الأحد، 13 أغسطس 2017

حكاية الزنزانة رقم 9

حكاية الزنزانة رقم 9

رسالة من وراء الزمن
عماد أبو غازي

من عشر سنوات وشهور كنت أكتب في جريدة الدستور في إصدارها الثاني باب أسبوعي بعنوان مخربشات، وكان عام 2007 عام الاحتفال بمئوية النادي الأهلي فكتبت في أسبوعين ورا بعض عن تأسيس النادي الأهلي وتاريخه، وقادني الحديث عن النادي الأهلي إلى حديث عن نادي المدارس العليا، ومن هنا كتبت سلسلة مقالات عن بدايات الحركة الطلابية المصرية من أول القرن العشرين، من بين المقالات في السلسلة دي كان فيه مقال عن إضراب مدرسة الفنون الجميلة واللي كان بيقوده الطالب محمود مختار، وفي ختام المقال أشرت لمشاركة تانية سياسية مبكرة لمختار، وقلت:
 "هذا ولم تكن مشاركة مختار وقيادته لحركة طلبة مدرسة الفنون الجميلة أول إسهام له في النضال الطلابي، فقبلها بشهور شارك مختار مع زملاء له في مظاهرات عامة مطالبة بالدستور ومنددة بالقيود على حرية الصحافة، وقد صادف صديقي وجاري في السكن وفي صفحة الرأي بالدستور محمد حاكم نصًا في مذكرات سعد أرشدني إليه يتحدث فيه عن تلك الواقعة، يقول سعد الذي كان ناظرًا للمعارف وقتها:
 "في 31 مارس 1909 تظاهر كثير من الناس والطلبة، وطافوا الشوارع بعد أن خطبوا خطبًا مهيجة في حديقة الجزيرة، وألقوا أشعارًا غاية في الحماسة، وتقرر محاكمة الخطباء على تهيجيهم، وطعنهم في الخديوي ووزارته.
 وقبض على تلميذ من الخديوية يدعى عباس حلمي، وآخر من يدعي مختار، من مدرسة الفنون الجميلة، وحكم على كل منهما ـ في اليوم التالي ـ بالحبس 20 يومًا، نظير تعديهما على رجال البوليس بالضرب، وقد رفت الأول لذلك."


 ده رابط المقال على مدونتي التانية مخربشات
http://mokhrbshatghazi.blogspot.com.eg/2017/06/blog-post_31.html
ده اللي كتبته من عشر سنين...
 أثناء ترتيبي لأوراق العائلة، لقيت في أوراق أبويا جواب من الدكتور عباس حلمي طلعت من بني سويف، تاريخه 8 يونيو 1968، لما قريت الجواب اللي جاي من الدكتور عباس حلمي طلعت صبور اكتشفت إن هو نفسه الطالب عباس حلمي طالب الخديوية اللي سعد زغلول أتكلم عنه في مذكراته، وإن الجواب بيحكي تفاصيل المظاهرة واللي حصل بعدها.
 لأني بقيت متخصص في الوثائق لازم أوصف الجواب الأول؛ بداية المظروف متهالك ومكتوب عليه العنوان بقلم حبر أزرق غامق، اللي كنا بنسميه بلو بلاك، الجواب مسجل مرسل لأبويا على عنوان العمل:
 وزارة الخزانة
القاهرة
السيد المحترم بدر الدين أبو غازي
وكيل وزارة الخزانة
وزارة الخزانة القاهرة



 والطوابع على ضهر المظروف، وعنوان المرسل مفقود، لكن فيه عبارة بخط أيده مكتوب فيها "لا يوجد بداخله أوراق مالية" والتوقيع دكتور عباس حلمي طلعت.
 الخطاب نفسه ورقتين حجم كبير مكتوبين على الوحهين، على ورق عليه اسم الدكتور وعنوانه بالعربي والإنجليزي، وفي النص شعار أو علامة الدكتور عملها لنفسه وكاتب تحتها (مسجلة) العلامة عبارة عن البسملة مرسومة في شكل نسر.


  أترك الكلام للدكتور عباس حلمي...



 "8/6/1969
  السيد المحترم الأستاذ/ بدر الدين وكيل وزارة الخزانة (السيد بدر الدين أبو غازي)
      تحية واحترامًا وبعد
 فاسمح لي أن أكتب خطابي هذا لسيادتكم على غير سابق شرف بمعرفتكم.
 قرأت في الأهرام أن سيادتكم شغوفون بنشر مذكرات عن زميلي وصديقي الراحل المثال العظيم (محمود مختار) ولما كان المرحوم مختار قد زاملني في الزنزانة رقم 9 بسجن الاستئناف بمحافظة القاهرة سنة 1909.
 فقد وجدت لزامًا عليّ أن أفتح له صفحة كلها فخار واعتزاز.
 فقد كنت وزميلي مختار أول سجينين سياسيين سجنا لاشتراكهما في الحركة الوطنية المقدسة وتفصيل ذلك هو:-
 كانت لجنة الطلبة العليا [وكنت فيها مندوب عن طلبة المدرسة الخديوية] قد دعت لعقد اجتماع عام يعقد في حديقة الجزيرة لتنظيم إقامة مظاهرة للاحتجاج على صدور قانون المطبوعات والاجتماعات الذي أصدره بطرس غالي باشا رئيس الوزارة أوائل سنة 1909 ولتسيير المظاهرة ووجهتها ميدان عابدين لإسماع صوت احتجاج المتظاهرين لآذان (سمو الخديوي عباس) وقد تم الاجتماع فعلًا وكان مكونًا من طلاب المدارس الثانوية والعالية والمعاهد وطلبة الأزهر الشريف وكان عددها يزيد على الخمسة آلاف من المتظاهرين. بينهم كثير من الأهالي
 وبعد الانتهاء من إلقاء الخطب الحماسية الوطنية من مندوبي المدارس (وكنت أحد الخطباء فيها) وكان ضمن الخطباء بعض رجال الصحافة المرحوم؟ أحمد حلمي المحرر باللواء والشاعر محمود رمزي نظيم وكانت قصيدته شعلة من نار استهلها بقوله:
 "أعباس هذا آخر العهد بيننا    فلا تلقى منا بعد ذلك عتابًا"
 سار المتظاهرين من حديقة الجزيرة بعد اختراق كوبري قصر النيل في الشوارع الموصلة إلى ميدان عابدين واقتحموا الساحة بعد مقاومة عنيفة من رجال البوليس وكان على رأسهم (رسل باشا) حكمدار البوليس يمتطي جواده وكانت (ص 2) الهتافات صاخبة تصل إلى عنان السماء تعبر عن سخط الشعب وكان النداء بسقوط وزارة بطرس غالي وكان طلبة معهد الفنون الجميلة يقع ترتيبهم في السير أمام طلبة المدرسة الخديوية التي كنت أتزعمها وكان المتظاهرين في أشد حالات التحمس وكانت صيحاتهم العالية هي:
"يسقط قانون المطبوعات / ليسقط عهد الاستبداد / لا طاعة ولا ولاء بعد اليوم" وهكذا..
 وفجأة سمعنا أن البوليس قد قبض على (مختار) فذهبت أنا وبعض زملائي المتظاهرين لتخليص (مختار) من أيدي رجال البوليس فلم نفلح وسمعنا ضابط البوليس يصيح (هذا عباس صبور) المطلوب القبض عليه فقبض عليّ وهاج المتظاهرين واشتد العنف وفي هذه اللحظة جنح جواد الحكمدار رسل باشا فسقط من فوق جواده وكسرت ساقه. وبعد القبض علينا احتجزنا في قشلاق عابدين حيث أمضينا بضعة ساعات حتى انفضت المظاهرة فنقلنا إلى قسم عابدين حيث تسلمنا مأمور القسم (محمد محمود)
 وبقينا في الحجز للصباح حيث عقدت لنا جلسة مستعجلة برياسة القاضي (عبد الحكيم عسكر) وكانت قاعة المحكمة غاصة برجال الحزب الوطني من المحامين وقد ترافع عنا المرحوم (إسماعيل الشيمي) والمرحوم (أحمد لطفي) والمرحوم (عبد العزيز فهمي) من محامي الحزب الوطني (الذي كنت عضوًا فيه) وكانت صحف الصباح مليئة بأخبار المظاهرة وأخبار القبض علينا.
 حكم علينا بالحبس عشرين يومًا لمختار والحبس شهر لعباس صبور وبكفالة عشرة جنيهات وبعد تسديد الكفالة ودفعها أطلق سراحنا وأخلي سبيلنا وقد تأيد هذا الحكم في محكمة الاستئناف وكان يرأسها القاضي (باغوص أغبيان) الأرمني وقام بالدفاع عنا رجال الحزب الوطني وترحلنا فعلًا فور صدور الحكم ونزلنا نحن الاثنين في الزنزانة رقم 9 وكنا في السجن نمضي الصباح في الأعمال الكتابية وقد لمسنا من العطف والحنان والرعاية من مأمور السجن (ص 3) وضباطه ورجاله ما نعترف بفضله لليوم.
 لم يكتف ولاة الأمور بهذا العقاب الجائر بل صدر قرار من وزير المعارف (سعد زغلول باشا) بإلغاء شهاداتنا الدراسية وحرماننا من الالتحاق بالمدارس الأميرية وحرماننا من التوظف في الوظائف الحكومية وأرادوا بذلك تشتيتنا وضياع مستقبلنا وكان هذا سببًا لسفري للخارج (لوندرة) لإتمام دراستي.
 ولما كان للمثال مختار منزلة خاصة في معهد الفنون الجميلة وكان من المتفوقين فيها فقد رأت إدارة المعهد إنقاذ مختار وضمان مستقبله قررت بأن توفده لباريس لإتمام دراسته وعرض الأمر على البرنس ....؟ راعي المعهد فوافق على ذلك وفعلًا سافر مختار إلى باريس مطمأنًا وهناك ظهرت مواهبه وعبقريته فرفع اسم مصر عاليًا وما تمثال نهضة مصر إلا شاهدًا ووكيلًا.
 هذه الصفحة الوطنية المشرقة لا يعرفها من المواطنين الآن إلا القليل ممن عاصروا ذلك العهد ولذلك رأيت من واجبي أن أسجل هذه الصفحة المشرقة ليقرأها كل مواطن مصري تخليدًا لذكراه.
 فلم يكن مختار مثالًا فحسب بل كان جندي وطني اشترك في بناء الحركة الوطنية في شبابه وأكملها بعد ذلك وختمها بفخر التماثيل المقام في القاهرة.
 أرجو أن أكون قد شاركت في تخليد ذكراه العاطرة وأرجو ألا أكون قد أطلت القول.
 وتفضلوا يا سيدي بقبول أسمى احتراماتي        المخلص
                     (دكتور) عباس حلمي طلعت صبور
1 * ملحوظة:- فاتني أن أسجل أن المرحوم الشهيد (إبراهيم ناصف الورداني) (قاتل بطرس غالي) قد اشترك في هذه المظاهرة. فعند وصول المتظاهرين إلى مدخل ساحة عابدين أغلق المرحوم صيدليته التي كانت تقع بجوار قسم عابدين وانضم إلى فريق طلبة مدرسة الأقباط الثانوية التي كان يتزعمها صديقه وزميله في الجمعيات السرية (شقيقي المرحوم مختار طلعت صبور) الذي كان أحد خطباء جنينة الجزيرة.
 2 كانت التهمة الموجهة إلينا هي كما أتذكرها بعد ستين عامًا هي:-
أ عباس طلعت صبور: إلقاء خطاب في جنينة الجزيرة حض فيه المتظاهرين على التمرد والعصيان وكراهية الحكومة. (بعده خلفه) (ص 4) وإثارة الخواطر والحض على مقاومة رجال الأمن وتزعمه فريق من المتظاهرين كانوا يهتفون بسقوط الحكومة (هذا على ما أتذكر)
 ب محمود مختار: تزعمه لفريق من المتظاهرين والهتاف بهتافات بسقوط الوزراء والحض على عدم الولاء والطاعة للحكومة (هذا على ما أتذكر).
 وقبل أن اختتم هذا أرجو أن يكون لي من الحظ السعيد الحصول على نسختين من هذه الذكريات بعد طبعها لاحتفظ بها ذخرًا لنفسي ولأبنائي من بعدي. وتفضلوا بقبول عظيم تحياتي المخلص
(دكتور) عباس حلمي طلعت صبور
                                                                                           بني سويف"



 لغاية هنا ينتهي الخطاب، بعد كده فيه خطابين تانيين من الدكتور عباس الأول شكر على الرد وعلى إهداء بدر الدين أبو غازي نسخة من كتاب المثال مختار له، والتاني طلب المشورة في بعض الشؤن المالية اللي واضح منه إن الراجل كان يمتلك أسهم في بعض الشركات المؤممة.
 وكان بدر الدين أبو غازي مؤرخ حياة مختار ذكر تفاصيل تانية في كتبه عن مختار اللي نشر أخر واحد فيهم قبل الرسالة دي ما توصله بأربع سنين، وكان بيعتمد فيها على الرواية المتداولة في الأسرة.
  قال:
 "شارك مختار في المظاهرات مع الجموع الثائرة يطالب بالدستور ويهتف به. وعندما يشهد حكمدار القاهرة الإنجليزي يدهم جموع المتظاهرين ينقض على حصانه ويجذبه فيهوي به إلى الأرض، ويقبض عليه ويودع السجن مع جموع من فتيان الشعب".
 فيه ملاحظتين على الجواب، حسب مذكرات سعد إن اللي اترفت من الدراسة كان الدكتور عباس حلمي لأنه في مدرسة حكومية، لكن مختار رجع مرسته تاني لإن مدرسة الفنون الجميلة كانت أهلية مش تحت سيطرة الحكومة بالكامل، واللي يأكد الكلام ده إن مختار قاد إضراب مدرسة الفنون الجميلة في السنة الدراسية اللي بعدها، احتجاج على اللايحة الدراسية، وده كان سبب لفصله هو ومجموعة من طلاب المدرسة.
 الملاحظة التانية إن حكمدار القاهرة وقتها كان هارفي باشا مش راسل باشا، راسل باشا تولى حكمدارية القاهرة سنة 1917، وارتبط اسمه بقمع مظاهرات تانية كتير، وفي الغالب إن الذاكرة ما أسعفتش الدكتور عباس حلمي في النقطة دي.
 ورغم إن الرافعي في كتابه عن محمد فريد ذكر تفاصيل كتيرة عن الأحداث، وذكر فيها حبس اتنين من الطلبة، لكن تركيزه في التفاصيل كان على الصحفيين والساسة اللي اتوجهت لهم اتهامات.

 ومن هنا بتيجي أهمية شهادة مشارك في الأحداث من القادة الطلابيين وقتها...

هناك تعليقان (2):

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...