الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

في وداع حسين نصار
عماد أبو غازي


 اليوم غاب واحد من جيل الأساتذة العظام، غاب عنا اليوم علم من أعلام دراسات اللغة العربية وآدابها؛ الأستاذ الدكتور حسين نصار؛ بعد أن ترك لنا تراثًا علميًا تفخر به الثقافة المصرية.
 عرفت الرجل للمرة الأولى عندما التحقت طالبًا بكلية الآداب في عام 1972، كانت مادة اللغة العربية لطلاب السنة الأولى ـ التي كانت الدراسة فيها عامة دون تخصص ـ يقوم بتدريسها أربعة من كبار الأساتذة في قسم اللغة العربية: الدكتورة سهير القلماوي والدكتور عبد الحميد يونس والدكتور يوسف خليف والدكتور حسين نصار، كل منهم يُدرّس لنا موضوعًا من موضوعات الأدب العربي، وقد اختار حسين نصار موضوعًا عن الشاعر العربي والطبيعة، كان الرجل صاحب أداء هادئ ورصين، تعرفنا من خلال محاضرته على جوانب جديدة في الشعر العربي القديم، كنا ننتظر محاضراته يوم الاثنين من كل أسبوع متشوقين للاستماع إليه، وعلى تناول مختلف للشعر عما اعتدناه في مراحل التعليم العام؛ من خلال محاضراته ومحاضرات الأساتذة الكبار الثلاثة الأخرين تكونت لدينا صورة جديدة عن دراسات اللغة العربية وآدابها، دفعت البعض منا إلى الالتحاق بقسم اللغة العربية وآدابها.
 عندما التحقت بقسم التاريخ لم أكن أتصور أن علاقتي به ستتجدد ثانية، لكني اكتشفت أثناء دراستي في السنة التمهيدية للماجستير بشعبة التاريخ الإسلامي أن للدكتور حسين نصار كتابًا صغيرًا عن الثورات الشعبية في مصر الإسلامية، كان الكتاب على صغر حجمه كبير القيمة فيما يحتويه من معرفة تاريخية، أتت من عالم كبير لم يقتصر علمه على تخصصه الدقيق في اللغة والأدب بل امتد إلى مجال الدراسات التاريخية، يبرز الكتاب الذي ألقى فيه حسين نصار أضواء على أشكال الاحتجاج فيما يعرف في تاريخ مصر بعصر الولاة امتلاك حسين نصار للمنهج التاريخي وقدرته على استخدامه بصورة تفوق بعض أقرانه من دارسي التاريخ، رصد الرجل صور الاحتجاج السلبي، والاحتجاج من خلال نصوص أدبية شعرية، ليصل إلى رصد الثورات التي توالت في مصر بين عامي 106 و217 للهجرة، والتي كان أخرها الثورات الكبرى التي شملت أرجاء مصر كلها، ومنها ثورة البشموريين، التي دفعت الخليفة المأمون إلى المجيء لمصر بنفسه للقضاء على الثورة، ونجح في النهاية في الانتصار على الثوار بعد مذبحة راح فيها آلاف من المصريين؛ كان الكتاب وقتها قد صدر في سلسلة المكتبة الثقافية، وقد أعيد نشرها بعد ذلك عدة مرات؛ لقد فتح هذا الكتاب عيني على مساحة في التاريخ المصري لم يتح لي التعرف عليها خلال دراستي بقسم التاريخ، ودفعني لاختيار موضوع بحثي في السنة التمهيدية للماجستير عن ثورات المصريين في عصر الولاة، ورغم أن البحث أجيز حينها إلا أن رغبتي في دراسة الموضوع بشكل موسع في رسالة الماجستير أدى إلى رفض التسجيل لي نهائيًا في شعبة التاريخ الإسلامي.
 بعدها بسنوات، وفي عام 1980 عندما التحقت للدراسة بدبلوم الوثائق، درست على يدي أستاذي الدكتور حسين نصار مقرر علم اللغة العام، وكنت أدرس مع طلاب ماجستير اللغة العربية، وكان عددنا قليل، آحاد من الطلاب، فكانت فرصة لتعامل عن قرب مع الدكتور حسين نصار، والتعرف عليه مباشرة والاستزادة من علمه، كان الموضوع الذي ندرسه موضوعًا تطبيقيًا في علم اللغة، الأضداد في اللغة العربية، اكتشفت خلال دراستي جوانب جديدة في اللغة العربية، وعرفت فيه جانبًا جديدًا من جوانب أستاذي، فبعد أن عرفته أستاذًا يدرس الأدب، وبعد أن قرأت له في مجال التاريخ، ها أنا أعرفه عالمًا لغويًا.
 كان حسين نصار وقتها عميدًا لكلية الآداب، وأتذكر وقوفه إلى جانبي عندما اعتقلت في العام الدراسي الثاني لي في دبلوم الوثائق، عام 1981/1982، كان من الممكن أن أحرم من استكمال الدراسة، لكن تفهمه كعميد للكلية كان سببًا في استمراري ثم تعيني بعد ذلك معيدًا بقسم المكتبات والوثائق، لقد كنت الطالب الوحيد في السنة الثانية بالدبلوم؛ فسمح لي بتعويض ما فاتني مع أساتذتي الذين تفهموا جميعا الظرف الاستثنائي، وسمح لي بدخول الامتحانات.
 في هذه الفترة أيضًا، مطلع الثمانينيات، طرح بإلحاح موضوع إلغاء مجانية التعليم الجامعي، وكانت الدولة تسعى إلى ذلك بقوة، كما امتلأت الصحف وقتها بمقالات لصحفيين وكتاب وأساتذة جامعات تنادي بإلغاء المجانية؛ وكان حسين نصار واحدًا من أبرز وأشجع من تصدوا لهذه الحملة، فكتب مقالًا أسهب فيه في الدفاع عن مجانية التعليم الجامعي وفند حجج دعاة إلغاء المجانية، وفضح لا أخلاقية الدعوة من ناحية ومخلفتها للمصلحة العامة من ناحية ثانية، وطرح الحلول العملية لتطوير التعليم الجامعي دون المساس بالمجانية.
 مع مرور السنوات تعرفت عليه أكثر وأكثر خلال عملي بكلية الآداب، ثم بالمجلس الأعلى للثقافة، حيث كان حسين نصار مشاركًا دائمًا في أنشطة المجلس وعضوًا بلجانه، كذلك من خلال مركز تحقيق التراث بدار الكتب والوثائق القومية الذي أشرف عليه لسنوات، وكان هذا المجال العلمي الرابع الذي عرفت فيه حسين نصار، اسمًا من الأسماء اللامعة في تحقيق التراث.
 أخر الذكريات في الصيف الماضي عندما شد الرحال إلى الخارج لزيارة أبنائه اتصل بعميد كلية الآداب ليستأذنه في السفر حتى لا يترك الكلية دون إخطار مسبق؛ لكنه اليوم غاب عنا دون أن يستأذن في الغياب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...