الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014


وسكتت المدافع في نوفمبر

عماد أبو غازي

 غريب جدا أمر المصادفات التاريخية، ففي يوم 11 نوفمبر عام 1918 سكتت المدافع في أوروبا بعد أربع سنوات من الحرب الضارية التي قامت بين الدول الاستعمارية الأوروبية من أجل اقتسام النفوذ، الحرب التي سميت وقتها الحرب العظمى، ونطلق عليها اليوم الحرب العالمية الأولى، والتي كان لها تأثيرًا بالغًا في تاريخ مصر الحديث، رغم أن مصر لم تكن طرفًا أصيلًا في تلك الحرب.
 
 
 في نفس اليوم، يوم 11 نوفمبر وقبل أربع سنوات على نهاية الحرب وإعلان الهدنة، وبعد أسابيع قليلة من اشتعال نيران الحرب وجه الخديوي عباس حلمي الثاني منشورًا إلى الأمة بإعلان الدستور بناء على نصيحة الزعيم محمد فريد.

 عباس حلمي الثاني
أربع سنوات تفصل بين إعلان الخديوي عباس حلمي وإعلان الهدنة، كانت سنوات تغير فيها وجه مصر، واختمرت فيها الثورة، الثورة الشعبية الكبرى في تاريخنا الحديث، ثورة 1919 التي نقترب من الاحتفال بعيدها المئوي بعد سنوات قليلة، وفي مثل هذه الأيام من نوفمبر سنة 1918 كانت البداية، كانت في يوم 13 نوفمبر 1918، اليوم الذي أصبح عيدًا للجهاد الوطني، ظلت مصر تحتفل به باعتباره أهم أعيادنا الوطنية إلى أن قام انقلاب يوليو 1952.
 لكن قبل يوم البداية لابد من العودة إلى الوراء قليلًا لنرى كيف جاءت البداية، خضعت مصر للاحتلال البريطاني عام 1882، ورغم أن القوة الحقيقية في مصر كانت للمعتمد البريطاني لكن الوضع القانوني للاحتلال ظل مخلخلًا، بسبب تبعية مصر من الناحية الرسمية للدولة العثمانية وبسبب ضغوط الدول الأوروبية المنافسة لبريطانيا، وفي عام 1904 استقر وضع الاحتلال بعد الاتفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا، والذي جاء فيه: "إن حكومة جلالة الملك (ملك بريطانيا) تصرح بأنها لا تقصد تغيير الحالة السياسية في مصر، وحكومة الجمهورية الفرنسية تصرح بأنها لا تعترض عمل بريطانيا العظمى في مصر، لا بطلب تعيين أجل للاحتلال ولا بأمر آخر"، وسرعان ما انضمت حكومات ألمانيا والنمسا وإيطاليا إلى الاتفاق، بذلك أصبحت بريطانيا مطلقة اليد في مصر، خصوصا أن السلطان العثماني الحاكم "الشرعي" لمصر (والشرعي بين مليون قوس) لم يكن بقادر على التصدي لبريطانيا، فضلا عن إنه ساعدها في احتلالها للبلاد بإصداره فرمان عصيان عرابي سنة 1882.

 السلطان عبد الحميد الثاني
في السنوات التي أعقبت الوفاق الودي تحول التياران الرئيسيان في الحركة الوطنية المصرية إلى حزبين: حزب الأمة والحزب الوطني، وكان للحزبين الفضل في تمهيد الأرض للثورة، فكما يقول المؤرخ الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه المهم "تطور الحركة الوطنية في مصر": "إذا كان الحزب الوطني قد غرس في تلك الحقبة من تاريخ مصر بذرة الكراهية للاحتلال ومقاومته في نفوس الشعب، فإن حزب الأمة قد ثبت بدوره أسس القومية المصرية، وألقى بذور الاستقلال عن كل من تركيا وبريطانيا، وبمعنى آخر أنه بينما كان عمل الحزب الوطني قائمًا على هدم الاحتلال، كان عمل حزب الأمة قائمًا على بناء أسس مصر الحديثة المستقلة، وواضح أن العمليتين: الهدم والبناء يكمل كل منهما الآخر".
 لقد مهد الحزبان الأرض فأثمر زرعهما الثورة.
 في 1914 نشبت الحرب في أوروبا بين معسكرين، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا في جانب، وألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا ثم تركيا في الجانب الآخر، بدأت المعارك في أغسطس بعد اعتداء ألمانيا على بلجيكا، وتصاعدت المعارك بطول أوروبا وعرضها، وامتدت إلى منطقة المشرق العربي والمستعمرات، كانت أول حرب في تاريخ الإنسانية تمتد بهذا الاتساع.
 
 
 كانت مصر بين ناريين في هذه الحرب فعلى أرضها قوات الاحتلال البريطاني منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وفي نفس الوقت هي ولاية تابعة لتركيا من الناحية الرسمية، وتنازع رجال السياسة في مصر اتجاهين: الأول يراهن على انتصار ألمانيا واهمًا أن هذا الانتصار سيقود إلى استقلال مصر، أما الاتجاه الثاني فكان يؤمن بانتصار الحلفاء ويرى في بريطانيا شرًا أهون من شر، كما كان هؤلاء يتصورون أن مساندة مصر لبريطانيا العظمى في الحرب سيؤدي إلى منح مصر استقلالها.
 
 مع بداية الحرب في أغسطس 1914 أعلن مجلس النظار منع التعامل مع ألمانيا ورعاياها، ومنع السفن المصرية من الاتصال بالموانئ الألمانية واحتجاز السفن الألمانية في الثغور المصرية، ومنح القوات البريطانية حقوق الحرب في الأراضي والمياه المصرية.

 حسين باشا رشدي رئيس مجلس النظار
وفي 2 نوفمبر 1914 أعلن الجنرال مكسويل قائد جيش الاحتلال في مصر وضع القطر المصري تحت الحكم العسكري، وفرضت الرقابة على الصحف كنتيجة لإعلان الأحكام العرفية.
 يوم 11 نوفمبر 1914 أعلن الخديوي عباس حلمي الثاني من استنبول منشورًا إلى الأمة بإعلان الدستور الكامل في مصر، والحقيقة أن الإعلان كان يهدف إلى حشد الشعب المصري خلف الدولة العثمانية ومحاولة الحصول على تأييد المصريين للزحف التركي على البلاد.
 وفي 18 ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وأنهت علاقتها بالدولة العثمانية، وعزلت الخديوي، وحولت مصر إلى سلطنة، وعينت السلطان حسين كامل سلطانًا على البلاد تحت الحماية البريطانية.
 
السلطان حسين كامل
 
 وقد شارك الجيش المصري في المعارك إلى جانب الجيش البريطاني، وشارك سلاح المدفعية المصرية في التصدي للقوات التركية عند القناة والانتصار عليها. واستشهد في الموقعة الملازم أول أحمد حلمي قائد بطارية المدفعية المصرية.

 أما الموقف العام للشعب المصري فلم يبد تعاطفًا مع الأتراك أو إكتراثًا بهم، ولم تشهد سنوات الحرب مقاومة للاحتلال سوى بعض العمليات الصغيرة لأعضاء الحزب الوطني وأنصاره، لدرجة دفعت القيادة البريطانية إلى سحب جزء من القوات المخصصة لتأمين الجبهة الداخلية إلى جبهة القتال عندما استشعرت أن الأمور آمنة في الداخل.
 وعندما سكتت المدافع يوم 11 نوفمبر 1918 كانت هناك مصر جديدة.

هناك تعليق واحد:

  1. ربنا يكرمك يا أستاذي دايماً نتعلم منك الكثير , وفقكم الله ودام عليكم العلم

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...