الخميس، 27 يوليو 2017

المؤسسات الثقافية وأزمة الحداثة في مصر

المؤسسات الثقافية وأزمة الحداثة في مصر
                                                   عماد أبو غازي
 عندما شرفني قسم علم النفس وكلية الآداب بأن أكون أول المتحدثين في المحاضرة التذكارية للأستاذ الدكتور مصطفى سويف أحسست بعبء المسئولية وبمقدار ما شرفتني به كليتي وأسرة الدكتور سويف، وأحسست بالحيرة في الوقت نفسه، فما الموضوع الذي يمكن أن أتحدث فيه في مثل هذه المناسبة؟ فأنا باحث في التاريخ والوثائق، والدكتور سويف علامة في الدراسات النفسية له مكانته العالية ليس في مصر فقط، إذًا لابد أن أبحث عن مدخل مشترك، وعن قضية تليق بجلال المناسبة وبقدر صاحبها.


 أخذتني الذاكرة بعيدًا إلى السنوات التي عرفت فيها الدكتور سويف، لقد عرفت الاسم قبل أن أعرف الرجل، كان اسم الدكتور سويف يتردد في منزلنا منذ كنت صبيًا، فقد كان أبي ضمن الفريق الذي يقوده الدكتور سويف لإنشاء أكاديمية الفنون في أواخر الستينيات من القرن الماضي، عندما كان الرجل منتدبًا من الجامعة ليشغل منصب وكيل وزارة الثقافة لشئون المعاهد الفنية، وقد وجدت مؤخرًا في أوراق أبي ملفًا يتضمن محاضر اجتماعات اللجنة التي كانت مكلفة بإنشاء الأكاديمية برئاسة الدكتور مصطفى سويف، وسوف أعمل على نشرها في بحث علمي يكشف عن جانب من جهود مصطفى سويف في بناء مؤسسات هذا الوطن، ويكشف المسافة الشاسعة بين الحلم الذي كان يراوده ووضع له الأسس القومية، والحال الذي انتهينا إليه.
 عندما التحقت بكلية الآداب طالبًا عام 1972 رأيت الرجل للمرة الأولى، لكني لم أتعامل معه عن قرب إلا في عام 1984 عندما شكل مجلس الكلية لجنة لإعداد تصور لقانون جديد لتنظيم الجامعات – لم يصدر إلى يومنا هذا – وكانت اللجنة برئاسة الدكتور مصطفى سويف، وكنت ممثلًا للمعيدين فيها، ومن ثم فقد قمت بأعمال سكرتارية اللجنة باعتباري أصغر أعضائها سنًا ودرجة، وخلال عمل اللجنة الذي تواصل لعدة أسابيع عرفت الدكتور سويف عن قرب وتعلمت منه الكثير في إدارة العمل والتنظيم والدقة، وربما تصلح أوراق هذه اللجنة التي ما زلت أحتفظ بصورة منها موضوعًا لبحث آخر يرتبط أيضًا بالأمل والمآل.
 اقتربت منه أكثر وتواصلت علاقتي به عندما انتدبت إلى المجلس الأعلى للثقافة، وكان الدكتور سويف عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة ومقررًا للجنة علم النفس به، التي أصر عندما تولها على فصلها عن لجنة التربية احترامًا للتخصص العلمي الدقيق، وبعد أن تركت العمل العام في نهاية 2011 وحتى قبيل غيابه عن بأسابيع قليلة، كنت ألقاه في منزله على فترات تتقارب أو تتباعد وفقًا لظروفه الصحية، ألقاه لنتحاور في الشأن العام، ولأستمع منه عن آماله فيما بقي له من عمر، وأحلامه لهذا الوطن أن يكون وطنًا يحترم قيم الحق والعدل والحرية، ويحترم الإنسان الذي كان الارتقاء بشأنه هم مصطفى سويف الأول طوال مسيرته.
 اخترت لهذه المحاضرة موضوعًا يتعلق بجانب من اهتمامات الأستاذ الدكتور مصطفى سويف؛ مؤسسات العمل الثقافي وأزمة الحداثة في مصر؛ فقد كان الرجل مشتبكًا مع مؤسساتنا الثقافية ساعيًا لإصلاحها راصدًا لجوانب القصور في عملها، كما كان في كتاباته العامة مهمومًا بقضية انتقال مصر إلى العصر الحديث ومواطن الخلل في هذا الانتقال.
 ومن هنا اخترت أن يكون موضوعي عن الحداثة المشوهة من خلال قراءة في تاريخ مؤسسات الدولة الحديثة في مصر، واخترت له عنوانًا: "المؤسسات الثقافية وأزمة الحداثة في مصر".
 لقد بدأ اهتمامي بإشكالية/الحداثة منذ أكثر من عشرين عامًا، وفي ظني أن الإحباطات المتوالية والانتكاسات التي أصابت مشروعات التحديث ومحاولات النهضة في مصر والمنطقة العربية ما زالت تلقى اهتمامًا من المشتغلين بدراسة تاريخ المنطقة، ومن المعنيين بمستقبلها على حد سواء، فقضية "أزمة النهضة" هي هم مستقبلي بقدر ما هي مبحث تاريخي، والاشتباك مع الإشكالية له زوايا متعددة، رغم أن زمن الحداثة قد ولى.
تنطلق هذه المحاضرة من مسلمة وفرضية...
 المسلمة أن مجتمعنا المصري - وكذلك المجتمعات العربية - قد فشلت على مدى ما يزيد على قرنين من الزمان في إنجاز مهام الحداثة والتحديث، فشلت في مشروع نهضتها المرة تلو المرة.
 أما الفرضية فتتلخص في أن فشل تجارب الحداثة المتوالية ربما يرجع إلى عوامل داخلية أكثر مما يرجع إلى أسباب خارجية.
 لقد جئت إليكم بأفكار وفروض قابلة للإثبات أو النفي، آملًا في أن تكون مناقشاتكم وتعليقاتكم هادية لي في استكمال بحثي.
  ما هي النهضة المقصودة عند الحديث عما وقع منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؟
  إنها التحديث أو الانتقال من حضارة الموجة الأولى (حضارة الثورة الزراعية) – إذا استعرنا تعبيرات المستقبلي الأمريكي أولفن توفلر – إلى حضارة الموجة الثانية (حضارة الثورة الصناعية) في وقت كانت فيه مقدرات تلك الثورة قد أصبحت في يد الغرب والشمال بالكامل أو كادت..
 ويستدعى السؤال الأول سؤالا ثانيا؛ هل من الضروري أن تمر كل المجتمعات الإنسانية بنفس المراحل التاريخية؟
 وهل كان حتمًا ولزامًا على مجتمعاتنا الشرقية أن تتحول إلى حضارة الموجة الثانية؟ أو بمعنى آخر هل كان علينا أن نخوض تجربة الحداثة، وأن نتحول إلى مجتمعات صناعية حديثة؟
 لقد كان الرأي السائد منذ القرن التاسع عشر أن إعادة صياغة العالم على شاكلة الغرب الأوروبي بات الطريق الوحيد إلى التقدم، إلا أن بعض مدارس نقد الاستشراق حاولت أن تجيب على هذا السؤال إجابة مغايرة، أن تجيب عليه بالنفي، وأن تبرز فكرة الطريق الخاص لتطور كل مجتمع بغض النظر عن النموذج الأوروبي أو الغربي للتطور، وظهرت مقولات ترفض فكرة التقدم المستمر للبشرية، أو على الأقل فكرة الارتباط الحتمي بين التقدم والتحديث على النمط الغربي.
 لكن استقراء أحداث التاريخ الإنساني – للأسف في تقديري – ليس في صالح هذا الاتجاه، فبقدر ما في الاتجاه الأول من سعى لفرض قوالب خارجية وافدة من الغرب الأوروبي على أرجاء العالم المختلفة، بقدر ما في الاتجاه الثاني من تأييد للتخلف في مجتمعاتنا.
 فلكل عصر "كلمة سره" والمجتمعات التي تملك كلمة سر عصر من العصور هي التي يكون لها السبق والريادة، وهى التي تسود في ذلك العصر، لقد كان لمجتمعاتنا في شرق وجنوب المتوسط السبق والريادة في حضارة الموجة الأولى – حضارة الثورة الزراعية – فمعظم إنجازات هذه الثورة قد تحققت في مصر وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى للمرة الأولى (الزراعة – استئناس الحيوان – ابتكار الكتابة والأبجدية والأرقام - الدولة) ومن هنا انتقلت تلك المنجزات إلى أنحاء العالم المعروف حينذاك، ومن هنا أيضا كان لمجتمعاتنا السيادة على ذلك العالم لبضع آلاف من السنين، وكان نموذجنا الحضاري هو المثل الأعلى في تلك الحقبة.
 واستمر الحال على ذلك حتى بعد أن انتقلت منجزاتنا الحضارية إلى "الآخر" في الشمال والغرب.. ما تغير فقط هو التنافس والصراع الذي وصل إلى الصدام العنيف في أحيان كثيرة، لكنه صدام بين أنداد، وقد ترجح الكف هنا مرة وترجح هناك مرة أخرى، لكن الأطراف متقاربة في القوة والقدرة.
 وعندما بدأت حضارة الموجة الثانية - حضارة الثورة الصناعية – تغيرت كلمة سر العصر، وفاتنا – للأسف – الإمساك بمقدرات تلك المرحلة الجديدة.
 وعندما أفقنا على تلك الحقيقة؛ وقفنا نتساءل، في البداية كان السؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟
 ثم تبدل السؤال وأصبح: وهل كان من الضروري أن نسير وفقًا لنمط التطور الأوروبي؟
القضية في تقديري ليست نمطًا أوروبيًا أم نمطًا شرقيًا، ولكنها قضية إنجاز حضاري متمثل في الثورة الصناعية وفى مجموعة من القيم والمبادئ والأفكار التي واكبت عصرها، نسميها "الحداثة" شكلت في مجملها مقدرات القوة في تلك الحقبة؛ وقد أنجز الغرب هذه الثورة ولم ننجزها نحن.
لقد حدث هذا الإنجاز في الغرب انطلاقًا من تطور ذاتي، وكانت الإمكانية الوحيدة لتحقق هذا الإنجاز في الشرق أن نمر به – نحن كذلك – انطلاقًا من تطورنا الذاتي؛ لكن هذا لم يحدث، كما لم يتحقق لنا كذلك النجاح في إنجاز هذا التطور اقتباسًا من الغرب بإرادتنا، أو بالإقحام والفرض علينا.
لماذا إذن كان نصيبنا الفشل؟
 كنت أعتقد دومًا أن السبب في الفشل يرجع إلى عوامل خارجية بالأساس، كنت أبحث عن إجابة على هذا السؤال في تأثير القوى الاستعمارية الغربية وسعيها الدائم لإفشال مشروعات نهضتنا.
 وكانت فكرتي الأساسية تدور حول أن الجذور التاريخية لأزمة "النهضة"، أو لنقل لأزمة التحديث في مصر، تعود إلى ما يقرب من ثلاثة قرون سابقة على التاريخ الذي أعتدنا أن نعتبره بداية لعصر التحديث في مصر والمشرق العربي، وقد أقمت هذا التصور استنادًا إلى رصد تحولات شهدتها مصر في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر كان من الممكن أن تشكل أساسًا اجتماعيًا لتحديث البلاد، وتتلخص مؤشرات التحول في المجتمع المصري، التي حدثت في تلك الفترة المفصلية في تاريخ العالم (أعنى أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر) في تغير في شكل الحيازة الزراعية في مصر لصالح قوى اجتماعية جديدة، وفى تحلل مقومات المجتمع الإقطاعي الشرقي الذى ساد لعدة قرون سابقة لصالح مجتمع جديد، كان الوزن النسبي للقوى المدنية فيه ينمو على حساب القوى العسكرية، كما شهدت البلاد كذلك مؤشرات ثقافية وفكرية مهمة منذ أوائل القرن الخامس عشر يغفلها كل من يبحثون عن الجذور التاريخية للتحديث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث ظهرت أعمال متميزة في مجالات التأليف التاريخي والتحليل الاقتصادي الاجتماعي لمشكلات المجتمع؛ كانت هذه الأعمال منبئة بتطورات فكرية مهمة فى دلالاتها، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا ما حدث من تحولات على المستوى الاجتماعي.
 إلا أن تلك التحولات والمؤشرات لم يقدر لها أن تستمر بسبب الاحتلال العثماني للمشرق العربي وشمال أفريقيا، والذى قطع الطريق عليها وأدى إلى إجهاضها، فتأجلت مشروعات تحديث المنطقة العربية لما يقرب من ثلاثة قرون، وحينذاك كانت كل محاولات النهضة أو التحديث محكومًا عليها بالفشل، لأن أوانها كان قد فات، بسبب تغير الظروف التاريخية في المنطقة، وبسبب التحولات التي حدثت في  الغرب؛ لقد كانت كل هذه المحاولات المتأخرة لإدراك ما فات مساع صادقة للنهضة لكنها "النهضة المستحيلة"، إنها النهضة التي لا يمكن أن تتحقق مهما حسنت النوايا وتوالت المساعي.
 فقد الاحتلال العثماني قطع الطريق على تطورات اجتماعية وثقافية كانت تختمر في مصر والشام، في وقت كان العالم يتشكل فيه بصورة جديدة، وعندما بدأت محاولات التحديث مرة أخرى مقترنة بمشروعات الاستقلال عن الدولة العثمانية، كان الآخر هناك في الغرب قد وصل إلى نقطة من التطور أمتلك معها القوة التي مكنته من إعاقة التطور المستقل في مناطق أخرى من العالم ومن هنا كانت النهضة حينذاك قد أصبحت "نهضة مستحيلة".
 ومن هنا كان جل تركيزي على العنصر الخارجي في المسئولية عن إعاقة عمليات النهضة أو التحديث في مجتمعنا:
 فتجربة محمد علي باشا التي بدأت في مطلع القرن التاسع عشر أجهضتها معاهدة لندن التي فرضتها الدول الأوروبية على الباشا فحجمت مشروعه وأعادته إلى حدوده.
 كذلك أنهت أزمة الدين الخارجي المحاولة الثانية للنهضة والتي بدأت في عهد سعيد باشا مرتبطة بالإطار العثماني للتحديث وتطورت بشكل واضح في عصر الخديوي إسماعيل، ووصلت ذروتها مع الثورة العرابية، وانتهت هذه المحاولة بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882.
 أما التجربة الثالثة التي بلغت ذروتها في المرحلة الليبرالية فقد أسهم في إجهاضها بشكل واضح مساندة سلطة الاحتلال لمساعي الملكية الاستبدادية للاعتداء على الدستور المرة بعد المرة، لتنتهي هذه المرحلة بفشل التجربة.
 كذلك انتهت التجربة الرابعة في العصر الشمولي بعدوان عسكري إسرائيلي مدعوم بشكل واضح من الولايات المتحدة في عام 1967.
 كان العنصر الخارجي واضحًا في كل التجارب، لكن سنوات من البحث جعلتني أتوجه وجهة أخرى، فربما يرجع جزء كبير من مسئولية الفشل إلى عوامل داخلية، مكنت الآخر الخارجي من تحقيق أهدافه، عوامل ترتبط بشكل أساسي بالمنظومة الثقافية في مجتمعنا؛ المؤسسات والقيم، وعندما أتحدث عن المؤسسات هنا أعني مؤسسات الثقافة والتعليم التي تتحمل المسئولية عن تشكيل الأساس الفكري والمعرفي لبناء المجتمع الحديث بدولته القومية القائمة على مبادئ المواطنة.

 السؤال هنا، ما الهدف من إنشاء هذه المؤسسات؟ وهل نجحت في تحقيق هذا الهدف؟
 افتتاحية المحاضرة التذكارية للدكتور مصطفى سويف الاثنين 17 يوليو 2017 كلية الآداب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...