الأحد، 24 أغسطس 2014


مصطفى النحاس
 الديمقراطية واستقلال الوطن

عماد أبو غازي

   عاد مصطفى النحاس بعد أطول وأخطر انقلاب دستوري عرفته مصر في الحقبة الليبرالية، ذلك الانقلاب الذي اقترن بإسماعيل صدقي باشا، وطال لمدة خمس سنوات ونصف، والذي لم يكن مجرد انقلابًا تعطل فيه الدستور، بل ألغي إلغاء كاملًا ليحل محله دستورًا مشوهًا، دستور استبدادي تكمله سلسلة من القوانين المقيدة للحريات، انقلاب تعرض فيه مفكرو مصر للاضطهاد بشكل غير مسبوق؛ فنقل طه حسين من الجامعة وفصل حافظ إبراهيم من دار الكتب وسجن العقاد بتهمة العيب في الذات الملكية ومنعت الحكومة إقامة تمثالي مختار لسعد زغلول، انقلاب صُودرت فيه الصحف واعتقل الساسة وتعرضوا لنيران البوليس والجيش، ورغم قوة العاصفة لم ينحن النحاس باشا ولا الزعماء المعارضين له.

وبعد سنوات الجزر أنهت ثورة الشباب في نوفمبر 1935 الانقلاب ووحدت قوى المعارضة بزعامة النحاس، واضطر الملك والإنجليز لإعادة دستور 1923 وإعادة الحياة النيابية مرة أخرى، وكان طبيعيًا أن يعود النحاس إلى رئاسة الوزارة ليقود حكومة جبهة وطنية تضع نصب عينيها قضيتين أساسيتين: الدفاع عن الديمقراطية واحترام الدستور، والعمل من أجل تحقيق استقلال الوطن.
 
 
 كانت الظروف مواتية في الأشهر الأولى من عام 1936 للسير قدمًا في اتجاه القضيتين الأساسيتين في نضال الشعب المصري منذ مطلع العصر الحديث، قضية الديمقراطية وقضية الاستقلال، فالملك فؤاد الذي كان من دعاة نهضة مصر الثقافية في مقتبل حياته ثم أعمته السلطة منذ قبل السلطنة تحت الاحتلال سنة 1917فأدمن الاستبداد يودع الدنيا ليحل محله ابنه الفتى فاروق الذي لم يكمل السن القانونية، فيحكم من خلال مجلس للوصاية، وهو ما زال مقلم الأظافر لم يتحول بعد إلى حاكم مستهتر بالدستور.
 

 
 وكان صدام النحاس الأول من أجل حماية الدستور وفرض احترامه في تصديه الحازم لمحاولة تتويج فاروق وأدائه اليمين في احتفال ديني إسلامي، رفض الرجل خلط الدين بالسياسة وأصر على احترام الطابع المدني للدولة، والتأكيد على أن الملك ملك لجميع المصريين باختلاف أديانهم وعقائدهم.
 وفي قضية الاستقلال كان الإنجليز يسعون إلى الوصول إلى حل وسط مع الحركة الوطنية المصرية، فقد أضحى خطر صعود الفاشية والنازية في أوروبا واضحًا، وكان الإنجليز يدركون أن حربًا عالمية ثانية باتت وشيكة، وإن مصر مسرحًا مرشحًا بقوة لها، فإيطاليا الفاشية الحليف الأساسي لألمانيا النازية، تستعمر ليبيا المتاخمة للحدود المصرية، ولها مستعمراتها في القرن الأفريقي، وتحارب في الحبشة، ومصر نقطة ارتكاز محورية للإمبراطورية البريطانية في الشرق الأدنى، وممر رئيسي إلى الهند جوهرة التاج البريطاني كما كانوا يطلقون عليها، إذًا لابد من الوصول إلى معاهدة مع حكومة مصرية منتخبة تحظى بقبول شعبي.
 كان المناخ الدولي والمحلي مواتًا لبدء المفاوضات مجددًا بين الحكومة البريطانية وحكومة الجبهة الوطنية برئاسة النحاس، شكل فؤاد في أسابيعه الأخيرة في الدنيا وفد المفاوضات برئاسة مصطفى النحاس وعضوية ستة وفديين وممثل لكل من أحزاب الأحرار الدستوريين والاتحاد والشعب بالإضافة إلى ثلاثة من المستقلين، كان هدف المفاوضات الوصول إلى توقيع معاهدة للصداقة والتحالف بين الحكومة البريطانية والحكومة المصرية تعترف فيها بريطانيا باستقلال مصر، فالوضع القائم كان يستند إلى تصريح 28 فبراير 1922 الذي تحولت مصر بمقتضاه إلى مملكة دستورية، مع وجود الامتيازات الأجنبية، وإشراف بريطاني على الجيش والبوليس، ووجود كثيف لقوات الاحتلال في المدن المصرية، ووضع مميز للمندوب السامي البريطاني في القاهرة كان قصر الدوبارة مقر السفارة البريطانية أقوى من قصر عابدين مقر الملك.
 كانت المفاوضات صعبة ومضنية خاصة ما يتعلق منها بوضع القوات البريطانية في مصر ومسألة السودان، وبعد أكثر من خمسة أشهر على بدء المفاوضات في 2 مارس 1936 بقصر الزعفرانة بالقاهرة تم توقيع المعاهدة في لندن يوم 26 أغسطس سنة 1936.

 
 لكن ما الذي حققه لمصر وفد التفاوض الذي قاده النحاس باشا بتوقيع المعاهدة، أولًا حققت المعاهدة استقلال مصر وإنهاء الاحتلال البريطاني للبلاد من الناحية القانونية، وألغت التحفظات الأربعة الموجودة في تصريح فبراير 1922، كما ضمنت انضمام مصر إلى عصبة الأمم، تلك المنظمة الدولية التي تأسست لصون السلم الدولي عقب الحرب العالمية الأولى، وتحول المندوب السامي البريطاني إلى سفير، وأصبح من حق مصر عقد المعاهدات مع الدول الأجنبية بشرط ألا تتعارض تلك المعاهدات مع تلك المعاهدة، وتم بمقتضى المعاهدة كذلك إلغاء الامتيازات الأجنبية في القضاء والضرائب، وبالتالي إلغاء المحاكم المختلطة، كما تم إلغاء الإدارة الأوروبية بوزارة الداخلية مع الإقرار بحق مصر في التخلص من المستشارين الأجانب وتمصير الوظائف الحكومية الكبرى، وكذلك سحب جميع المفتشين البريطانيين من الجيش المصري وإلغاء وظيفة المفتش العام ومعاونيه، كما عاد الحكم المصري المشترك إلى السودان وفقا لاتفاقيتي 1899 لحين التفاوض حول تعديلهما، وكانت مدة المعاهدة وملاحقها عشرين عاما مع إمكانية التفاوض حولها برضاء الطرفين بعد عشر سنوات.
 ورغم ما حققته المعاهدة إلا أن ملحقها العسكري كان أقل بكثير مما تطمح له الحركة الوطنية، فقد سمح ببقاء القوات البريطانية في منطقة القناة مع تحديد عددها، كما ألزم الحكومة المصرية بمد الطرق الحربية والسكك الحديدية وإنشاء المطارات اللازمة لاستخدام القوات البريطانية، وأعطى الحكومة البريطانية الحق في نشر قواتها في مصر واستخدام طرقها ومطاراتها وموانئها وأراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية بحرية في حالة الحرب أو التهديد بها.
 لكن المعاهدة كان ينبغي أن تعرض على البرلمان ليبدي رأيه فيه حتى تصبح سارية المفعول، الأمر الذي تحقق في نوفمبر من نفس العام، لقد عارض المعاهدة الحزب الوطني وبعض المستقلين في البرلمان كما عارضها الاتحاد النسائي المصري بقيادة هدى شعراوي وعارضها مفكرون بارزون منهم الدكتور محمود عزمي، لكن المعاهدة حصلت على تأييد البرلمان بمجلسيه بأغلبية كبيرة، واستمرت سارية تحكم العلاقات المصرية البريطانية إلى أن ألغاها مصطفى النحاس مثلما وقعها في أكتوبر 1951 بعد أن سدت بريطانيا كل الطرق أمام استكمال استقلال مصر بجلاء قواتها عن البلاد طوال ست سنوات أعقبت الحرب العالمية الثانية، وأعلنت حكومة الوفد الأخيرة برئاسة النحاس باشا دعم المقاومة الشعبية والكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في منطقة القناة.
تلك المقاومة التي استمرت حتى حريق القاهرة في 26 يناير 1952 لتبدأ مرحلة جديدة في التاريخ المصري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...