعلي شكري أربع ساعات، لكنه لم ينشر منه على ما يبدو بعد سبع سنوات من إجرائه سوى جزء صغير لكنه دال ومعبر.
علي شكري محمد
 يقول علي شكري محمد:
 "لما كنا قد سمعنا بأن بعض الصحف المصرية كذبت رأي دولته في المشروع كان من الطبيعي أن نفتح الحديث باستجلاء رأي دولته، فصرح لنا أنه أخبرهم حقا "بأن مشروع لورد ملنر هو حماية بالخط الثلث" ولكنه إنما قال ذلك لهم في حديث خصوصي لا لينشروه وفي جريدة الأهالي بصفة خاصة.
 ثم أخذ دولته يقص علينا من أنباء الوفد وكيفية تشكيله وما حدث بعد ذلك من الحوادث إلى حين سفره من مالطة إلى باريس. وقد تطرق الحديث إلى ذكر المفاوضات فدار بيننا حوار كالآتي:
س: كيف وافقتم معاليكم على الحضور إلى لندن مع عدم علمكم بالأساس الذي تدور عليه المفاوضات؟
ج: لقد أكدوا لي أن أساسها الاستقلال التام لمصر والسودان.
س: من هم الذين أكدوا لك ذلك؟
ج: مندوبو الوفد الذين أرسلناهم إلى إنجلترا لجس النبض.
س: إذن لم يصل إلى معاليكم شيء رسمي لا من اللورد ملنر ولا من أحد من أعضاء لجنته؟
ج: كلا.
س: سبق أن شغلتم معاليكم منصب القضاء الأعلى في مصر فلم يكن يطاوعكم ضميركم على الحكم في أمر من الأمور إلا بعد الاطلاع على المستندات والوثائق الخاصة به. وأنتم قد عركتم الدهر وتعرفون من ماضي لورد ملنر ما قد لا نعرفه نحن مشعر الشبان فكيف استجزتم لأنفسكم الإقدام على أمر خطير كنقل مركز القضية المصرية من باريس إلى لندن ولم يصلكم مستند رسمي من لجنة اللورد ملنر عن الأساس الذي تدور عليه المفاوضات؟ ألا ترون معاليكم أن حضوركم إلى لندن كان غلطة سياسية كبرى؟
ج: لا أكتمك الحقيقة يا ولدي فلقد خدعني زملائي وغرروا بي.
س: إن الأمة المصرية إنما وضعت ثقتها في معاليكم فهي لا تعرف شيئا عن هؤلاء الزملاء، فلماذا لم تنبذوا استشارتهم وقد رأيتم خطأها؟
ج: لقد خفت من تفرق الكلمة. إن أغلبية أعضاء الوفد استحسنوا الذهاب إلى لندن فرأيت أن أنزل على رأيهم تفاديًا من الظهور بمظهر المتعنت الخارج عن الأغلبية.
س: ولكن نسيتم معاليكم أن الأمة وكلتكم في السعي لاستقلال مصر والسودان، أفلم يكن يجدر بكم استشارة البلاد قبل الإقدام على أمر خطير كهذا وخاصة وإنكم لم تكونوا من رأي أغلبية الوفد؟
ج: هذا ما حدث على كل حال، وقد رأوا أن لا بأس من استطلاع رأي القوم هنا وقد حضرنا لهذه الغاية.
س: إذن فماذا كان رأيكم في مشروع اللورد ملنر من بدء الأمر؟
ج: كان رأيي أنه حماية بالخط الثلث، وإن كان يشتمل على بعض المزايا.
س: لماذا لم تصارحوا الأمة بهذا حتى كانت تستنير برأيكم وأنت زعيمها الذي تسترشد برأيه عند الخطوب؟
ج: إن المشروع كما أخبرتك يشتمل على بعض مزايا؛ فخوفًا من أن يلومني الشعب المصري لأنني حرمته من هذه المزايا استصوبت عرض الأمر عليه.
س: هذا كان يكون حسنًا لو أن الذين انتدبتهم معاليكم لعرض المشروع على الشعب اكتفوا بعرضه دون أن يظهروا تحيزهم له فما بالك وهم لم يتركوا وسيلة إلا التجأوا إليها لحمل الأمة على قبول المشروع كما هو؟
ج: لقد كلفتهم بالوقوف على الحياد التام عند عرض المشروع على الأمة.
س: ألم يخبروك كيف استقبلته الأمة؟
ج: لقد أفهموني أن الأمة راضية عنه كل الرضى.
س: هذا غير الواقع يا معالي الباشا. ألم يبلغوك ما كتبه الأستاذ عبد الحميد بك أبو هيف في نقد المشروع؟
ج: كلا، بل كل ما قالوه لي: إن الأمة أبدت بعض رغبات في صدد المشروع، وإنهم هم الذين أوعزوا إليها بتقديم تلك الرغبات!!
س: ولكن يا باشا هذا أيضا غير صحيح، فلقد طلب فريق من الأمة التحفظات وتشدد في قبولها، ونادى الفريق الآخر بسقوط المشروع بتاتًا. فهلا كان من المستحسن ومعاليكم مقتنعون بأن المشروع حماية بالخط الثلث أن تصارحوا الأمة بهذا الرأي، فإن أصغت لمشورتكم قطعتم المفاوضات وعدتم إلى حظيرة الوطن مرفوع الرأس، وإن أبت إلا التطوح وراء المشروع استقلتم من رئاسة الوفد وأشرتم على الأمة بانتخاب رئيس بدلكم يسعى للحصول لها على استقلال زائف؟ إذ ليس يخفى على معاليكم أن الأمة وكلتكم في السعي للحصول على الاستقلال فإن لم توفقوا في مهمتكم فردوا الأمر لها وليس في ذلك غضاضة عليكم. لأن الزعيم هو الذي يقود مواطنيه إلى طلب الكمال فإن ساروا خلفه طائعين فبها ونعمت وإن أصروا على الرضى بالقشور دون اللباب فليترك لهم زعامتهم وليعلم أنهم لم ينضجوا بعد النضوج الكافي.
ج: إنني معول على قطع المفاوضات إذا لم يصغ القوم إلى مطالبنا.
 وهنا تشعب الحديث فتناول عدة مسائل أخرى لا يتسع لها هذا المقام.
 ثم لم تمض على هذا الحديث بضعة أيام حتى ذهبنا مرة أخرى لزيارة سعد باشا فأخبرنا إنه يعد معدات السفر بعد أن رأى من تعنت القوم وتصلبهم ما يذهب بصبر الحليم."

(2)   سنوات الشدة والإرهاب
 في عام 1921 تشكل وفد رسمي برئاسة عدلي يكن لمفاوضات بريطانيا حول الاستقلال، وانتهت المفاوضات بالفشل، ودخلت البلاد في أزمة سياسية جديدة؛ وهنا أقدم هذا الجزء من مذكرات النفي التي كتبها مصطفى النحاس في المنفى الثاني في سيشيل، والتي يروي فيها المقدمات التي قادت إلى نفي سعد وقادة الوفد المصري للمرة الثانية؛ يقول النحاس تحت عنوان سنوات الشدة والإرهاب:


 "كانت النتيجة الحتمية لتأليف بعثة رسمية للمفاوضة ضد إرادة الأمة وسفرها إلى لندرا على الرغم من الأمة، واستعمال وسائل القهر والخداع ضد الأمة لاختلاس ثقتها بالبعثة الرسمية، كانت نتيجة كل ذلك اطماع الإنجليز في حكم مصر بالقوة؛ لذلك زادوا مطامعهم إلى أبعد من مدى ظاهر مشروع وأعلنوا بكل قوة بكل جرأة أن مصر لازمة لهم، وإنهم باقون فيها إلى الأبد، وتهددوها بإخضاعها بالقوة إن لم ترضخ لهم بالسلام، ودفعوا مشروع كرزون إلى عدلي رئيس البعثة الرسمية، فلم يسعه الإجابة عليه إلا بأنه لا يمكن أن يؤدي إلى اتفاق تقبله الأمة، فتخطوا البعثة ورجعوا إلى السلطان، فرفعوا إليه بواسطة مندوبهم السامي مشروع كرزون ورد عدلي عليه ومذكرة من اللورد أللنبي معلنة نية الإنجليز نحو مصر وما عولوا عليه في الحاضر والمستقبل، مهددين باستعمال الشدة لقمع ما أسموه بالتهييج المبني على التعصب.
 عادت البعثة الرسمية إلى مصر وقوبلت أسوأ مقابلة، وقدمت تقريرًا للسلطان لينًا رخوًا، دل على أن البعثة لم تعمل شيئًا ولم تناضل عن حقوق مصر. وقدم عدلي استقالة الوزارة لأنه كما يقول لم يوفق إلى تحقيق برنامجه الذي أعلنه للأمة.
 ودعا سعد باشا زغلول وكيل الأمة الأمين ورئيس الوفد المصري وجهاء القوم من مختلف الطبقات لاجتماع عام يعقد في ليلة الجمعة 23 ديسمبر في نادي "سيرو" بالقاهرة للنظر في الأحوال الحاضرة.
 فأصدر اللورد أللنبي في 19 ديسمبر أمرًا عسكريًا بإلغاء هذا الاجتماع بحجة المحافظة على الأمن العام، فاحتج سعد باشا على هذا المنع، وتوالت الاحتجاجات كذلك من جميع أنحاء القطر...
 وفي 19 ديسمبر وصل الأستاذ مكرم إلى الإسكندرية قادمًا من لندرا بعد جهاده العظيم الذي أظهر به للرأي العام الإنجليزي حقيقة موقف البعثة الرسمية من الأمة المصرية، وأدى ذلك إلى فشل البعثة الرسمية في مهمتها وعودتها خائبة...
 كان مكرم قد وعد في خطبه السابقة بإذاعة أخبار المفاوضات بعد تقديم تقريره بها إلى الرئيس. وما كان للإنجليز ـ وقد قرروا استعمال الشدة ـ أن يمكنوه من ذلك. ففي نحو الساعة 11 صباح يوم الخميس 22 ديسمبر اتصل بعلم الرئيس أنه سيبلغ إليه اليوم أمر موجود الآن في قلم المطبوعات بأن يبرح هو وأعضاء الوفد القاهرة إلى محال إقامتهم بالريف. فتذاكرنا في الخطة التي يجب علينا اتخاذها عند وصول هذا الأمر إلينا وهي عدم إجابة هذا الأمر طوعًا.
 وقرب الظهر حضر إلى بيت الأمة المستر "تيل" وكيل الحكمدار، ومعه خطابات لكل من الرئيس وسينوت ومكرم وأنا من أعضاء الوفد، ولكل من فتح الله باشا بركات وعاطف بك بركات وصادق بك حنين وأمين أفندي عز العرب وجعفر بك فخري من غير أعضاء الوفد؛ وهذه الخطابات جميعها صادرة من الجنرال كلينتون مستشار وزارة الداخلية.
 وهذه ترجمة خطاب الرئيس:
  صاحب المعالي
 أتشرف بأن أخبركم أنه بناءً على تعليمات المارشال القائد العام أبلغ معاليكم الأمر الآتي:
 سعد باشا زغلول ممنوع بهذا تحت الأحكام العرفية من إلقاء الخطب، ومن حضور اجتماعات عامة، ومن استقبال وفود، ومن الكتابة إلى الجرائد، ومن الاشتراك في الشئون السياسية، وعليه أن يغادر القاهرة بلا توان، وأن يقيم في مسكنه بالريف تحت مراقبة مدير المديرية.
   الإمضاء أللنبي        الوكالة البريطانية
   القاهرة في 21 ديسمبر سنة 1921
                ولي الشرف أن أكون لمعاليكم الخادم المطيع
                                     الإمضاء
                                       كليتون بريجادر جنرال
                                       مستشار وزارة الداخلية
 وتذاكر الموجودون جميعًا في ماذا يكون رد الرئيس؛ وتقرر أن يكون الرد عدم الخضوع طوعًا للأمر؛ لإن الخضوع إليه معناه التخلي عن الواجب المقدس الذي عهدت به الأمة إلينا للمطالبة باستقلالها التام. وبعد الغذاء حرر الرئيس الرد الآتي:
 جناب الجنرال كلايتون مستشار وزارة الداخلية
 أتشرف بإخباركم إني استلمت خطابكم بتاريخ اليوم الذي تبلغني فيه بأمر جناب الفيلد مارشال اللنبي بمنعي من الاشتغال بالسياسة، وإلزامي بالسفر إلى عزبتي بلا تأخير للإقامة بها تحت مراقبة المدير.
 وهذا أمر ظالم أحتج عليه بكل قوتي. إذ ليس هناك ما يبرره.
 وبما إني موكل من قبل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تخليني من القيام بهذا الواجب المقدس.
 لهذا سأبقى في مركزي مخلصًا لواجبي. وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادًا وجماعات. فإنا جميعًا مستعدون للقاء ما تأتي به بجنان ثابت وضمير هادئ، علمًا بأن كل عنف تستعمله ضد مساعينا المشروعة إنما يساعد البلاد على تحقيق أمانيها في الاستقلال التام.
  وأرجو أن تقبلوا فائق احتراماتي.
                                                                                       (الإمضاء)
سعد زغلول
القاهرة في 22 ديسمبر سنة 1921

(3)   وزارة سعد الأولى والأخيرة
 تولى سعد زغلول باشا رئاسة الوزارة مرة واحدة في الفترة من 28 يناير سنة 1924 إلى 24 نوفمبر سنة 1924، كانت تلك الوزارة الأولى والأخيرة له، وجاء تولي سعد لرئاسة الوزارة بعد أول انتخابات برلمانية جرت على أساس دستور 1923، وفاز فيها حزب الوفد بأغلبية كاسحة، وربما كانت تلك الانتخابات من أنزه الانتخابات التي شهدتها مصر طوال تاريخها البرلماني، وقد أجرت تلك الانتخابات وزارة يحيى باشا إبراهيم؛ وعقب استقالة الحكومة أصدر الملك أحمد فؤاد الأول الأمر الملكي رقم 14 لسنة 1924، بتكليف سعد زغلول رئيس حزب الأغلبية بتأليف الوزارة، وجاء في هذا الأمر:
 "عزيزي سعد زغلول باشا
لما كانت آمالنا ورغائبنا متجهة دائمًا نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهيته، وبما أن بلادنا تستقبل الآن عهدًا جديدًا من أسمى أمانينا أن تبلغ فيه ما نرجوه لها من رفعة الشأن وسمو المكانة، ولما أنتم عليه من الصدق والولاء، وما تحققناه فيكم من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأي في تصريف الأمور، وبما لنا فيكم من الثقة التامة قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رياسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة الجليلة لعهدتكم.
وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض مشروع هذا التأليف علينا لصدور مرسومنا العالي به.
ونسأل الله جلت قدرته أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا بالخير والسعادة إنه سميع مجيب."


 وجاء جواب سعد زغلول على التكليف قطعة من الأدب السياسي الرفيع أكد فيها على الولاء للشعب الذي اختاره واختار حزبه، ويكرر فيها تمسكه بالمبادئ الوطنية والديمقراطية التي بلورتها ثورة 1919، ويطرح برنامج حكومته الذي يؤكد على استكمال أهداف الثورة؛ ويصر في تشكيل حكومته على أن تضم اثنين من الأفندية، وعلى أن يكون حصولهم على الرتب والألقاب من الملك بعد تشكيل الوزارة تأكيدًا على أن الوزارة ليست للباشوات والبكوات فقط؛ قال سعد في رده على الملك:
 "مولاي صاحب الجلالة
 إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي الضعيف توجب علىّ والبلاد داخلة في نظام نيابي يقضى باحترام إرادتها، وارتكاز حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسئولية الحكم التي طالما تهيبتها في ظروف أخرى، وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم بتشكيلها من غير أن يعتبر قبولي لتحمل أعبائها اعترافا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري الذي لا أزال متشرفًا برياسته.
 إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة على تمسكها بمبادئ الوفد التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان، مع احترام المصالح الأجنبية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال، كما أظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًا، ونفورها من كثير من التعهدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية ونقصت من حقوق البلاد وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات المالية والإدارية، ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم وحفظ الأمن وتحسين الأحوال الصحية والاقتصادية وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران، فكان حقًا على الوزارة التي هي وليدة تلك الانتخابات وعهدًا مسئولاً منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل الأهم فالمهم منها وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى تحقيق رغبات الأمة فيها وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافى ما هناك من الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها وتعيين المسئولين فيها، وكل ذلك لا يتم على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان، ولهذا يكون من أول واجبات هذه الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم لانعقاده في القريب العاجل، وتحضير ما يحتاج الأمر إليه من المواد والمعلومات لتمكينه من القيام بمهمته خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمانًا طويلًا وهى تنظر إلى الحكومة نظر الطير للصائد لا الجيش للقائد، وترى فيها خصما قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلا أمينًا يسعى لخيرها، وتولد عن هذا الشعور سوء تفاهم اثر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد وعاق كثيرًا من تقدمها، فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن الثقة في الحكومة، وعلى إقناع الكافة بأنها ليست إلا قسما من الأمة تخصص لقيادتها والدفاع عنها وتدبير شئونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام، ولذلك يلزمها أن تعمل ما في وسعها لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات، وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم، كما يلزمها أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح، وتعود الكل على احترام الدستور والخضوع لأحكامه، وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة وعدم السماح لأي كان بالاستخفاف بها، أو الإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام وزارتي وضعته طبقًا لما أراه وتريده الأمة، شاعرًا كل الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات، خصوصًا مع ضعف قوتي واعتلال صحتي، ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمانًا طويلاً، ولكنى أعتمد في نجاحه على عناية الله وعطف وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين وجميع أهالي البلاد ونزلائها.
فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي، مع تقليدي وزارة الداخلية.
محمد سعيد باشا              لوزارة المعارف العمومية
محمد توفيق نسيم باشا      لوزارة المالية
أحمد مظلوم باشا              لوزارة الأوقاف
حسن حسيب باشا                        لوزارة الحربية والبحرية
محمد فتح الله بركات باشا   لوزارة الزراعة
مرقص حنا بك                 لوزارة الشغال العمومية
مصطفى النحاس بك                      لوزارة المواصلات
واصف بطرس غالي أفندي  لوزارة الخارجية
محمد نجيب الغرابلي أفندي            لوزارة الحقانية
وأدعو الله أن يطيل في أيامكم ويمد في ظلالكم حتى تنال البلاد في عهدكم كل ما تتمناه من التقدم والارتقاء.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم وخادم سدتكم.
تحريرًا في 22 جمادى الثانية سنة 1342 (24 يناير سنة 1924)
سـعد زغلول"


 لكن حكومة الشعب التي قدها سعد زغلول وحاول خلالها أن يحقق آمال الأمة، لم يقدر لها أن تكمل في الحكم عشرة أشهر، واضطر سعد لتقديم استقالته بعد حادث اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش، فأهدر عمل متهور تصور من يقوموا به أنهم يخدمون الوطن آمال الأمة في أن تجني ثمار تضحياتها في ثورة 1919.
***

 في حياة الأمم شخصيات تلتقي بطموحات الشعب وأحلامه، فتتصدى لقيادة البلاد في اللحظات العصيبة، وقد تنجح في تحقيق بعض ما تتطلع إليه الأمة، فتحفر لاسمها بذلك مكانة لا تهتز في الوجدان الشعبي؛ ومن هذه الشخصيات في تاريخنا المصري الحديث سعد زغلول الذي اعتلى مكانه كزعيم للأمة بلا منازع عندما تصدى لمواجهة الاحتلال البريطاني عقب إعلان انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ عندما أصبح قائدًا للثورة المصرية ورمزًا لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...