حكاية القاضى
والشاعر والسلطان
عماد أبو غازى
لقد تعاقب على مصر الحكم الأجنبي لقرون طويلة منذ احتلها الفرس في القرن
السادس قبل الميلاد، وكانت معاناة المصريين الشديدة من ظلم الحكام الأجانب فتوالت
ثوراتهم جيلًا بعد جيل، وعادة كانت تلك الثورات وحركات التمرد ضد الحكام الأجانب
وطغيانهم تنتهي إلى الفشل أمام قوة الحاكم وجبروته، لكن سلاحًا آخر ظل عبر العصور سلاح
المصريين الماضي والذي لم يستطع حاكم أو محتل مهما بلغت قوته أن يقضى عليه، إنه
سلاح النكتة والسخرية والتعبير عن رفض الظلم والطغيان من خلال الأدب.
لقد حرص الحكام الأجانب الذين استولوا على حكم
مصر منذ الاحتلال الفارسي سنة 526 ق.م. على حرمان المصريين من حقهم في حمل السلاح
وتجريدهم باستمرار من أية وسائل للدفاع عن أنفسهم ولم يقتصر الأمر في ذلك على
فترات الاحتلال الأجنبي وتحول مصر إلى
ولاية تابعة لدولة أخرى مثلما كان عليه الحال فى العصور الفارسية والرومانية
والبيزنطية والعثمانية مثلًا، بل امتد أيضا إلى الفترات التى كانت مصر فيها دولة
مستقلة لكن يحكمها حكامًا أجانب وليس من المصريين مثلما كان الحال فى زمن البطالمة
والطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك، فقد حرم المصري طوال
تلك العصور من شرف الدفاع عن الوطن وبالتالي من حق حمل السلاح، ولم يستعد هذا الحق
إلا في القرن التاسع عشر عندما أسس محمد علي الجيش الحديث، ومن هنا فقد كانت فرص
نجاح ثورات المصريين محدودة، وطوال تلك العصور كان سلاح النكتة والسخرية والتعبير
عن رفض الظلم والطغيان من خلال الأشكال الفنية والأدبية أقصى سلاح في يد المصري؛ فقد
واجه المصريون ظالميهم بالسخرية منهم.
وسلاح السخرية عند المصري قديم
قدم الحضارة المصرية، فقد عرفت مصر القديمة أقدم الرسوم الساخرة في التاريخ، والتي
وصلتنا ملونة على أوراق البردي، كما لجأ المصري منذ أقدم العصور إلى التعبير عن
شكاواه من خلال الأنواع الأدبية والفنية المختلفة من قصة وشعر وغناء.
وحكايتنا اليوم من عصر المماليك الجراكسة الذين
حكموا مصر منذ أواخر القرن الثامن الهجري حتى أوائل القرن العاشر، واستمر حكمهم
قرابة مائة وأربعين عامًا، وقد ذاق المصريون شتى أنواع المظالم في عصر الجراكسة
وتكاتفت عليهم ظروف الطبيعة القاسية من قحط ومجاعة مع نهم المماليك لجمع الأموال
ومبالغتهم في استغلال المصريين ونهب ثروات البلاد؛ وربما كان السلطان الأشرف
قانصوه الغوري أكثر حكام ذلك العصر ظلمًا وجورًا وقد أمتد حكمه من سنة 906 إلى 922
هـ.
وعنه يقول المؤرخ محمد بن أحمد بن إياس المصري في ترجمته له بعد وفاته:
"كان ملكًا مهيبًا جليلًا مبجلًا في
المواكب، ملئ العيون في المنظر، ولولا ظلمه وكثرة مصادراته للرعية وحبه لجمع
الأموال لكان خيار ملوك الجراكسة، بل وخيار ملوك مصر قاطبة، وأما ما عد من مساوئه
فإنها كثيرة لا تحصى، منها أنه أحدث في أيام دولته من أنواع المظالم ما لا حدثت في
سائر الدول من قبله، ومنها معاملته في الذهب والفضة والفلوس الجدد أنحس المعاملات،
جميعها زنك ونحاس وغش ولا يحل صرفها، واستمر الغش في معاملته في مدة دولته إلى أن
مات، ومن مساوئه أنه كان يضع يده على أموال التركات الأهلية ويأخذ مال الأيتام ظلمًا،
ولو شرحنا مساوئه كلها لطال الشرح في ذلك".
ومع كل هذه المساوئ التي عددها المؤرخ المصري
محمد بن أحمد بن إياس فإن الغوري يعتبر من أشهر سلاطين عصره ليس فقط لطول فترة
حكمه لكن أيضًا لسقوطه في ميدان المعركة دفاعًا عن البلاد ضد الغزو العثماني رغم
كبر سنه، كذلك فإن كثرة المنشآت التي خلفها الغوري وأشهرها مجموعته المعمارية
القائمة إلى الآن فى منطقة الغورية بالقاهرة الفاطمية أدت إلى ذيوع صيته عبر
العصور؛ لكن حتى هذه المجموعة المعمارية المهمة لم تخل من القيل والقال؛ فقد كانت
أرضها ورخامها بل وحتى أوقافها من المصادرات، وقد شيد الغوري هذه المنشآت ومنها
الوكالة والمدرسة والمسجد والخانقاه والسبيل وهو يضع في اعتباره أن يدفن في إحداها
وهي المدرسة، وفى ذلك يقول ابن إياس:
"ومن العجائب إنه لم يدفن فى
مدرسته التى أصرف عليها نحو مائة ألف دينار، فصار مرميًا في البراري وقد تناهشته
الذئاب والنمورة، فمات وله من العمر نحو ثمانى وسبعين سنة، ومن العجائب والغرائب
أن الطواشي مختص، الذي كان بنى أساس مدرسة الغوري أولًا، وأخذها منه غصبًا في
المصادرة، سأل الغوري من ذلك، فمنع الله تعالى الغوري من الدفن في مدرسته، وصار لا
يعرف له مكان قبر، فعد ذلك من العبر"
وإذا كان ابن إياس قد أستخلص هذه
العبرة بعد موت الغورى فإن المصريين قد سخروا من هذه المنشآت فى حياة السلطان، فقد
أطلق الناس على مسجد السلطان الغوري اسم "المسجد الحرام" ولم يقصد
المصريون بذلك بالطبع أن يشبهوا مسجده بالكعبة المشرفة، إنما كان قصدهم نوعًا من
التورية الساخرة؛ فقد رأى المصريون أن الأموال التي شيد بها المسجد أموال مصادرة
بغير حق، ورخامه مسروق من مساجد أخرى، وأرضه قام السلطان بالاستيلاء عليها دون
سند، والأوقاف التي أوقفها عليه استولى عليها بغير حق، ومن هنا اعتبروا أنه مسجد
بنى من مال حرام.
وبالطبع لم يكن الغورى يستطيع أن يمارس كل هذه
المظالم دون مساندة أعوان السوء وفى مقدمتهم القضاة الفاسدون الذين سهلوا له
مصادرة أموال الأيتام وحل الأوقاف والاستيلاء عليها؛ ومن أشهر هؤلاء القضاة قاض اسمه
عبد البر ابن الشحنة الحنفي وأصله من أسرة حلبية اشتغلت بالفقه والقضاء، وقد ذاع
صيت عبر البر هذا في زمن السلطان الغوري وكان مقربًا إليه ساعده في كثير من مظالمه
باستخدام الغش والتدليس والحيلة.
وقد أدرك المصريون مفاسد القاضي عبد
البر بن الشحنة وتندروا بها، وقد حفظ لنا التاريخ أجزاء من قصيدة من قصائد الهجاء
اللاذع هجا فيها جمال الدين السلاموني أحد شعراء ذلك العصر الشيخ عبد البر، حيث
أوردها مؤرخ ذلك العصر ابن إياس المصري في كتابه "بدائع الزهور في وقائع
الدهور"، ويصف ابن إياس القصيدة بأنها "قصيدة مطولة فيها ألفاظ فاحشة
إلى الغاية وإساءة مفرطة لا ينبغي أن تذكر"، ولكنها أورد منها بعض أبيات على
سبيل الاختصار، قال بعدها: "وأنا أستغفر الله العظيم وأتوب إليه"، فقد
كان ابن إياس يرى أنه بترديد هذه الأبيات يرتكب معصية كبيرة.
ومن الأبيات التي وصلتنا قول
الشاعر:
فشا الزور في مصر وفي جنباتها
ولم لا وعبد البر قاضي قضاتها
أيُنكرُ في الأحكام زورٌ وباطلٌ
وأحكامُهُ فيها بمختلفاتها
إذ جاءه الدينار من وجه رشوة
يرى أنه حلٌ على شبهاتها
فإسلام عبد البر ليس يرى سوى
بعمته، والكفر فى سنماتها
ألست ترى الأوقاف كيف تبدلت
وكانت على تقديرها وثباتها
فإن كان فى الأوقاف ثم بقية
تكذبنى فيما أقول، فهاتها
ولابد من بيع الجوامع، تارك
الجماعات منها، مبطل جُمَعاتها
ولابد أن يستبدل الناس أعبُدًا
بأحرارها بيعًا لنفس ذواتها
ولو أمكنته كعبة الله باعها
وأبطل منها الحج مع عمراتها
ومصداق قولي أنه كان مغريًا
ليحيى بن سبع في خراب جهاتها
وقد كان ذئبًا لابن سبع وقومه
يطالع بالأخبار قبل رواتها
ولو يعط دينارًا وطاوعه الورى
لأسقط عنها صومها وصلاتها
شكت ملة الإسلام مما ينالها
بأفعاله يا هل تزيل شكاتها
فلا تخش إثمًا أن تخوض بعرضه
فغيبته للناس خير لغاتها
فماذا على الإسلام حَلَّ من الرد!
بأيام عبد البر مع سنواتها
وترجع هذه القصيدة إلى عام 913 هجرية، لهذه القصيدة
قصة ترجع إلى أحداث وقعت قبلها بعامين؛ فقد كان الشاعر جمال الدين السلاموني من
أشهر شعراء عصره، وكان محبوبًا من المصريين يعبر عن همومهم من خلال الشعر، كما كان
في ذات الوقت محببًا للسلطان يحرضه على هجاء من يغضب عليه، وكان قد عرف عنه الهجاء
اللاذع.
وقد عاين السلاموني المظالم التى أرتكبها أحد
كبار موظفي الدولة وهو معين الدين بن شمس وكيل بيت المال فهجاه بقصيده قاسية،
فاشتكى وكيل بيت المال إلى السلطان الغوري، فقال له: "إن وجب عليه شيىء
بالشرع أدبه"، فنزل معين الدين من عند السلطان ووضع الشاعر السلاموني في
الحديد ودفع به إلى بيت قاضي القضاة الحنفي عبد البر بن الشحنة وأقام الدعوى عليه،
فما كان من القاضي إلا أن أمر بضرب السلاموني وتجريسه على حمار وهو مكشوف الرأس، وعندما
علم السلطان بذلك، وبأن معين الدين ادعى أن السلطان الغوري سمح له بتجريس
السلاموني، أمر السلطان باعتقال معين الدين وظل قيد الاعتقال لفترة طويلة.
لكن السلاموني لم ينس ما فعله به قاضي القضاة
عبد البر بن الشحنة؛ فكتب فيه قصيدته تلك التي أوردت أجزاءً منها، ولما كان عبد
البر قاضيًا مكروهًا من الناس بسبب ما اشتهر به من الظلم والفساد، فقد تناقل الناس
القصيدة وانتشرت بسرعة في القاهرة وضواحيها وسارت حديث المجالس والأسواق، فغضب عبد
البر، وكان مقربًا للسلطان فانتهز فرصة صعوده للقلعة في مطلع العام الهجرى الجديد
عام 913 لتهنئة السلطان بهذه المناسبة وشكا له من السلامونى، فأمر السلطان باستعاء
السلاموني ووبخه وقال له: "أتهجو شيخ الإسلام بهذا الهجو الفاحش"، فأنكر
السلموني وقال للسلطان: "أنا ما قلت فيه هذا كله"، فلما قامت عليه
البينه بمجلس السلطان أن القصيدة له، أمر الغوري بتسليمه للقاضي لمحاكمته.
وعندما انعقد مجلس القضاء بالمدرسة الصالحية
النجمية، قرر القضاه جلد السلاموني وتجريسه في القاهرة لإدانته بسب قاضي القضاة، فتجمهر
الناس بساحة المدرسة الصالحية وقد جمعوا الحجارة في أكمامهم، وأخذوا يرجمون القضاة
بالحجارة وكادوا يقتلون عبد البر، فما كان من قاضي القضاة عبد البر إلا أن أعفا عن
السلاموني من عقوبتي الجلد والتجريس لينقذ نفسه وقضاته من غضب الناس، لكن القضاة
أصروا على سجنه، وكان السلطان
الغورى قد خشى على هيبته خاصة وإن القصيدة تضمنت تلميحًا لسكوته عن مظالم عبد البر
فسكت عن حبسه، واستمر السلاموني في السجن عدة شهور إلى أن أمر السلطان الغوري بإطلاق
سراحه في رمضان من نفس العام.
هذه الفترة من تاريخ مصر لم تأخذ حقها من التمحيص والتدبر. استمر يا دكتور، بارك الله فيكم.
ردحذف