الثلاثاء، 7 مارس 2017

محمد حاكم أيامه وأيام محمد علي



دي مقدمتي للطبعة التانية من كتاب أيام محمد علي للصديق محمد حاكم
النهارده أول ندوة لأطلاق الطبعة في مكتبة القاهرة الكبرى الساعة 7م
                                           
 
غلاف الطبعة التانية من تصميم
الفنانة هبة حلمي
                                                   
                                                                                             
  أذكر تمامًا اللقاء الأول بيننا، محمد حاكم وأنا، كان ذلك في يوم 21 فبراير 1981، في مدرج 78 بكلية الآداب جامعة القاهرة، في ندوة نظمتها أسرة من الأسر الطلابية بالكلية، كانت المناسبة الاحتفال باليوم العالمي لنضال الطلاب ضد الاستعمار، الذكرى الخامسة والثلاثين ليوم 21 فبراير 1946، كان المتحدث في الندوة المؤرخ الكبير الدكتور رءوف عباس حامد، كانت مشاركة مؤرخ وأستاذ جامعي في قيمته وقامته في نشاط طلابي سياسي الطابع حدثًا مهمًا وشجاعة فائقة في ذلك الوقت؛ فالجامعة وقتها تعيش في ظل حصار بوليسي، والنشاط الطلابي شبه محظور، بعد أن ألقى الدكتور رءوف عباس محاضرته، قام شاب صغير قدم نفسه باعتباره طالبًا في السنة الأولى بقسم الاجتماع مناقشًا للمحاضر محاولًا ربط الماضي الذي نحتفل به بحاضرنا وقتها، لفت الشاب انتباهي بمداخلته شديدة الذكاء وشجاعته، رغم ما ظهر عليه من ارتباك من يتحدث للمرة الأولى أمام حشد من مئات الطلاب والأساتذة، ويناقش أستاذًا كبيرًا مرموقًا مثل رءوف عباس، عقب الندوة توجهت إليه، وقدمت له نفسي، وكنت وقتها طالبًا بالدراسات العليا بقسم الوثائق، وتعرفت عليه توطدت العلاقة بيننا بسرعة، تحول من زميل دراسة يجمع بيننا قدر مشترك من الأفكار السياسية وبراح نتقبل فيه ما نختلف حوله، إلى صديق قريب إلى النفس والروح، جمعت بيننا مع مرور السنين آراء متقاربة في الحياة وفي السياسة، واهتمامات بحثية مشتركة، فقد جمعتنا دراسة التاريخ والولع بالوثائق، وفي إطار ولعنا المشترك أرشدني إلى واحدة من المجموعات المهمة بدار الوثائق القومية، غيرت نتائج رسالتي للدكتوراه وغيرت الكثير من المفاهيم حول تاريخ الحيازة الزراعية في مصر، كان حاكم بالنسبة لي المرجعية العلمية التي استند إليها، إذا كتبت بحثًا أو مقالًا جديًدا لا أطمئن حتى يقرأه حاكم ويبدي رأيه فيه، كان المعيار بالنسبة لي، في كل أموري العامة والخاصة كان رأيه بمثابة الضمير لي، وكان مما تلاقينا حوله الاهتمام بمحمد علي وعصره، وهذا الكتاب يمثل رؤية مهمة جديدة لعصر محمد علي.
 تصدر اليوم الطبعة الثانية لكتاب "أيام محمد علي ـ التمايز الاجتماعي وتوزيع فرص الحياة"، الكتاب الوحيد للباحث الراحل محمد حاكم، تصدر مع اقتراب الذكرى الخامسة والخمسين لميلاد محمد حاكم، والذكرى العاشرة لرحيله، وكانت الطبعة الأولى قد صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة، قبل رحيل حاكم بأيام قليلة، في يوليو 2007، لتقر به عيني محمد حاكم في أخر أيام وعيه بالدنيا، ونفدت نسخها في أسابيع قليلة.

 الكتاب كان في الأصل البحث الذي حصل به محمد حاكم على درجة الماجستير، من كلية الآداب بجامعة القاهرة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تحت إشراف أستاذه الدكتور محمود فهمي الكردي، في هذا البحث جمع محمد حاكم المتخصص في علم الاجتماع، بين دراسة الاجتماع والتاريخ والوثائق في براعة فائقة، وقدم إضافة علمية مهمة في كل من المجالات الثلاثة، إنه إنجازه الأهم بين أبحاثه وقد شكل نقلة في الدراسات الاجتماعية والتاريخية المعتمدة على الوثائق حول عصر محمد علي.
 عندما قرر محمد حاكم أن يكون البحث العلمي طريقه في الحياة، اتجه الشاب القادم إلى القاهرة من مناطق التخوم بين القرية والمدينة في ريف الدلتا، والحالم بتغيير العالم، إلى دراسة علم الاجتماع الريفي، واعتبر أن دراسة القرية المصرية وأوضاعها المدخل السليم لتغيير الواقع، لكنه اكتشف أن دراسة القرية بمعزل عن دراسة المدينة أمرًا مستحيلًا، كما أن عاشق القرية والفلاح كان أيضًا عاشقًا للتاريخ، وقد اكتشف أن إرادة تغيير الحاضر وصنع المستقبل رهينة بفهم الماضي ودراسته، فاتجه إلى التاريخ.


 اختار محمد حاكم التحرر من الأطر التقليدية لعلم الاجتماع، عندما اختار لدراسته موضوع الصراع على فرص الحياة بين الريف والمدينة، وقضية استحواذ المدينة على فائض ما ينتجه الريف، عندما رفض الالتزام بالتقسيمات التقليدية في علم الاجتماع بين الاجتماع الريفي والاجتماع الحضري (دراسة المدينة)، وعندما اختار مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أي عصر محمد علي، زمنًا تاريخيًا للدراسة، وعندما لجأ إلى الوثائق والدفاتر والسجلات المتناثرة بين الأرشيفات المصرية المختلفة، ليستمع إلى أصوات المقهورين عبر الزمن، ويسمعنا إياه.
 انطلق حاكم في دراسته للعلاقة بين الريف والمدينة في عصر محمد علي من حقيقة أن العلاقة بين القرية والمدينة تأخذ شكل التناقض والصراع الاجتماعي بينهما، الصراع على فرص الحياة؛ فالمدينة مركز القوة والسلطة تسعى للاستحواذ على وسائل الإنتاج من خلال السيطرة على الأرض الزراعية، الأرض الزراعية التي تقع المساحة الأكبر منها في حيازة الدولة/السلطة الحاكمة وقتها وسكان المدن، وتسعى المدينة أيضًا إلى الاستحواذ على الناتج الفائض للريفيين المتمثل فيما يزرعونه من خلال الاستيلاء على قسم كبير من المحصول ومن خلال الضرائب المتنوعة، هذا الاستحواذ رأى فيه محمد حاكم البؤرة في علاقات الاقتصاد والسلطة.
 وتوقف حاكم عند النصف الأول من القرن التاسع عشر باعتباره نقطة محورية في التاريخ المصري، عصر شهد تحولات مهمة استمرت تأثيراتها في التكوين المصري الحديث إلى يومنا هذا، إنه بمعنى ما زمن إعادة التكوين.
 لقد شدت شخصية محمد علي وما قام به من تغيير لوجه المجتمع المصري محمد حاكم فغرق في ذلك العصر، لكنه لم يقع فيما يقع فيه كثير من الباحثين من ولع بالعصر الذي يدرسونه، لقد عاد محمد حاكم إلى القرون السابقة على عصر محمد علي كي يفهم ذلك العصر، كما وضع في اعتباره ما تلاه من عصور حتى يتتبع تأثيراته، أذكر جيدًا كيف أمضى محمد حاكم سنوات من دراسته في قراءة مجلدات من مصادر العصر العثماني مدققًا فيها كلمة كلمة، وباحثًا وراء ما لم تبح به تلك المصادر، ثم جاءت علاقته بالوثائق التي فعلت معه فعل "النداهة"، فغاص في بحورها دون أن يغرق فيها، واستفاد منها دون أن يقع في فخ التسليم بصحة كل ما تحويه، فقد تعامل معها تعاملًا نقديًا واعيًا، قضى سنوات في البحث في دفاتر الإدارة المالية في العصر العثماني وزمن الحملة الفرنسية وعصر محمد علي، تلك الدفاتر الموزعة بين دار الوثائق القومية ودار المحفوظات العمومية، حتى أصبح خبيرًا في خطوطها الصعبة عالمًا بمصطلحاتها الدقيقة، وهنا أتذكر تلك الشهور الطويلة التي بلغت تسعة أشهر، والتي أمضاها محمد حاكم في تدقيق الأرقام في تلك الدفاتر ليستخلص منها جدولًا شغل صفحة واحدة في رسالته، لكنه كان ثورة في المعرفة العلمية عن ذلك العصر.
 وينقسم كتاب "أيام محمد علي" إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، في المقدمة استعرض محمد حاكم أسئلته التي سعى للإجابة عليها، ومنهجه، ومصادره، وفي الفصل الأول درس نمط التحضر في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وركز في الفصل الثاني على دراسة التمايز الاجتماعي داخل القرية المصرية، وقد ناقش في هذا الفصل الخطاب العلمي والاستشراقي والحكومي الذي ظل يتعامل مع القرية المصرية باعتبارها وحدة متجانسة، أما الفصل الثالث فقد اهتم بدراسة الاستحواذ المديني على القرية من خلال استحواذها على وسائل الإنتاج الريفية وعلى فائض الإنتاج، وفي الفصل الرابع يناقش جانب آخر من جوانب الاستحواذ من خلال تحليل علاقات السلطة والمقاومة.
 لقد تأخر صدور هذه الدراسة لما يقارب السنوات العشر، لكنها صدرت في طبعتها الأولى بإلحاح متواصل من أصدقاء حاكم، وربما إحساسه بقرب النهاية في مرضه الأخير كان دافعًا له للإسراع بمراجعة نص الرسالة وإعداده للنشر.
 صدرت هذه الدراسة لتحتل مكانها إلى جانب دراسة خالد فهمي، زميل محمد حاكم ومجايله، عن الجيش في عصر محمد علي، والتي صدرت بعنوان: "كل رجال الباشا" عن دار الشروق منذ عدة سنوات، والدراستان معًا تشكلان رؤية لعصر محمد علي من وجهة نظر جديدة تبناها جيل جديد من الباحثين، حملت لأول مرة أصوات المقهورين.
 هذا عن أيام محمد علي؛ فماذا عن أيام محمد حاكم: ولد محمد حاكم في الرابع من يناير عام 1962، ورحل جسده عنا بعد رحلة مع المرض كانت نهايتها سريعة، عصر يوم  21 يوليو 2007، أسرع مما توقعنا جميعًا، فبين اكتشاف خطورة حالته الصحية ورحيله سبعة أسابيع، كان فيها قويًا متماسكًا هادئًا كعادته دائمًا، متقبلًا الأمر برضى، كان فقط مشفقًا على أهله ومحبيه، لقد كان محمد حاكم ممن يحملون هم الآخرين أكثر مما يحمل همه الشخصي، كان ما يشغله وهو يعرف أن النهاية باتت قريبة أن يعرف من طبيبه ما تبقى له بالتقريب حتى يرتب أمور الأعمال التي التزم بها، وحتى يرتب أوراقه البحثية المتناثرة التي لم تكتمل بعد، هذا هو محمد حاكم كما عرفته.
 وهذا هو محمد حاكم الذي ذكرني بكلمات عالم المصريات جيمس هنري بريستد مؤلف كتاب فجر الضمير "إن إبداع المصري القديم لمتون الأهرام يشكل احتجاجًا حماسيًا ضد الموت وثورة ضد الظلمة والسكون العظيمين"، فالمصري يبدع ويعمل للحياة في مواجهة الموت.


  كان محمد حاكم أحد قادة الحركة الطلابية سنة 1984 المنتمين إلى اليسار التروتسكي، كما كان أحد أبرز الباحثين في جيله في مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخ، استخدم المادية التاريخية منهجًا دون أن يتجمد عنده مثل كثير من الماركسيين، فقد امتلك إلى جانب هذا معرفة عميقة بالمناهج الجديدة في العلم الاجتماعي، استوعبها وأجاد استخدام أدواتها، الأمر الذي يظهر جليًا في هذا العمل الذي بين أيديكم.
 اهتم محمد حاكم في السنوات الأخيرة من حياته بثلاث قضايا محورية في حياتنا العلمية والسياسية، خلال إشرافه على البرنامج البحثي للمركز الفرنسي للدراسات القانونية والاقتصادية: مناهج البحث، وجماعات الإسلام السياسي، والإصلاح الدستوري؛ وأظن أننا اليوم ندرك جيدًا أهمية هذه المجالات الثلاثة في حياتنا.
                                                                                                              عماد أبو غازي


  


هناك تعليق واحد:

  1. صدقت، كان حاكم أفضل باحثي جيله، وفعلا ميزه أنه إمتلك أدوات البحث، وبرع في استخدامها، دون أن تسيطر عليه، رحم الله حاكم الإنسان الخلوق، والباحث المتميز.

    ردحذف

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...