الخميس، 1 يونيو 2017

دولة البرين والبحرين... دولة الجباية والمصادرة

دولة البرين والبحرين
 دولة الجباية والمصادرة
عماد أبو غازي
 بعد سنوات قليلة من تأسيس دولة المماليك سقطت دولة الخلافة العباسية، وقد نجح المماليك بقيادة سيف الدين قطز في صد المغول وهزيمتهم في موقعة عين جالوت، وأصبحت دولة المماليك القوة الكبرى في عالم الشرق، واستكملت دولتهم في عهد بيبرس وقلاوون وأبنائه تصفية الممالك الصليبية الصغيرة في بلاد الشام، واستمرت قوة دولة المماليك التي سيطرت على مصر والشام وبلاد الحجاز في صعود، لكن هذا الصعود سرعان ما انقلب إلى تراجع وانهيار بسبب صراعات السلطة بين الأمراء الكبار، وما أن انتصف القرن الرابع عشر الميلادي إلا وكان الحال قد تبدل، وبدأ الوهن يصيب دولة البرين والبحرين، البر الشامي والبر المصري، والبحر الأحمر والبحر الأبيض، لكن الدولة سرعان ما تصحو من جديد بقيام  دولة المماليك الجراكسة، لكنها كانت صحوة ما قبل الموت، صحوة الاحتضار الذي استمر قرابة قرن من الزمان، احتضار طويل تتخلله ارتعاشات للجسد تخالها عودة للروح، لكن الانهيار كان المصير المحتوم في نهاية المطاف.

 لقد كانت مصر في تلك الحقبة تعيش لحظات تحول وانتقال في تاريخها؛ فقد خرجت من محنة الفناء الكبير أو الموت الأسود الذي ضرب العالم القديم كله من مشرقه إلى مغربه في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وكانت البلاد تحاول أن تستعيد قواها مرة أخرى بعد أن أنهكها الوباء القاتل واستنزفها عندما حصد أرواح مئات الآلاف من البشر.
  ومن ناحية أخرى كانت الصراعات السياسية تعصف بكيان الدولة، دولة المماليك البحرية التي ظهرت إلى الوجود على أنقاض الدولة الأيوبية عقب معركة المنصورة التي انتصر فيها مماليك الصالح نجم الدين أيوب على لويس التاسع، وكان هذا الانتصار هو شهادة الميلاد للدولة الجديدة التي حملت أعباء القضاء على الوجود الصليبي في المشرق العربي، وبمجرد نجاح تلك الدولة في مهمتها التاريخية في عصر خليل بن قلاوون بدأت تفقد مبرر وجودها التاريخي، وبدأ الضعف يدب في كيانها، وبدا الأمر كما لو كان النجاح إيذانا بالنهاية، ونجح بالفعل أحد الأمراء الكبار هو برقوق بن أنص الجركسي في الاستيلاء على السلطنة وإقامة دولة جديدة هي دولة المماليك الـﭽراكسة التي تأسست في سنة 784 هجرية، ورغم أن السنوات الأولى لهذه الدولة قد شهدت دفعة قوية للبلاد على يد السلطان الجديد الظاهر برقوق، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى التدهور المتسارع في عصر خلفائه ودخلت مصر في أزمة تاريخية خانقة لم تستطع منها فكاكا رغم كل المحاولات الإصلاحية التي قام بها سلاطين من أمثال شيخ وبرسباى وقايتباى خلال القرن التاسع الهجري وانتهى الأمر بسقوط مصر في براثن الاحتلال العثماني سنة 923 هجرية الموافقة لسنة 1517 ميلادية.
 وفي عصر دولة المماليك الـﭽراكسة جاءت الموجة التترية الثانية بقيادة تيمور لنك ووصلت إلى دمشق واحتلتها، ورغم تراجع تلك الموجة إلا أن دولة المماليك عانت من التراجع في مكانتها الإقليمية.
  لقد أخذت عوامل الانهيار تنخر فى جسد الدولة طوال سنوات، حتى أصبحت مصر ـ دولة ونظاما- فى أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجريين، أى ما يقابل القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، تعيش مرحلة أفول، أما هذه العوامل ـ كما رصدها المؤرخون المعاصرون لتلك الفترة ـ فهى عديدة ومتنوعة ومتشابكة فى الوقت نفسه، إذ اختلطت المظاهر بالأسباب، واختلطت الأسباب بالنتائج، فدخل المجتمع المصرى فى حلقة متوالية من التردى والتدهور المستمر.
 فعلى الصعيد الاقتصادى؛ عاش المجتمع المملوكى لسنوات طوال فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة، ولو تتبعنا مظاهر هذه الأزمة؛ فسوف نجد المصادر التاريخية مليئة بأمثلة لها، فالحديث عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو ندرتها في الأسواق أو اختفائها أساسا، وكان السبب الأساسي وراء ذلك نقص المساحة المزروعة، الذي يرجع إلى نقص السكان بسبب الأوبئة والمجاعات، وكان نقص السلع والغلاء يؤدي إلى مزيد من المجاعات التي تدفع بالبلاد إلى مزيد من التأزم وتدور الأمور في حلقة مفرغة لا فكاك منها.
 وكان الارتفاع المستمر فى أسعار السلع يؤدي إلى إنخفاض القيمة الشرائية للنقود، التي كانت قيمتها قد تراجعت أصلا بسبب انخفاض نسبة المعدن الثمين فيها.
 وقد تصدت الدولة لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، لكنها اتبعت أساليب فاقمت من حدة هذه الأزمة بدلا من أن تؤدى إلى حلها. فقد لجأت الدولة إلى فرض ضرائب جديدة؛ أو إلى زيادة الضرائب المفروضة، الأمر الذي أدى إلى اتساع ظاهرة هجر الفلاحين للأرض، وبالتالى مزيد من النقص فى مساحة الأراضى المزروعة، والمصادر التاريخية مليئة بذكر أنواع الضرائب والمكوس والمغارم التي كانت الدولة تفرضها باستمرار فى محاولة لزيادة مواردها.
 أما الأسلوب الثاني الذي لجأت إليه الدولة فكان احتكار تجارة بعض السلع، أو قيام الدولة ـ ممثلة في السلطان- بشراء سلعة ما من السواق بسعر أقل من سعرها؛ ثم إعادة بيعها بسعر أعلى، أو فرض سلع معينة من الذخيرة السلطانية (تجارة السلطان) على التجار بسعر محدد أو بعملة محددة. وقد امتد هذا الأسلوب إلى التجار الأجانب الذين كانت الدولة تتعامل معهم، فأدت هذه السياسات في الداخل إلى مزيد من رفع الأسعار، وفي العلاقات التجارية الخارجية إلى اضطراب في علاقات مصر التجارية.
  كذلك لجأ السلاطين إلى أسلوب مصادرة الإقطاعات والعقارات والأموال. وقد زاد هذا الأسلوب من تعقيد الأزمة، حيث أدت سياسة المصادرات إلى تعسف الموظفين فى جمع الأموال بكل الطرق حتى يتمكنوا من الوفاء بما قد يطلبه منهم السلطان؛ أو يعوضوا ما يصادره، ومن ناحية أخرى؛ أدت المصادرات إلى زيادة واضحة فى الأراضى والعقارات الموقوفة، فقد كانت مصادرة الأوقاف - أو فرض الضرائب عليها- أكثر صعوبة منها على غيرها من أراض وعقارات، حتى بلغت مساحة أراضى الأوقاف فى مصر عند دخول العثمانيين ما يقرب من نصف مساحة الأراضي الزراعية، وانعكس هذا بطبيعة الحال على قدرة الدولة على منح الإقطاعات، ومن ثم فقد بدأ الانهيار يتسرب بسرعة إلى النظام العسكري المملوكي.
 ومن الأساليب التي لجأت إليها الدولة لحل المشكلة الاقتصادية غش العملة بتخفيض نسبة المعدن الثمين فيها، أو إنقاص وزنها أو عيارها؛ وفي الوقت نفسه إرغام الناس على التعامل بها بقيمة أعلى من قيمتها الحقيقية.
 وباستثناء بعض المحاولات القليلة للإصلاح النقدي الجاد- التي لم يقدر لها الاستمرار طويلا- لا نجد إلا حلولا تزيد المشاكل الاقتصادية تفاقما.
 وفي نفس الوقت؛ تراجعت الدولة عن أداء كثير من مهامها فى مجال الإنشاءات والأعمال الضرورية لخدمة الزراعة، كشق الترع والقنوات؛ وإقامة الجسور السلطانية، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الانهيار في الوضع الاقتصادي.
 لقد كانت كل سياسات تلافي الأزمة في حقيقتها سياسات منحازة؛ تخدم مصالح القمم العليا لطبقة المماليك المسيطرة على المجتمع. ومن الجدير بالملاحظة أن سياسات الدولة لحل المشكلة الاقتصادية والمالية؛ تواكبت مع زيادة إنفاق الفئات العليا فى المجتمع على الاستهلاك الترفي، وزيادة إنفاق الدولة على الأعباء العسكرية، بصورة أصبحت معها التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لتصرفات المماليك شديدة الوطأة على اقتصاد البلاد، حيث أصبح المجتمع المصري قائما على تبديد فوائض إنتاجه بشكل مستمر.
 لقد انعكست الأزمة الاقتصادية على الصعيد الاجتماعى فى صورة تزايد واضح فى حدة الفوارق الطبقية في المجتمع. وقد لفتت هذه الظاهرة إنتباه مؤرخي العصر؛ فرصدوها في كتابتهم. كذلك رصد الرحالة الذين زاروا مصر هذه الظاهرة، ففي الوقت الذي يصفون فيه حياة المماليك بالبذخ الشديد ويصفون ثراء قصورهم ودورهم، فإنهم يصفون حياة العامة في المدن والفلاحين في الريف بالبؤس الشديد والفقر المدقع.
 ولعل الوثائق الخاصة شاهد أكيد على هذه الظاهرة، فما فيها من وصف لقصور ودور المماليك وكبار رجال الدولة وكبار رجال الدين؛ يعكس مدى رفاهية الحياة التي كان هؤلاء يعيشون فيها، فى مقابل آلاف من السكان يعيشون بلا مأوى.
 وعلى مستوى آخر؛ شهد العصر المملوكي الجركسي تفككا واضحا داخل إطار الطبقة العليا في المجتمع؛ فقد انهار النظام الاجتماعى للمماليك الذى كان يعتمد على ولاء المماليك لأميرهم (الأستاذية)، وارتباط المملوك بزملائه (الخشداشية) لقد تحللت هذه العلاقات بسبب السياسات الجديدة التى أتبعت فى دولة الجراكسة فى شراء المماليك، فبدلا من شراء المماليك أطفالا صغارا وتربيتهم فى الطباق، لجأ السلاطين والأمراء إلى شراء مماليك من الشباب اليافع عرفوا باسم الجلبان، وذلك فى محاولة لتعويض الأعداد التى فقدت فى الفناء الكبير، ومع انتشار هؤلاء الجلبان؛ بدأت علاقات الولاء داخل المجتمع المملوكي تتفكك وتتهرأ. كذلك، كان لاتجاه السلطان برقوق إلى الإكثار من الجراكسة وتوليتهم المناصب الأساسية فى الدولة؛ أثره البالغ فى تنمية التمايز بين المماليك من أصل جركسي والمماليك من أصول أخرى.
 وهكذا احكمت الأزمة خناقها على دولة البرين والبحرين التي صارت دولة للجباية والمصادرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...