الأربعاء، 12 نوفمبر 2014


"13 نوفمبر"

 يوم تغير فيه التاريخ

عماد أبو غازي

 يوم 11 نوفمبر سنة 1918 سكتت المدافع على جميع الجبهات، وانتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء، بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا، انتصارًا كاملًا على دول المحور بقيادة ألمانيا، توقفت الحرب بعد أربع سنوات وبضعة أشهر عرف فيها العالم ويلات لم يعرفها في تاريخه من قبل.
 كان المصريون ينتظرون نهاية الحرب حتى تنتهي معانتهم من حرب لم يكونوا طرفًا فيها، سقط في المعارك شهداء من المصريين، وصادرت سلطة الاحتلال دوابهم ومحاصيلهم لصالح المجهود الحربي، وتحملت الخزانة المصرية ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه دعمًا لبريطانيا العظمى في حربها، لكنهم أيضًا كانوا ينتظرون على أمل أن ينتهي الاحتلال البريطاني لمصر مع نهايتها مثلما انتهى الحكم العثماني مع بدايتها.
 كانت آمال المصريين تستند إلى ما قدموه من دعم لبريطانيا أثناء الحرب، كما كانت تستند إلى الوعد البريطانية، فقد جاء في رسالة الحكومة البريطانية إلى السلطان حسين كامل عند تنصيبه مكان الخديوي عباس حلمي الثاني: "قد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد بعد تحريرها"، كما تضمنت وعدًا بالنظر في نظام الامتيازات الأجنبية بعد انتهاء الحرب، ومع اقتراب نهاية الحرب بدأ التفكير جديًا في نظام جديد لإدارة البلاد، وقد وضع بالفعل السير وليم برونيت المستشار المالي البريطاني مشروعًا لقانون نظامي لمصر لكن النخبة السياسية المصرية رفضته تمامًا لأنه وضع مصر في مرتبة المستعمرات وحرمها من مجلس تشريعي منتخب، وكان أول من تصدى للمشروع حسين باشا رشدي رئيس الحكومة.
 وفي عام 1917 أعلن الرئيس الأمريكي ويلسون المبادئ الأربعة عشر التي تضمنت حق تقرير المصير للشعوب، وقد أحيت هذه المبادئ الآمال في نفوس المصريين، فقد تصوروا أن الدول المنتصرة سوف تلتزم بهذه المبادئ وتعمل بها بعد نهاية الحرب.
 ورغم إعلان الأحكام العرفية وفرض الرقابة على الصحف وتعطيل الجمعية التشريعية أثناء سنوات الحرب الأربعة، إلا أن الروح الوطنية كانت تنمو ببطء في تربة هيئتها سنوات النضال الوطني والديمقراطي منذ مطلع القرن، فقد كانت السنوات الأولى من القرن العشرين سنوات للبعث الوطني ولتمهيد التربة من أجل المطالبة بالاستقلال والدستور بفضل التيارين الفاعلين في الحركة الوطنية المصرية، تيار الحزب الوطني وتيار حزب الأمة.
 ومع نهاية الحرب حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم تكن تتوقعه سلطات الاحتلال التي تصورت واهمة أن الهدوء الذي خيم على البلاد أثناء الحرب كان خنوعًا من المصريين وقبولًا للاحتلال، فقبل أن تنتهي الحرب اتفق سعد باشا زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وزعيم المعارضة بها وزميليه في الجمعية عبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا على أن يطلبوا من دار الحماية تحديد موعد لهم ليقابلوا السير رجنلد وينجت المندوب السامي البريطاني للتحدث إليه في طلب الترخيص لهم بالسفر إلى لندن لعرض مطالب البلاد على الحكومة الإنجليزية.
 وقبل أن تعلن الهدنة بساعات تقدم سعد ورفيقيه يوم الاثنين 11 نوفمبر بطلبهم إلى دار الحماية بوساطة من حسين باشا رشدي رئيس الوزراء، فاستجابت دار الحماية لطلبهم وحددت لهم موعدًا يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 الساعة الحادية عشر صباحًا، وقابلوا المندوب السامي ودار بينهم حوار طويل استمر لمدة ساعة.

 جدارية من قاعدة تمثال سعد بالإسكندرية تصور لقاء الزعماء الثلاثة بالمعتمد البريطاني
(محمود مختار)
وقد أورد المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 نصًا للحوار الذي دار بين الزعماء الثلاثة والمندوب السامي البريطاني، حيث طالب سعد زغلول بإلغاء الأحكام العرفية وإنهاء مراقبة الصحف والمطبوعات، تلك الرقابة التي ضاق بها المصريون...
 وقال سعد: "المصريون لهم الحق في القلق على مستقبلهم".
  وعندما رد عليه ونجت مطالبا إياه والمصريين بعدم التعجل والنظر للعواقب البعيدة، علق سعد على مقولة ونجت بأنها عبارة مبهمة غير مفهومة.
 وقد وجه ونجت أثناء الحديث انتقادات لمحمد فريد ورجال الحزب الوطني، أوضح علي شعراوي باشا دوافع الحزب الوطني في اتخاذ المواقف المتشددة....
 وقال: "نريد صداقة الحر للحر لا العبد للحر"...
 عندها قال ونجت في استنكار: "إذا فأنتم تريدون الاستقلال"...
 فرد سعد: "ونحن أهل له"...
 حاول ونجت أن يقلل من شأن الشعب المصري ومن قدرته على حكم نفسه بنفسه، مرة بالتأكيد على ضرورة التدرج في الاستقلال، ومرة بحجة عدم أهلية المصريين، ومرة ثالثة بدعوى أمية المصريين، ومرة رابعة بالإشارة إلى موقع مصر الذي يجعلها مطمعًا للطامعين.
 ففند الزعماء الثلاثة دعواه الواحدة بعد الأخرى، وأكد عبد العزيز بك فهمي على مطالب الأمة قائلا: "نحن نطلب الاستقلال التام".... وأكد على أن للحزب الوطني وحزب الأمة هدف واحد وطريقين مختلفين للوصول إليه.
 بعد أن انتهى اللقاء توجه الزعماء الثلاثة إلى وزارة الداخلية لمقابلة حسين رشدي باشا في مكتبه بالوزارة وأبلغوه بما دار في اللقاء.
 وكان رشدي باشا قد أعد في نفس اليوم خطابًا للسلطان أحمد فؤاد يستأذنه فيه السماح له ولعدلي يكن باشا بالتوجه إلى لندن للسعي نحو تحقيق استقلال مصر.
 وفي نفس اليوم أيضًا التقى رشدي بالسير ونجت، فتسأل الأخير كيف يتحدث ثلاثة رجال باسم الأمة؟
 وعندما علم سعد من رشدي باشا بما دار في لقائه مع ونجت اجتمع مع رفيقيه للتشاور في أسلوب يثبت جدارتهم بتمثيل الأمة، فاتفقوا على تأليف هيئة تسمى الوفد المصري في إشارة إلى أنها وفد مصر للمطالبة باستقلالها، وأن تحصل هذه الهيئة على توكيلات من الأمة للحديث باسمها.

 كان يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 يومًا تغير فيه وجه التاريخ في مصر، كان يومًا له ما بعده.

هناك تعليق واحد:

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...