الاثنين، 25 أغسطس 2014


اغتيال النحاس...

عماد أبو غازي
 لقد تعرض مصطفى النحاس في حياته للعديد من محاولات الاغتيال نجا منها جميعًا رغم خطورتها، ففي خلال السنوات من 1945 إلى 1949 التي أقصي فيها الوفد عن الحكم، شهدت البلاد موجه من الإرهاب الدموي ارتكبت خلالها عدة جرائم اغتيالات وتفجيرات للمحال التجارية ودور العرض السينمائية، وهي جرائم قامت ببعضها جماعة الإخوان المسلمين وببعضها الأخر تنظيمات صغيرة من الشباب الراديكالي الذي ابتعد عن طريق النضال الوطني إلى طريق الإجرام السياسي، وقد افتتحت هذه الجرائم بجريمة اغتيال أحمد باشا ماهر رئيس الوزراء في فبراير سنة 1946.

 كانت أبرز محاولات الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها النحاس باشا ثلاث محاولات، الأولى في 6 ديسمبر 1945 قام بها الشاب حسين توفيق الذي ألقى قنبلة على سيارة النحاس أثناء مروره في شارع قصر العيني في طريقه إلى النادي السعدي، ولم يصب النحاس في الحادث، ولم يعرف الجاني إلا بعدها بأسابيع عندما اعترف حسين توفيق بأنه مرتكب الحادث أثناء التحقيقات في قضية اغتيال أمين عثمان، أما المحاولة الثانية فوقعت في 25 أبريل 1948 عندما انفجرت سيارة ملغومة بجوار قصر النحاس باشا بجاردن سيتي، ويشغله الآن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ولم يصب أحد في الحادث وإن كانت بعض أركان الدار قد تعرضت للتلف، ولم يستدل على الجناة، ثم في نوفمبر من العام نفسه هاجمت سيارة مسلحة النحاس باشا أثناء عودته إلى منزله مساء فقتلت اثنين من حرسه وجرحت ثلاثة أخرين ولم يعرف الجناة أيضًا.
 لقد عبر النحاس سنوات الإرهاب بسلام، تلك السنوات التي راح ضحيتها اثنان من رؤساء الوزارة، ووزير سابق، ومرشد جماعة الإخوان، ووكيل محكمة استئناف مصر، وحكمدار العاصمة، وعديد من المواطنين اللذين تصادف وجودهم في ساحة الأعمال الإرهابية الإجرامية، نجا النحاس بأعجوبة حتى أنهم كانوا يقولون عنه أنه رجل طيب مكشوف عنه الحجاب.

  لكن محاولات اغتيال النحاس لم تقف عند حد الاغتيال المادي الذي لم يصبه بأذى بل امتدت للاغتيال المعنوي الذي استخدمه خصومه السياسيين كما استخدمته السرايا لمحاولة النيل منه، كانت أول تلك المحاولات القضية المعروفة بقضية الأمير سيف الدين، والتي جرت وقائعها في أواخر عام 1928 وامتدت إلى بداية عام 1929، وترجع أصول هذه القضية إلى عام 1927 عندما تولى مصطفى النحاس وويصا واصف وجعفر فخري كمحامين، وهم جميعا خارج السلطة، قضية رفع الحجر عن الأمير أحمد سيف الدين أحد أفراد الأسرة المالكة الذي كان على خلاف مع الملك فؤاد، وقد حصل المحامون الثلاثة على توكيل من والدة الأمير للسير في القضية، وبدأت الصحف المعادية للوفد حملة تشهير ضد رئيس الوفد وزميليه متهمة إياهم بالخيانة ومخالفة شرف المهنة، وتم تسريب أوراق الدعوى للصحف، واستغلت حكومة الانقلاب الدستوري الثاني (انقلاب محمد محمود) الأمر، فحولت الأمر إلى مجلس تأديب بنقابة المحامين في محاولة للنيل من سمعة النحاس ونزاهته، بدعوى أن الأتعاب التي اشترطوها باهظة، وأنهم اشترطوا أيضا أن مؤخر الأتعاب لا يستحق إلا بعد كسب الدعوى!!! وإنهم قبلوا الدعوى دون التثبت من ظروفها مستغلين نفوذهم السياسي، وحول هذه القضية يقول الخصم السياسي للوفد وللنحاس باشا، المؤرخ عبد الرحمن الرافعي: "عرضت عليِّ الحكومة وقتئذ ـ وكنت محاميا بالمنصورة ـ وظيفة رئيس نيابة الاستئناف، وفهمت من ملابسات العرض أنهم يريدون مني أن أتولى المرافعة عن النيابة العمومية في هذه القضية، فاعتذرت إذ كنت أعتقد أن التهمة لا أساس لها من الصحة... وقد أصدر مجلس التأديب حكمه في 7 فبراير سنة 1929 ببراءة النحاس وزميليه، وأثبت في أسباب حكمه تزييف بعض عبارات الترجمة العربية التي نشرت في الصحف لبعض الوثائق المحررة أصلا بالتركية، وتصيد الشهود ليشهدوا زورًا لمصلحة الاتهام."

 ثم كانت المحاولة الثانية لاغتيال سمعة النحاس باشا من خلال "الكتاب الأسود" الذي أصدره مكرم عبيد باشا، وأحصى فيه ما اعتبره سيئات لحكومة الوفد ولرئيسه مصطفى النحاس، وذلك بعد خروج مكرم عبيد من الوزارة وفصله من الوفد المصري، وقد تسبب صدور الكتاب في اعتقال العمال الذين قاموا بطباعته وتوزيعه واعتقال مكرم باشا نفسه استنادًا إلى الأحكام العرفية التي فرضت مع قيام الحرب العالمية الثانية، ورغم الضجة التي آثارها الكتاب، ورغم الاتهامات التي وردت فيه والتي استخدمت في الهجوم على النحاس لسنوات طويلة، فإن أول انتخابات ديمقراطية أجريت بعد الحرب العالمية أتت بحزب الوفد بزعامة النحاس مرة أخرى إلى الحكم.
 لقد عبر النحاس باشا أكبر محاولتين لاغتياله معنويًا مثلمًا عبر محاولات اغتياله فعليًا واستمر زعيمًا للأمة، إلا أن القضية الكبرى التي أثير حولها الجدل السياسي بشكل واسع حول مصطفى النحاس ومواقفه السياسية وما زال الجدل مثار حولها إلى يومنا هذا، كانت حادثة 4 فبراير 1942.
 كانت حادثة 4 فبراير 1942 ومازالت من أكثر الأحداث إثارة للجدل حول مصطفى النحاس وتاريخه الوطني، فقد استخدمها خصوم النحاس في العهد الملكي للنيل منه والتعريض به، كما ظلت الحادثة بعد يوليو 1952 نقطة الارتكاز في الهجوم على النحاس. وسيظل يوم 4 فبراير 1942 من الأيام التي يختلف المؤرخون والسياسيون في تفسيرها، ولا يتفقون على قراءة واحدة لها.
 ويتلخص الاتهام الذي يوجه إلى الرجل في هذه القضية في أنه جاء إلى رئاسة الوزارة في فبراير 1942 على دبابات الإنجليز، أو بمعنى أدق قبل تولى الحكم بناء على طلب الإنجليز وضغطهم على الملك.

 السير مايلز لامبسون
 حقا لقد عاد الوفد إلى الحكم في 4 فبراير 1942 بناء على طلب السفارة البريطانية، ليس فقط بناء على طلبها بل بضغط شديد منها وصل إلى حد حصار قصر عابدين بالدبابات والتلويح ثم التصريح بعزل الملك فاروق عن العرش، والعمل على ذلك فعليًا بإعداد وثيقة التنازل وتقديمها لفاروق في قصر عابدين للتوقيع عليها أثناء حصار القصر بالدبابات.
 لقد كان الوفد المصري الخصم الأول للإنجليز منذ تأسس في نوفمبر 1918، وظل الإنجليز يناصبون الوفد العداء باعتباره الحزب القائد للحركة الوطنية، كان هذا الوضع قائما أثناء حياة سعد زغلول ورئاسته للوفد، واستمر كذلك بعد وفاة سعد وتولي مصطفى النحاس لرئاسة الوفد، كان الإنجليز دومًا وراء إقالة حكومات الوفد، أو على الأقل كانوا سندًا قويًا للملك فؤاد ولابنه فاروق في العبث بالدستور والانقلاب عليه وفي التلاعب بإرادة الأمة بإبعاد الوفد عن الحكم، حدث هذا في وزارة سعد الوحيدة، وفي وزارات النحاس الأربع الأولى، وكان الوفد دائمًا خصمًا للإنجليز يصطدم بهم في سعيه للحصول على الاستقلال الوطني والديمقراطية.

 فما الذي تغير في فبراير 1942؟ الإنجليز؟ أم النحاس؟ أم الاثنين معا؟
  لم يتغير موقف الإنجليز من الوفد ولا موقف الوفد وعلى رأسه النحاس من الإنجليز، لكن ما تغير كان الظرف الدولي والوضع الداخلي في مصر. كفة الميزان في الحرب العالمية الثانية نهاية عام 1941 والأسابيع الأولى من عام 1942 كانت تسير بشكل واضح في صالح دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، والهزائم تتوالى على الحلفاء، وكانت جبهة القتال في شمال أفريقيا مستعرة، وقوات المحور تتقدم صوب الأراضي المصرية عبر الحدود الليبية، لقد كانت ليبيا مستعمرة إيطالية منذ سنة 1911، وأصبحت في الحرب العالمية الثانية نقطة انطلاق لقوات المحور للتقدم منها لإحكام سيطرتها على شمال أفريقيا كله، كانت السيطرة على مصر وبالتالي السيطرة على قناة السويس هدفًا أساسيًا من أهداف المحور لإحكام سيطرته على العالم، فأوربا كلها باستثناء الجزر البريطانية في قبضة الألمان والإيطاليين، وقوات ألمانيا تقتحم الجبهة الشرقية وتتقدم في الأراضي الروسية، والشرق الأقصى تحت قبضة اليابان، والسيطرة على مصر تفتح الطريق للسيطرة على الشرق الأدنى كله، والانطلاق صوب الهند، كانت قوات المحور بقيادة روميل الذي يحمل في التاريخ الحربي العالمي لقب "ثعلب الصحراء" تتقدم صوب مصر.
 وفي مصر كان الوضع الداخلي غاية في الحرج، طوال أربع سنوات تدير البلاد حكومات أقلية أو حكومات إدارية لا تحظى بتأييد شعبي، وأزمة المواد الغذائية خاصة الدقيق والخبز تتفاقم، لكن الأخطر من ذلك كله كان موقف الملك الشاب فاروق، والموقف السياسي في الشارع المصري، كان فاروق متعاطفًا مع دول المحور، أولًا بحكم ميله للنظم الاستبدادية، وثانيًا بسبب الحاشية المحيطة به والتي تضم عددًا كبيرًا من الإيطاليين، والعلاقة بين إيطاليا وأسرة محمد علي قديمة، فقد استعان محمد علي في مشروعه بعدد من الإيطاليين كما وجه أولى بعثاته إلى هناك، واختار الخديوي إسماعيل إيطاليا منفى له، وعلى نهجه سار فاروق نفسه بعد تنازله عن العرش في 26 يوليو 1952، وفي إيطاليا تعلم الملك فؤاد، ومن هنا كان وجود الإيطاليين في حاشية فاروق طبيعيًا، وكان طبيعيًا أيضًا أن يدفع رجال الحاشية الإيطاليين الملك الصغير الذي كان في مطلع العشرينيات من عمره نحو دول المحور، وترددت أنباء عن مفاوضات سرية بين مبعوثين عن فاروق وهتلر، كما أصبح هناك يقين لدى الإنجليز أن إشارات ضوئية تحمل رسائل للطائرات الألمانية تخرج من قصر المنتزة.

 وعلى المستوى الشعبي وفي ظل إبعاد الوفد عن الحكم وصعود تيارات سياسية متأثرة بالنازية والفاشية مثل حركة "مصر الفتاة"، وتيارات دينية محافظة تعادي الديمقراطية وتعتبرها "رجس من عمل الشيطان" مثل جماعة "الإخوان المسلمون"، تأثر الشارع المصري بتلك التيارات، وخرجت المظاهرات في الشوارع تهتف "إلى الأمام يا روميل"، ربما من منطلق إغاظة الإنجليز، وربما من منطلق وعي سياسي زائف يتصور أن ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية ستحررن مصر من الاستعمار وتمنحانها استقلالها، وكان هذا وهمًا يدل على قصور فادح في الوعي السياسي وقتها.
 لقد ظل الإنجليز يحاولون على مدى شهور تعديل الميزان الداخلي في مصر لصالحهم بالضغط على الملك لإجراء تعديلات وزارية أو لإبعاد بعض الشخصيات المقربة منه من ذوي الميول "المحورية"، دون اللجوء إلى خصمهم الأساسي حزب الوفد، لكن محاولاتهم لم تفلح والأمور تتفاقم وروميل يتقدم في الصحراء الغربية نحو الإسكندرية، عندها لم يعد أمام الإنجليز مفر من المطالبة بعودة خصمهم اللدود النحاس باشا إلى رئاسة الوزارة وهم الذين أبعدوه عنها المرة تلو المرة.
 لكن لماذا قبل النحاس الوزارة؟ في تقديري أن الرجل اختار الانتصار للديمقراطية في مواجهة الفاشية، وأدرك اللحظة الحرجة التي يمر بها العالم، والمخاطر الحقيقية التي تحيق بمصر لو انتصر الألمان واحتلوا مصر، لقد قدر الرجل خطورة الموقف، واتخذ القرار الصائب في استعادة حقه الدستوري في تولي الحكم، ولم يكابر بشعارات جوفاء لم يكن الموقف يحتملها، وبذلك كان مصطفى النحاس واحدًا ممن أسهموا في هزيمة النازية والفاشية، فإذا كان القائد البريطاني مونتجمري قد حقق النصر الميداني على أرض المعركة في العالمين، فما كان لهذا النصر أن يتحقق لولا مصطفى النحاس الذي نجح في تأمين الجبهة الداخلية المصرية، وبعد عامين تقريبًا وبمجرد أن اطمأن الإنجليز إلى أن المحور في سبيله للهزيمة، أعطوا الضوء الأخضر للملك كي يطيح بالنحاس مرة أخرى من رئاسة الوزارة.


هناك تعليق واحد:

  1. مقال رائع من كاتب مبدع.
    جميل ان نستدعي شخصياتنا التاريخية لنستلهم منها الحكمة وبوصلة المصلحة الوطنية .. والتي دائما ما تكون الديمقراطية.
    رحم الله النحاس باشا .. كان زعيم شعبي ورجل دولة من الطراز اﻻول .. ونادرا ما تجتمع الصفتان في رجل.

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...