زمن المماليك... علامات النهاية
عماد أبو غازي
عاشت مصر في القرن الأخير من زمن المماليك في
ظلال أزمة اجتماعية اقتصادية طاحنة، وكان من الطبيعى أن تؤثر هذه الأزمة
الاجتماعية على الوضع السياسى، فتنعكس فى تفاقم وضع الانفصام بين الشعب المحكوم
والطبقة العسكرية الأجنبية الحاكمة، فتسود حالة من عدم المبالاة بمصير الدولة، إلا
أنه على الرغم من حدة الفوارق الطبقية، والشعور العام بالسخط، وكراهية الشعب
للمماليك، فإن كل حركات المقاومة اتخذت طابعًا عفويًا، ومن ثم لم تقم أى حركة
إيجابية لتغيير المجتمع، لقد اتخذ التمرد والعصيان أشكالًا سلبية؛ كرفض المجتمع
والهرب منه، أو تشكيل جماعات من العياق والشطار والفتيان، وفى حالات أخرى كون
الخارجون على المجتمع عصابات تسطو على الأسواق فيما عرف باسم المناسر، جمع منسر، وربما
كانت أقوى حركات التمرد والعصيان هى ثورات العربان الذين عاشوا على أطراف الوادى
والدلتا؛ ونجحوا فى الاحتفاظ لأنفسهم بوضع خاص طوال العصر المملوكي احتفظوا فيه
بحقهم في حمل السلاح، لكن ثورات العربان لم تكن وبالًا على الحكام من المماليك
فقط، بل كانت عواقبها تصيب الفلاحين المصريين كذلك، الذين كانوا يعانون من العربان
بمثل ما يعانون من حكام البلاد المماليك.
وعلى الصعيد السياسى كذلك؛ شهدت البلاد حالة من
عدم الاستقرار فى السلطة، فداخل النخبة الحاكمة؛ بلغت الصراعات على السلطة أشدها
لدرجة أن أربعة عشر من سلاطين دولة الجراكسة قتلوا أو عزلوا، ولم تتجاوز فترات حكم
كثير من سلاطين الجراكسة شهورًا قليلة؛ بل إن بعضهم لم يتح له تولى السلطنة إلا
لساعات!
ولم يقتصر الاضطراب والصراع بين المماليك على
القمم العليا فى هذه الطبقة؛ بل امتد ليصل إلى المماليك الصغار، لقد عرف عصر
الجراكسة عشرات من حالات التمرد التى يقوم بها المماليك ـ خاصة الجلبان - احتجاجًا
على التأخير فى صرف جوامكهم (مرتباتهم)، أو على إنقاص هذه الجوامك. وكان لهذه
الثورات والاضطرابات السياسية آثارها السلبية على الوضع الاقتصادى، فإذا كان معظم
هذه الثورات والإضرابات قد نجم عن سوء الأوضاع الاقتصادية، فقد دفعت من ناحية أخرى
بالوضع الاقتصادى إلى الهاوية، إذ عندما تقع هذه الاضطرابات فى الريف؛ كانت تؤدى
إلى مزيد من هجر الفلاحين للأراضى. أما إذا وقعت فى المدن؛ فكانت أولى نتائجها
إغلاق الأسواق وتخريبها.
وامتدت مظاهر الاضطراب والفساد إلى الإدارة
الحكومية للبلاد؛ فأصبحت الوظائف تولى بالرشوة أو تشترى من السلطان، وبالتالي أصبح
من يلي الوظيفة هو من يقدر على الدفع لا من يصلح للقيام بمهامها. كما أصبح الهم
الأول لموظفى الدولة استعادة ما دفعوه للسلطان أو لكبار الأمراء حتى يصلوا إلى هذه
الوظائف، ومن ثم فقد بالغوا فى فرض المغارم والرسوم على الأهالى حتى يعوضوا ما
دفعوه، وذلك فى وقت كانت حالة غالبية الشعب تسير من سيئ إلى أسوأ؛ ولا تحتمل فرض
أى أعباء جديدة، هذا وقد امتدت ظاهرة تولى الوظائف بالرشوة إلى القضاة، فأصبح تولى
منصب قاضى القضاة رهنًا بما يدفعه الساعي إلى الوظيفة من مال للسلطان، ولجأ القضاة
إلى أساليب متعددة لاستعادة ما دفعوه للسلطان مقابل توليهم وظائفهم، فإما الحصول
عليها من المتقاضين، أو بتعيين أعداد كبيرة من النواب أكثر من الحاجة، في مقابل
مبالغ من المال يدفعها هؤلاء النواب لهم، فدخل بذلك الفساد إلى القضاء.
وهكذا أصبح الراغب فى قضاء حاجة من حاجاته مطالبًا
أن يقدم لعمال الدولة وقضاتها مقابلًا ماليًا أخذ فى التزايد مع اشتداد الأزمة، بل
إن التجار والزائرين الأجانب كانوا مضطرين لدفع رشًا لكبار رجال الدولة ليضمنوا
معاملة طيبة منهم.
لكن أخطر ما فى الأمر هو امتداد ظاهرة الرشوة
إلى تولى المناصب العسكرية، الأمر الذي زاد الجيش المملوكي ضعفًا على ضعف.
لقد كان انهيار القوة العسكرية للجيش المملوكي في
العصر الجركسي أمرًا واضحًا للعيان وله أسبابه المتعددة، فقد خرجت مصر من الوباء
الكبير وقد فقدت قسمًا كبيرًا من سكانها، ومن بين من فقدتهم قطاعات من الجيش
المملوكي.
وكانت الأزمة الاقتصادية الطاحنة عاملًا ثانيًا
أضعف الجيش من ناحية، وقيد قدرة سلاطين المماليك فى تعويض من فقدوهم من مماليك،
كما قيدت كثرة الأوقاف في الأراضي الزراعية أيديهم في منح الإقطاعات العسكرية.
ثم كانت
الحروب المتوالية في مطلع القرن التاسع الهجري، فزادت الجيش إنهاكًا على إنهاكه.
وأخيرًا...
فإن سياسة الاعتماد في تعويض النقص في الجيش على المماليك الذين يجلبون شبانًا
كبارًا أدت إلى انهيار تقاليد وقواعد الفروسية المملوكية؛ خاصة بعد أن سمح
السلاطين لمماليكهم بسكنى المدينة ومغادرة الطباق.
إن ما عاشته مصر منذ الوباء الكبير الذي حل بها
فى منتصف القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) كانت شكل من أشكال الأزمات
التقليدية التي عاشتها المجتمعات البشرية في الشرق والغرب في العصور الوسيطة، لكن
أبعاد هذه الأزمات وآثارها القريبة والبعيدة تفاوتت من مجتمع إلى آخر حسب استجابته
لهذا التحدي الطبيعي، ففي الوقت الذي دفعت فيه الأزمة المجتمعات الأوروبية إلى
الانطلاق من ظلام العصور الوسطى إلى النهضة والتحديث، إلى مشارف العصر الحديث كانت
استجابة المجتمع المصري في العصر المملوكي لهذه الظواهر سلبية وعاجزة.
وعلى الرغم من كل هذه الأزمات المتوالية أو ربما
بسببها فقد عرفت مصر في ذلك الوقت سنوات من الازدهار الفكري، خاصة مع تراجع الحكم
العربي للأندلس ثم زواله نهائيًا، ونزوح كثير من علمائه إلى مصر، وكان في مقدمتهم
العلامة ابن خلدون، كما ظهر فيها علماء من أبنائها من أمثال القلقشندي أو من أسر
نزحت من المشرق العربي من أمثال تقي الدين المقريزي، لقد كان عصر التحول عصرًا
جاذبًا لاحتراف الكتابة التاريخية وازدهارها، فازدهار الكتابة التاريخية دومًا
مرتبط بعصور النحو والاضطراب أكثر من ارتباطه بعصور الاستقرار.
كما عرفت البلاد كذلك ازدهارًا غير مسبوق في
تاريخنًا في العصر الإسلامي للفنون والحرف والهندسة والمعمار.
لكنها لم تشهد نضجًا لقوى اجتماعية محلية قادرة
على الإمساك بزمام المبادرة والإطاحة بدولة المماليك العاجزة والانطلاق بالمجتمع
المصري إلى الأمام.
لقد ارتبط المصير المحتوم لدولة المماليك بظهور
قوة إقليمية جديدة صاعدة، فقد أدى ظهور الدولة العثمانية في آسيا الصغرى إلى تراجع
دور سلطنة المماليك تدريجيًا إلى أن زالت دولتهم في عامي 1516 ـ 1517م /922 ـ 923 هـ،
على يد العثمانيين، ولم يكن الغزو العثماني لمصر حدثًا مفاجئًا في تاريخ المنطقة،
إذ إنه منذ منتصف القرن التاسع الهجرى بدأت علاقات الود والصداقة بين الدولتين
المملوكية والعثمانية تنقلب إلى علاقات عداء؛ حتى انتهت بهذه الحرب التى قضت على
دولة المماليك. وقد مرت العلاقات العثمانية المملوكية ابتداءً من عهد برقوق
(784-801هـ/ 1382- 1399م) بفترات من التوتر والانفراج بلغت حد الصدام العسكرى في
عهد قايتباى (872 ـ 901 هـ / 1468 ـ 1496م)، لقد تمثلت أهم الأسباب المباشرة لهذا
الصدام فى تكرار إيواء المماليك للأمراء العثمانيين الفارين من حمامات الدم في
البلاط العثمانى، ثم صراع النفوذ على الإمارات الحدودية في مناطق الأناضول
الجنوبية الشرقية المتاخمة للشام؛ كإمارات ذي القادر وبني رمضان، ودولتي الشاه:
البيضاء والسوداء، والموقف من الصفويين، لكن هناك أسباب أخرى بعيدة لهذا الصدام،
كالسعي إلى الهيمنة على منطقة المشرق الإسلامي سياسيًا ودينيًا وحضاريًا، علاوة
على اتجاه العثمانيين إلى تأمين طرق تجارتهم الآتية من الشرق عبر البلاد العربية،
والحصول على ما كانت دولة المماليك تحصل عليه من مكوس وعوائد إذا نجحوا فى التصدى
للخطر البرتغالي الذي أصبح يهدد المنطقة في أواخر القرن التاسع الهجري الخامس عشر
الميلادي.
وهكذا أزالت الدولة العسكرية الفتية التي تنتمي
إلى العصور الوسطى بكل ما فيها من جمود دولة المماليك من الوجود، وجمدت الوضع في
مصر لثلاثة قرون أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق