الجمعة، 11 مارس 2016


ثلاثة مشاهد من وقائع الديوان

عماد أبو غازي

 في 2 أكتوبر سنة 1800 قرر مينو ثالث قادة الحملة الفرنسية على مصر إعادة تشكيل الديوان الذي كان بونابرت قد شكله عقب احتلاله لمصر، وقد تشكل ديوان مينو من تسعة من مشايخ الأزهر الكبار برئاسة الشيخ عبد الله الشرقاوي وأمانة سر الشيخ محمد المهدي وكان من بين أعضائه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي والحاج علي الرشيدي صهر مينو، وشغل إسماعيل الخشاب منصب كاتب الديوان، ومن خلال وظيفته تلك قدم لنا ملخصًا لجلسات ووقائع اجتماعات الديوان.
الشيخ عبد الله الشرقاوي


المشهد الأول: جلسة إجراءات

 ويذكر الخشاب في عرضه لوقائع الجلسة الأولى من جلسات الديوان كيف تم اختيار رئيس الديوان وكاتم سره بالانتخاب الذي يسميه القرعة، فيقول: "وبدأ بذلك في اليوم المبارك الموافق لاثني عشر شهر برومير الثاني من أشهر السنة التاسعة من المشيخة الفرنساوية، الموافق لخامس عشر شهر جماد الثاني سنة خمس عشر ومائتين وألف، وانعقد الاجماع في ذلك المجلس المنيف وحفل الديوان الشريف على أن يكون العلامة الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان، والعلامة الشيخ محمد المهدي كاتم سر الديوان، وأن يكون الشيخ الفاضل عبد العال جاويشًا للديوان المرقوم، كل ذلك بالقرعة على جاري العادة في ذلك، بحضرة الوكيل واحتماع كلمة مدبرين الديوان بالقرعة على ذلك، ولما تم الحال على هذا المنوال، إلتمس حضرة الكمساري وكيل الديوان من رؤساء الديوان وأهله أن يكتبوا بذلك عرضًا إلى حضرة ساري العسكر يعلموه بذلك، ووقع التوافق في ذلك المجلس على أن يكون الديوان في كل ثلاثة أيام مبدأها يوم تاريخه، وأن يكون الحضور قبل الظهر بثلاث ساعات، وأن تكون مدة الجلوس بحسب الداعي، وطلب منهم أن يكتبوا كذلك إلى حضرة الجنلار ـ يقصد الجنرال ـ الكبير والهمام الذي ليس في همته وشجاعته نظير، ساري العسكر بونابارته، ذو الهمة العالية، ومدبر جمهور العساكر الفرنساوية، يهنوه فيه بالنصر على سائر القرانات، ويهدون إليه فيه صالح الدعوات، فأجابوه إلى ذلك".

المشهد الثاني: رسالة أهل الديوان إلى ساري عسكر بونابارته

  تأجل تحرير رسالة الديوان إلى بونابرت حتى الجلسة الرابعة التي انعقدت يوم الأربعاء 24 جماد آخر سنة 1215، الموافق 21 برومير سنة 9 وفقًا لتقويم الثورة الفرنسية، ففي تلك الجلسة وضع الشيخ محمد المهدي لنفسه كرسيًا بوسط الديوان وجلس عليه ليقرأ على الأعضاء نص الخطاب الذي صاغه بناء على تكليفهم ليرسلوه باسمهم وباسم شعب مصر إلى "حضرة عزيز المقام المشهور بين الخاص والعام عضيم العظماء والكبراء ... الجناب المهاب الأعظم، والمخصوص بالرأي التام بين الأمم، أمير الجيوش الفرنساوية على الإطلاق، والمنظور إليه في جميع الأقطار الآفاق، حضرة الجنلار بونابارته"، وبعد الديباجة الطويلة التي تحوي ألفاظ التفخيم والتعظيم والدعاء لبونابرت بالنصر وبلوغ الآمال، يبدأ نص الرسالة الذي يتشوق فيه مشايخ الديوان لرؤية طلعة بونابرت البهية في مصر مرة أخرى فتقول الرسالة: "وبعد مزيد الأشواق برؤياكم وتمني التلاقي بمحاسنكم ومزاياكم، فإن جنابكم أيها الأمير الجزيل شرفًا، الجميل لطفه وظرفه، أوعدتمونا مرارًا عديدة وفرحتونا بأقوالكم السديدة وألفاظكم السعيدة، بأن عينيك دائمًا ملاحظان لهذه البلاد، ونحن نتحقق وفاء وعدكم، إن الله لا يخلف الميعاد، خصوصا وأن الله سبحانه وتعالى أراد تمام كلما تقولونه على الإجمال".
الشيخ المهدي

 وينتقل مشايخنا الأجلاء لمخاطبة بونابرت باسم الشعب المصري كله: "كل سكان القطر المصري من أمراء وأعيان ومن سائر أحبابنا الذين يعز علينا نجاحهم ونحبهم من الإخوان، وأهل أنواع التجارة، وأرباب الصنائع في جميع مدائنهم والبنادر، أصحاب الفضائل والعلوم، وأرباب المحامد والمفاخر، والمشتغلين بالفلاحة والزراعة، وسائر النساء التي صان الله عرضهن على يديكم الشهيرة بالفروسية والشجاعة، وكامل الفقراء والمساكين، وجميع الشباب والشيوخ من الأغنياء والمقترين هم باتفاق واحد بنا إليكم متوسلين، وعلينا في مخاطبتكم معولين وبنا مستعينين، لكونهم يفهمون خطابنا ونفهم خطابهم، وجعلتونا حين كنتم عندنا واسطة بينكم وبينهم ونحن وإياهم جميعًا مبتهلون، وإلى الله راغبون طالبين من فضل رب العالمين أن تكونوا دائمًا على أعدائكم منتصرين ظافرين ولفعل الخيرات متعطفين محبًا وعضدًا للفقراء والمساكين، موقرًا مكرمًا ومعضدًا لديننا الأمجد الأجل، من حيث أنك قدمت فأعطيت لسانًا أكمل للوقار والاعتبار لحريمنا، إذ أنه أمر مهم من بعد الدين لا يوجد عندنا أعز منه..... قد عاملتنا وقت افتتاحك مصر وانتصارك معاملة أناس كأنهم اختاروك عليهم مع قوتك واقتدارك .... فنشكرك ونحمد الله حيث أنك تصدرت لمنع كامل الأضرار والأوصاب التي كان يمكن حدوثها علينا، وعاقبت فاعليها في أوقات الاضطراب، والفرنسيس طبعهم لا يميل، ولم يسرعوا وراء المظالم ".

 ويؤكد رجال الديوان مرة أخرى على رغبتهم في عودة بونابرت إلى مصر: "وأنتم سترجعون للقطر المصري، إنشاء الله أمنين، وأنت ظهرت عندنا لمحة نظير برق لامع من قبل الله الحق، وغبت عنا بغتة كأسرع ما يكون البرق، إذ أخبرتنا بأن موضوعًا آخر يدعوك إليه، وأنت تتوجه إلى حيث ما تكون رشيدًا مفيدًا منصورًا مؤيدًا بعون الله، معتمدًا عليه، وقد بلغنا الفرنساوية أحبابنا الذين سرورنا يسرهم وسرورهم يسرنا، فرّحونا بأنكم توجهتم وقصدتم الحصول على نصرة عظيمة جدًا ... وها قد غلبتم فحمدنا الله على نصرتكم ونجاح مقصدكم ... والآن نخبركم من خالص الطوية تصديقًا لمقالنا بأن الطائفتين المصرية والفرنساوية لا يعدان الآن سوى رعية واحدة، مع وفور المحبة وصدق النية، ولا زال هذا الاتحاد يشتد يومًا فيومًا في سائر الأوقات وذلك باعتناء محبنا وعزيزنا عبد الله مينو الجزيل إكرامه بين المخلوقات... فنحمد الله على أنه اشتاقكم لأن تحكموه وتقرروه وتختاروه على أن يسوسنا ويلاحظنا ويحفظنا ويرعانا ويقوم بحقوقنا وحقوق فقرائنا، ويجعلنا عباد الله إخوانا."

 ويختم المشايخ رسالتهم بقولهم: "ونؤمل بأنكم لا تنسونا كون القطر المصري بلدتكم العظيمة... وإن كامل سكانها يحبونكك ويعزونك، ثم هم مشتاقون إليك يترجونك وينتظرونك، وديننا الذي أنت محب له يدعوك ويراك بالقلب والعين لأنك وعدته، والوعد عند الحر دين، وذلك اليوم الذي به اتحاد الطائفتين، قد تعين بين العباد فلا بد عن كمال هذا الاتحاد، لأن الله هكذا شاء وإذا أراد قضى المراد والسلام". هكذا تحدث مشايخ الأمة وممثلوها... لكن الأمة نفسها كان لها رأي آخر!

المشهد الثالث: وحانت ساعة الرحيل

 لم تمض إلا  شهور قليلة وكان قد تم توقيع الاتفاق بين الإنجليز والأتراك والفرنسيين على رحيل الحملة من مصر، وعقد الديوان جلسته الأخيرة وهي "الديوان الحادي والثلاثون"، حيث كان الخشاب يطلق على كل جلسة ديوانًا، وقد انعقدت تلك الجلسة يوم الاثنين أربعة وعشرون صفر سنة ألف ومائتين وستة عشر الموافق لسابع عشر مسيدور من السنة التاسعة من المشيخة الفرنسية، وبدأت الجلسة في الثانية، وقد دعي لحضور الجلسة جمع غفير من مشايخ أروقة الأزهر الشريف وحسين أفندي الروزنامجي المشرف على الإدارة المالية وعدد من معاونيه، وبعض رجال الأوجاقات، وطائفة من التجار المصريين، وغيرهم من أهل البلد، فقد كان مقررًا أن تشهد الجلسة حدثًا جلالًا؛ الإعلان عن خروج الجيوش الفرنسية من مصر وعودة العثمانيين مرة أخرى، وفي هذه الجلسة حضر من الجانب الفرنسي ستيف المسئول المالي للحملة والذي كان المصريون يسمونه خازندار عام، كما حضر وكيل الديوان والتراجمة كالعادة.

 جاء وكيل الديوان الفرنسي حاملًا معه رسالة من مينو قائد الحملة إلى أعضاء الديوان، فسلمها للشيخ الشرقاوي رئيس الديوان، وطلب منه أن يفتحها ليقرأها الترجمان على الحاضرين، وللأسف يذكر الخشاب مختصرًا للرسالة، جاء فيه: "نخبركم أنا علمنا بكثرة الانبساط أنكم تهدؤوا بكثرة الحكمة والإنصاف في الوضع، والتنظيم لأهالي البلد بالهدى والطاعة الموجبة لحكومة الفرنساوي، وأخبرنا المقدام الجسور بونابارته عن كل ما فعلتم حكمًا نافعًا، بوصاية لأجلكم سارة واستراحة لتلك الفعال الجيدة، وعرفني عن قرب يرسل لكم جواب إلى جميع مكاتيبكم."

 ثم يوصي مينو رجال الديوان على ولده وزوجته زبيدة الرشيدية، ويحمل الديوان تعازيه للست نفيسة في وفاة زوجها مراد بيك، وينهي الرسالة بأمره للمشايخ بملازمة وظائفهم.
مراد بك

 وخلال تلك الجلسة يتحدث جيرار وكيل الديوان الفرنسي طويلًا عن حب بونابرت للمصريين، ويؤكد ثانية على أن رده على رسالة الديوان سيصل خلال أيام، ثم يلتفت إلى الشيخ الشرقاوي، ويسأله: "تشهد بما أقول أن حضرة سر العسكر بونابارته عزم على أن يتوجه معك إلى البيمارستان لينظر في مصالح الضعفاء؟ فرد الشيخ الشرقاوي قائلًا: وكان أخبرنا أنه يريد يبني مسجد. فقال: لم يعقه عن هذا إلا توجهه إلى الشام."

 وألقى القس رفاييل كبير التراجمة كلمة تحية لأعضاء الديوان أشاد فيها بجهودهم وتعاونهم مع الفرنسيين، ويختم كلمته بقوله: "نحن نشترك معكم إن كان في السعودات أو في النحوسات، ونسأله نجاح الرعايا وخصوصًا رعية مصر ذات العذوبة والحلاوة، التي يستحق أن تكون مساسة بحكام ذوي حكمة، من حيث أننا عشنا معهم بالسوية مدة مديدة كأننا عائلة واحدة."

 أما ستيف فقد ختم الجلسة بكلمة طويلة تحدث فيها عن ما قامت به الحملة في مصر، وختمها بقوله: "فلم نحتاج نعرفكم الذي تعرفوه، ويكفينا أننا نحقق لكم من عند حضرة القنصل الأول، ومن سر عسكر مينو المحبة والشفقة الصادقة، وهذه المحبة والعشم لم تنقطع بسبب سفر جانب من الجيش، وهلبت أن يصادف يوم إننا نرجع إلى عندكم لأجل تمام الخير الذي يصدر من حكم الفرنساوي، والذي لم أمكننا نتمه، فلم تتوهوا يا مشايخ وعلماء لأن فراقنا لم يقع إلا عن مدة، وذلك محقق عندي، ولابد أن دولتينا يربطوا ثانيًا في مدة قريبة المحبة القديمة التي كانت بينهم، وهلبت أن دولة العثمنلي لما تصير على الجرف الخالي الذي عملة الإنجليز، يروا أن الفرنساوية في طلبة الديار المصرية لم له إلا يربط بزيادة في المحبة صحبتهم لأجل كسر نفس الإنجليز، الذي مراده نهب جميع البحور ومتاجر الدنيا".


 وانصرف المشايخ والحاضرون وكان هذا آخر دواوين الجمهور الفرنساوي وفق ما ذكره الشيخ إسماعيل الخشاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...