الثلاثاء، 26 أغسطس 2014


 

 

النحاس في الميزان

عماد أبو غازي

 لقد لعب مصطفى النحاس دورًا مهمًا في السياسة المصرية على مدى نصف قرن، بداية من انتمائه لتيار الحزب الوطني في مطلع القرن العشرين، ثم انضمامه إلى الوفد المصري إلى جانب سعد زغلول، فتوليه زعامته بعد وفاته سنة 1927، وانتهى هذا الدور بعد انقلاب يوليو 1952 بشهور قليلة مع حل الأحزاب السياسية، وظل النحاس معزولًا سياسيًا حتى وفاته في 23 أغسطس 1965.
 

 
 قدم النحاس الكثير لوطنه ولم يلق بعد الاحتفاء الذي يقابل ما أعطاه لمصر، كان مصطفى النحاس واحدًا من أبرز الزعماء التاريخيين لحركات الاستقلال الوطني ذات التوجه الديمقراطي التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، يقف اسمه بجداره إلى جانب أسماء عظيمة لعبت دورًا في تاريخ الإنسانية مثل: غاندي ونهرو في الهند وديفاليرا في أيرلندا وسعد زغلول في مصر، كان خليفة لسعد في نضاله مثلما كان نهرو خليفة لغاندي، وطول تاريخه السياسي قدم نموذجًا للتمسك بالمبادئ، والصمود في وجه العواصف العاتية.
 
 لكن، هل هذا يعني أن مصطفى النحاس كان ملاكًا من السماء؟ أو أنه كان زعيمًا وسياسيًا بلا أخطاء؟

 بالطبع لا، فلا يوجد ملائكة على الأرض، ولا يوجد ساسة بلا أخطاء، بل يمكن القول: إن جانب من جوانب عظمة مصطفى النحاس أنه كان سياسيًا يصيب ويخطئ، إنسانًا مثل غيره من البشر وليس زعيمًا ملهمًا من السماء، تصرفاته وممارساته السياسية قابلة للنقد بل وللنقض، ويمتد النقد إلى حياته الشخصية باعتباره ممارسًا للعمل العام، لذلك كانت حياته الخاصة موضوعًا للمسألة البرلمانية والصحفية والسياسية، وللهجوم اللاذع أحيانًا.

 لقد خاض مصطفى النحاس صرعات السياسة، تحالف وبدل الحلفاء، تحول بعض رفاق دربه إلى خصوم سياسين له، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد العداء السافر، اختلف مع روزاليوسف والعقاد أثناء الانقلاب الدستوري الثالث، انقلاب صدقي وخلفائه، بسبب نقدهما لمواقف الوفد، وكان رد الهيئة العليا للوفد تجاههما حادًا، فتحول بذلك اثنان من أبرز أنصار الوفد إلى خصوم له، اصطدم مع أحمد ماهر والنقراشي، فخرجا من الوفد وأسسا الحزب السعدي، وتحول مكرم عبيد من صديق له ورفيق لدربه إلى عدوه اللدود، وفصل من الوفد فأسس حزب الكتلة وألف الكتاب الأسود.

 ومثلما خسر الحلفاء كسب الأعداء إلى صفه أحيانًا، فتحالف مع خصومه وتعاون معهم في خضم صراعات السياسة ودروبها، لكنه لم يتحالف أبدًا مع أعداء الديمقراطية، ولم يتآمر ضد الدستور، أصاب أحيانًا وأخطاء في أحيان أخرى، بل وتجاوز في بعض الأحيان الحدود، لكنه في كل مواقفه كان سياسيًا تحكم تصرفاته بوصلة رؤيته لقضايا استقلال الوطن والديمقراطية وصيانة الدستور، حتى لو اختلفت التقديرات حول وسائله وأساليبه.

 وجهت انتقادات حادة من معارضية لأساليب حكومتيه الأخيرتين، حكومة 1942 ـ 1944، وحكومة 1950 ـ 1952، بعضها اتهامات تتعلق بسوء الإدارة وبعضها بتصفية الحسابات مع المعارضين للوفد، لكن حكم الشعب كان دائمًا في جانب النحاس، فما من انتخابات حرة أجريت في تلك الفترة إلا وجاءت بأغلبية وفدية للبرلمان ورفعت النحاس إلى رئاسة الوزارة، لكن الحكم النهائي كان عند وفاته.

 لقد كان الاستفتاء الشعبي الحقيقي على مصطفى  النحاس يوم جنازته في أغسطس 1965، فرغم أنه كان بعيدًا عن السلطة والسلطان، ورغم ما تعرض له من عزل سياسي لسنوات قاربت الثلاثة عشر عامًا، ورغم أن اسمه لم يذكر منذ نهاية أزمة الديمقراطية في عام 1954، في وسائل الإعلام الرسمية ـ والتي لم يكن هناك غيرها ـ إلا مصحوبًا باللعنات وبالأكاذيب والمبالغات حول سيرته السياسية والشخصية، فإن الشعب كان له رأي آخر، لم أشاهد الجنازة لأننا كنا في الإسكندرية لكني سمعت عن تفاصيلها ممن رأوها، وأخيرًا شاهدت صورة فوتوغرافية نادرة للجنازة عند انطلاقها من ميدان التحرير نشرتها جريدة الوفد في صدر صفحتها الأولى يوم 31 أغسطس 2008، فرأيت بعض ما سمعت عنه.
 لقد خرج عشرات الآلاف من أبناء مصر تحية لمصطفى النحاس، في جنازة من الجنازات الشعبية المعدودة في تاريخ مصر الحديث، خرجوا يحملون في داخلهم حبًا حقيقيًا للرجل ليودعوه الوداع الأخير، انطلقت الجنازة من جامع عمر مكرم إلى جامع الكخيا بنهاية شارع قصر النيل من جهة ميدان الأوبرا كما كانت العادة في الجنازات الكبيرة وقتها، لكن المشيعون الذين حولوا الجنازة إلى مظاهرة شعبية ضخمة، هي الأكبر منذ انقلاب يوليو لم ينهوا الجنازة كما كان مقررًا لها عند جامع الكخيا، بل أصروا على أن يصلوا على جثمان النحاس في مسجد الأمام الحسين، وقد كان لهم ما أرادوا رغم الحصار البوليسي، حقا لقد أعقب الجنازة حملة اعتقالات قضى بعض ضحاياها شهورًا في المعتقلات، لكن الوداع الأخير للرجل كان كلمة الفصل في تقييم الشعب لزعيم أخلص لوطنه ولقضاياه.

 
 
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...