من
أوراق بدر الدين أبو غازي (7)
فريد
مرة تانية
لما قربت ذكرى محمد فريد سنة 1937 قرر بدر إنه يكتب مقال
تاني عن فريد ويبعته للأهرام برضه، المرة دي كان عنده أكتر من تحدي، أولا إنه
يحافظ على المستوى اللي كتب بيه المقال الأول، وثانيا إنه يقدم فيه جديد خصوصا إنه
بيتكلم عن نفس الشخص وفي نفس المناسبة وأخيرا إن المقال يتنشر زي المقال الأولاني
ما اتنشر.
اللي حصل إن الأهرام نشر المقال في أول صفحة وفي
نفس مكان السنة اللي قبلها، والمقال كان فيه زاوية جديدة في تناول شخصية محمد
فريد، والمرة دي المقال نزل بتوقيع بدر الدين أبو غازي، التوقيع اللي استمر يكتب
طول حياته.
ده المقال اللي نشره الأهرام يوم 16 نوفمبر سنة
1937:
صفحة
من تاريخ الجهاد
ذكرى محمد فريد بك
في مثل هذا اليوم، منذ ثمانية عشر عامًا، طوى
الموت علمًا من أعلام الجهاد وبطلًا كان مضرب الأمثال في التضحية وإنكار الذات في
سبيل وطنه. ذلك هو المرحوم محمد فريد بك الرئيس السابق للحزب الوطني.
حمل
فريد راية الجهاد بعد وفاة زعيمه وصديقه مصطفى كامل، فأقسم أن يقف حياته وماله على
خدمة الوطن، حتى يتحرر شعب النيل وتعود الحرية إلى أرض الفراعنة. ثم أخذ يعمل من
أجل عقيدته الخالدة؛ فسرعان ما نظم الحزب الوطني ونشر مدارس الشعب للقضاء على
الأمية وبعث الروح القومية في نفوس أبناء مصر.
ولما تنكرت له الحكومة في عهد الاحتلال وزجت به
في أعماق السجن، لم يبال فريد هذا لأنه كان يعتقد أن النفوس لا يطهرها إلا الألم،
ولا يسمو بها إلا العذاب، غير أنه أراد أن يثبت للعالم أن صوت مصر لن يسكت أبدًا،
وإنه إذا لم يرتفع على أرض مصر فسيرتفع في أوروبا موطن الحرية، وسيتردد صداه في كل
مكان.
من أجل هذا غادر فريد بلاده إلى أوروبا، وأخذ
يتحدث إلى ضمير العالم الأجنبي عن شعور مصر، وما يضطرب في نفوس أبنائها من عاطفة
وما يطمحون إليه من مثل عليا.
وما أن انعقد مؤتمر السلام حتى تردد صوت فريد
فيه مطالبًا أنصار السلام بالسعي لخلاص مصر حتى تستطيع أن تبني نفسها من جديد أمة
مستقلة ذات سيادة يتمتع أبناؤها بالحرية والمساواة، فما كان من ممثلي الأمم
الأوروبية في المؤتمر إلا أن احتجوا رسميًا على بقاء الاحتلال في مصر.
إزاء ذلك النصر ضاعف فريد جهوده في سبيل إنقاذ
وطنه المنكود، فما كان ينقضي يوم إلا يرسل صيحاته الداوية التي كان يتردد صداها في
مصر، فيثير النفوس الخاملة ويلهب الهمم الفاترة.
وبينما هو ماض في طريقه يدفعه اليقين والإيمان
ويعينه حبه لمصر وإخلاصه لها على الحياة، إذا نذير الحرب يدوي في أوروبا فيحيلها إلى
ساحة من الدماء والأشلاء وتخيم عليها سحابة مظلمة تحجب عنها النور وتحول بينها
وبين أسباب الحياة الهادئة المنتجة، فينسى الناس من أمر مصر كل شيء وتنسى مصر من
أمرها الشيء الكثير.
وأخيرًا انقشعت هذه السحابة وانتهت الحرب بما
انتهت إليه ففاء المصريون إلى أنفسهم، ونظر الشعب في حيرة وتردد إلى ما أصابه من
بلاء وما حل به من عذاب.
وكانت أنباء تلك الحياة البائسة التي يحياها
الشعب تصل إلى فريد في منفاه فلا تزيد ألمه إلا شدة ولا تملأ نفسه إلا إيمانا
بالمبدأ الأسمى الذي يعمل من أجله ويضحي في سبيله، فأخذ يعد المذكرات الضافية عن
أعمال الاستعمار ويبعث بها إلى رؤساء الحكومات، ثم لا يكتفي بذلك بل يصدر مجلة
شهرية لا تتحدث إلا عن مصر ولا تدعو إلا للاستقلال التام عقيدة مصر ومبدأها
الخالد.
ولما اندلعت ألسنة الثورة على ضفاف النيل وتحولت
مصر إلى أتون يستعر ناره، شاء القدر ألا يشهد فريد هذه الثورة التي كان هو وأصحابه
في طليعة رسلها في نفوس المصريين، فإذا هو مريض في هذه البلاد القصية التي طالما
تردد في جوانبها صوته القوي الثائر، وإذا هو نزيل غرفة صغيرة من هذه الغرف التي
أعدت للعمال في أحياء برلين الفقيرة يعاني آلام المرض والفاقة بعد أن أنفق كل ما
ملك من مال وجهد من أجل مصر، وإذا الموت يسدل الستار على هذه الحياة الحافلة بصنوف
الجهاد والتضحية فتهدأ أنفاس البطل العظيم.
والآن يثوى فريد في ركن قصي من الصحراء الساكنة
لا يزوره إلا نفر قليل من هؤلاء الذين قدروا رسالة زعيم مصر الثاني. الآن تمر ذكرى
فريد دون أن يزرف الشعب دمعه وفاء على الرجل الذي أفنى حياته في خدمته وعانى من
صنوف العذاب ما عانى.
أفلم يحن إذن ذلك اليوم الذي يقوم فيه المصريون
بواجبهم نحو فريد وصحبه الأبطال فيشيدون لهم التماثيل ويروون قبورهم بدموع الوفاء
والذكرى!!
بدر الدين أبو غازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق