عصر الغوري... زمن البناء والفناء
عماد أبو غازي
مرت على مصر في تاريخها الطويل فترات عانت فيها
من أزمات شديدة أثرت في حياة الناس وانعكست على سلوكهم، مثلما عاشت قرون ممتدة من
الازدهار والبناء الحضاري، وكانت تلك الأزمات عادة مؤذنة بانهيار دول وقيام دول
جديدة، أو فاتحة لعصور احتلال أجنبي طويل، لكن مصر حتى في أشد أزماتها عرفت بقع
ضوء صغيرة لم تنطفأ كانت بمثابة البذور التي تنبت الحضارة من جديد.
ومن لحظات الأزمة في تاريخنا المصري السنوات
الأولى من القرن السادس عشر الميلادي العاشر الهجري، تلك السنوات التي شهدت سقوط
دولة المماليك الـﭽراكسة وخضوع مصر لقرون ثلاثة من الاحتلال العثماني.
تعود بنا عجلة الزمن اليوم إلى ذلك العصر، مصر
في أواخر عصر دولة المماليك الـﭽراكسة، وعلى وجه التحديد إلى عهد السلطان الأشرف
قانصوه الغوري، الذي حكم البلاد ما بين سنتي 1501 و1516 ميلادية الموافقة لسنوات
906 و922 هجرية.
لقد تمكن السلطان قانصوه الغوري بفضل الدهاء
السياسي الذي كان يتمتع به من الاستمرار في حكم مصر لمدة خمسة عشر عاما، فدخلت مصر
في أيامه مرحلة من استقرار السلطة بعد سلسلة من الاضطرابات والفوضى والصراعات
السياسية والعسكرية بين أمراء المماليك، لقد عاشت مصر في السنوات الخمس السابقة
على حكم السلطان قانصوه الغوري حالة من عدم الاستقرار منذ توفى السلطان الأشرف
قايتباي أقوى سلاطين دولة المماليك الجراكسة في سنة 901 هجرية الموافقة لسنة 1496
ميلادية، ففي خمس سنوات تولى حكم البلاد خمسة سلاطين، كان مصير أربعة من بينهم
العزل أو القتل، الأمر الذي أنهك البلاد وأضعفها وأنهى حالة الاستقرار والسكينة
التي شهدها عصر السلطان الاشرف قايتباي، وإذا كان عصر الغوري قد شهد استقرارا
لنظام الحكم واستتبابا لأمور السلطنة، أراح المصريين من وطأة الصراعات العسكرية المستمرة
في شوارع القاهرة وضواحيها بين أمراء المماليك وما كان يترتب عليها من سلب ونهب،
إلا أن البلاد كانت تعيش في ظروف صعبة، ما بين أزمة اقتصادية طاحنة، ومظالم
متزايدة، هذا فضلًا عن الأخطار الخارجية التي كانت تحيط بالبلاد من كل جانب
البرتغاليون من الجنوب والصفيون من الشرق ثم العثمانيون من الشمال.
هذا فضلًا عن أن مصر كانت تمر بأزمة مست الهياكل
الاقتصادية الأساسية في المجتمع، وهزت قواعد اقتصاد البلاد، والذي كان يعتمد بشكل
أساسي على الإنتاج الزراعي، ثم على تجارة المرور. وقد بدت مظاهر تلك الأزمة في
ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو ندرتها في الأسواق، والحديث عن تلك المظاهر متكرر
في كثب الحوليات التاريخية، فنادرًا ما تمر سنه من السنوات دون حديث هنا أو هناك
عن ارتفاع في سعر سلعة أساسية أو اختفاء سلعة أخرى، وكان هذا انعكاسا للنقص
المستمر في مساحة الأراضي المزروعة بسبب انخفاض عدد السكان، وبالتالي انخفاض قوة
العمل، لقد تفاعلت الأزمة
الاقتصادية مع الأزمة السكانية التى عاشتها مصر فى القرنين التاسع والعاشر
الهجريين، والمتمثلة فى نقص عدد السكان وفناء أعداد كبيرة منهم، بسبب موجات القحط
والمجاعات والأوبئة المتوالية فقد أدى هذا النقص السكانى إلى مزيد من تأزم الأوضاع
الاقتصادية بسبب نقص الأيدى العاملة اللازمة للزراعة، وبالتالى بوار مساحات جديدة
من الأراضي، والعجز عن ضم محاصيل أراض أخرى، الأمر الذي ترتب عليه نقص المواد
الغذائية وارتفاع في أسعارها. هذا بالإضافة إلى انهيار كثير من الصناعات والحرف.
وكان الارتفاع المستمر في أسعار السلع يساوي انخفاضا مقابلا
في القيمة الشرائية للعملة، علاوة على انخفاض قيمتها الفعلية بسبب انخفاض نسبة
المعدن الثمين فيها، وهكذا ارتبطت الأزمة الاقتصادية بأزمة مالية، تراجع فيها دور
الذهب في النظام النقدي لدولة المماليك، وسادت العملات الفضية ثم النحاسية، كما
تغلغلت إلى الأسواق المالية العملات الذهبية الأجنبية القوية وتراجع الدينار
المصري. ومما ساعد على تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في عصر المماليك ووصولها
إلى الذروة، اكتشاف الرحالة البرتغالي فاسكو دي جاما لطريق رأس الرجاء الصالح سنة
1498 ميلادية. وكان ذلك الكشف ضربة أجهزت على وضع مصر كمركز رئيسي في طريق تجارة
المرور بين الشرق والغرب، ففقدت بذلك مصدرا أساسيا من مصادر داخلها، وفي الوقت
ذاته شكل وصول السفن البرتغالية إلى مياه المحيط الهندي وبحر العرب، بل والبحر
الأحمر عبئا عسكريا جديدا على مصر كانت له تكلفته الاقتصادية الباهظة.
وفوق
هذا وذاك كانت مصر تعيش في ظل فساد لم تشهد له مثيلا في تاريخها، ووصل الفساد إلى
حد تولي مناصب القضاء ومناصب الدولة برشاوى تدفع للسلطان، وعندما غضب الغوري على
قضاة القضاة الأربعة في مصر ذات مرة وعزلهم دفعة واحدة أضطر بعد عدة أيام إلى
تعيين غيرهم دون أن يتلقى رشوة منهم سجل مؤرخ عصر الغوري محمد بن أحمد بن إياس
المصري في كتابة بدائع الزهور في وقائع الدهور الواقعة باعتبارها من النوادر التي
تستحق الذكر في زمن الغوري، وإن دل هذا على شيئ فإنما يدل على مدى تغلغل الفساد في
البلاد وقتها.
لكن الصورة كان لها عدة أوجه، فالغوري كان من
البنائين العظام شيد عديد من العمائر الدينية والمدنية والتعليمية والاقتصادية
والعسكرية، كما كان يعقد مجالس للعلم والأدب يجمع فيها علماء وأدباء عصره، وعندما
سقط الغوري صريعا في معركة مرج دابق وهو يدافع عن سلطنته، كتب ابن إياس عنه قائلا:
"وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية والشامية خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة
وعشرين يوما، فكانت هذه المدة على الناس كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. وكانت
صفته طويل القامة غليظ الجسد ذو كرش كبير، أبيض اللون، مدور الوجه، مشحم العينين،
جهوري الصوت، مستدير اللحية، ولم يظهر بلحيته الشيب إلا قليلا. وكان ملكا مهابا
جليلا مبجلا في المواكب ملئ العيون في المنظر، ولولا ظلمه وكثرة مصادراته للرعية
وحبه لجمع الأموال لكان خيار ملوك الـﭽراكسة بل وخيار ملوك مصر قاطبة.... واستمر
يرتع في ملك مصر على ما ذكرناه من التنعم والرفاهية، وهو نافذ الكلمة وافر الحرمة والأمراء
والنواب والعسكر في قبضة يده لم يختلف عليه اثنان، إلى أن وقعت الوحشة بينه وبين
سليم شاه بن عثمان ملك الروم فخرج إليه، وجرى له هذه الكاينة العظمى التي لم تقع
لملك من ملوك مصر ولا غيرها من الملوك...".
وبعد أن يسترسل ابن إياس في ذكر مظالم الغوري
ومساوئه يبدأ في سرد الوجه الآخر من الصورة، مجموعة منشأته المعمارية العظيمة التي
تعبر عن قمة من قمم فنون العمارة والبناء التي وصل إليها المعماريون المصريون في
ذلك العصر، والتي يستغرق تعديدها صفحتين كاملتين من تاريخ ابن إياس، وتتنوع هذه
المنشأت والعمائر ما بين قصور ومدارس ومساجد وأسبلة ووكالات وخانات وتحصينات
عسكرية، ولعل أشهر أعماله تلك المجموعة المعمارية التي تضم الجامع والمدرسة
والخانقاه والقبة والضريح والوكالة في خط الشرابشيين من أخطاط القاهرة الفاطمية،
تلك المنطقة التي سميت بعدها على اسمه، حي الغورية.
ولنترك الحديث لابن إياس مره أخرى يعدد ما أنشأه
السلطان قانصوه الغوري من العمائر بالقاهرة، قال ابن إياس: "فمن ذلك الجامع
والمدرسة اللتان أنشأهما في الشرابشيين، والوكالة والحواصل والربوع التي أنشأها
خلف المدرسة عند المصبغة، ومن إنشائه المئذنة التي أنشأها في الجامع الأزهر وهي
برأسين، وأنشأ هناك الربع والحوانيت التي بالسوق خلف الجامع. وأنشأ الربوع التي
بخان الخليلي، وجدد عمارة خان الخليلي وأنشأ به الحواصل والدكاكين. وأنشأ في باب
القنطرة ربعين ودكاكين، وكذلك الربعين التي بين الصورين والطاحون عند المصبغة.
وأنشأ البيت الذي في البندقانيين لولده وتناهى في زخرفه، وأنشأ هناك ربعا ووكالة،
وأنشأ الميدان الذي تحت القلعة، ونقل إليه الأشجار من البلاد الشامية، وأجرى إليه
ماء النيل من سواقي نقالة، وأنشأ به المناظر والبحرة والمقعد والمبيت برسم
المحاكمات. وأنشأ جامعا خلف الميدان عند حوش العرب بخطبة ومأذنة، وجدد غالب عمارة
القلعة......". ويعدد منشاءته الأخرى خارج القاهرة، بل وخارج مصر كذلك:
"وأنشأ بالطينة على ساحل البحر الملح قلعة لطيفة بها أبراج وجامع بخطبة،
وأنشأ بثغر رشيد سورا وأبراج لحفظ الثغر، وجدد عمارة أبراج الإسكندرية، وأصلح طريق
العقبة، وأنشأ هناك خانا بأبراج على بابه، وجعل فيه الحواصل لأجل ودائع الحجاج،
وأنشأ في الأزنم أيضا خانا وجعل فيه الحواصل مثل الخان الذي في العقبة، وحفر هناك
الآبار في عدة مواضع من مناهل الحجاج، وخارجها، وأنشأ بمكة المشرفة مدرسة ورباطا
للمجاورين والمنقطعين هناك، وأجرى عين بازان بعد ما كانت انقطعت من سنين، وأنشأ
بجده سورا على ساحل البحر الملح وفيه عدة أبراج بسبب حفظ بندر جدة من الفرنج، وجاء
هذا السور من أحسن المباني هناك، وأنشأ على شاطئ البحر الملح بالينبع الصغير سورا
وأبراجا منيعة، وله غير ذلك من الآثار الحسنة عدة مبان..."
ويلخص
تقييمه للغوري في عبارة موجزة:
"كان خيار ملوك الـﭽراكسة على عوج فيه....
وقد افتتح أوائل دولته بمصادرات وظلم وأخذ أموال بغير حق، واختتمت أواخر دولته
بفتن وضرب سيف وذهاب أموال وأرواح وأمور مهولة وحوادث غريبة وفتن عظيمة ليس لها
آخر، والأمر إلى الله من قبل ومن بعد يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق