الأربعاء، 23 مارس 2016


من أوراق بدر الدين أبو غازي (1)



  عندما توفي أبي بعد مرض قصير في سبتمبر 1983 ترك مجموعة ضخمة من الأوراق، بعضها مسودات مقالاته وكتبه، وبعضها الآخر رسائل تلقاها من أصدقاء أو من وزملاء له في العمل، والبعض منها يتعلق بالمجالات المختلفة التي أسهم فيها خلال سني عمره، والبعض منها مجرد خواطر عنت له دونها على قصاصات من الورق، هذا بالإضافة إلى مئات من الصور الفوتوغرافية المتنوعة.

 أوراق وصور ومقتنيات متنوعة نسقت جزء منها أمي بعد رحيله، وسلمتني أجزاء منها على دفعات، كلما استخرجت مجموعة من الأوراق ورتبتها أعطتني إياها، منذ أسابيع عدت لأقلب في هذه التركة الثمينة لاستعين بها في استئناف العمل في كتاب بدأت فيه منذ عشر سنوات وتعثرت بسبب مشاغل العمل العام، كتاب بعنوان "التاريخ العادي" أتناول فيه تحولات المجتمع المصري على مدى قرن ونصف من خلال حكاية ستة أجيال من أسرة ريفية متوسطة انتقلت إلى المدينة وأشتغل عدد من أفرادها بالعمل العام، كتاب أجمع فيه شذرات من حياة أهلي وأجدادي، تتداخل فيه الأصوات، وتتمازج الكلمة مع الصورة.


 وأثناء بحثي فيها وترتيبي لها عثرت على قصاصتين من الورق دون فيهما أبي خواطر جالت بذهنه ونحن نحتفل بعيد ميلاد أمي في سنة 1981؛ وأترك المجال له ليبوح:

 24 ديسمبر 1981

عيد الميلاد...

 كنا خمسة تنفتح عيوننا على صباح الأمل، نهمس بكلمات الأماني، ويلفنا مرح الروح بنور داخلي عميق يصاحب النهار والليل، وحول الشموع نطفئ عامًا ونستقبل عامًا جديدًا على أمل أن يبقى خمستنا، بل قد نزيد...


 صباح الأمل أصابته عتمة، وغابت نشوة المرح العميق، وسكبت الشمعة دمعة وهي تنطفئ، صار الخمسة أربعة... رحل الفارس الشاب؛ وبرحيله المختار سكنت بيتنا الأحزان..

 ومع الأحزان عشش القلق؛ الفارس الثاني يخوض معاركه، ويركب طريقًا صعبًا من أجل الحرية والعدالة والقيم، ويدفع ثمن أفكاره قيودًا وسدودًا.

 كان الطارق الليلي نذيرًا للموت، ولكنه تجسم مرة أخرى نذيرًا بالسجن، ضرباته مع الظلام تثير الفزع والهلع.

 انتزع العماد؛ فاقتحمت حياتنا مفردات غريبة.. الليمان.. السيارة الرمادية المعتمة بطاقاتها الكئيبة تحمل شبانًا من السجن إلى مكاتب التحقيق.. زيارات السلك الكبيسة.. مذكرات دفتر السجن تتسرب سطورها إلى بيتنا.

 "أنا والموت وجهان"

نلتقي بعد قليل

ومضت تبحث خلف البحر عن معنى جديد للحقيقة...

 أحن إلى خبز أمي

وقهوة أمي

ولمسة أمي

وأعشق عمري

لأني إذا مت أخجل من دمع أمي

آه من دمع أمي

خذيني أمي

إذا عدت يومًا وشاحًا لهدبك"



بين رحلة الموت ورحلة السجن تسرب إلى أيامنا الحزن والخوف، ها نحن ثلاثتنا نحيط برعايتنا، وتأتي نهلة نسمة من روح مختار تطفئ شمعة بصوت صامت، وعماد العائد مرة أخرى من عالم السدود تتفاعل في نفسه مشاعر شتى، فرحتنا بعودته يشوبها قلق واهتزاز، وحين تخفت أناشيد عيد الميلاد، عيد السلام والمحبة الذي ولدت فيه رعاية، يدير شريطًا كان بدء أن يكون صوته إليها ومشاركته لها عيد هذا العام لو بقى حبيس الليمان حتى العيد، إنه لا يملك من وراء القضبان إلا أن يبعث بهذه الكلمات التي تعلو فوق الأسوار، وتسبح في الأثير لتحمل صوتًا من الحب والأشجان...

 كلمات الشاعر محمود درويش يؤديها بصوت مارسيل خليفة، أوتاره يحركها نبض القلب وأحزان الشجن...

 جلسنا أربعة

 رعاية وعماد ونادية وأنا

نستمع إليها

وكأننا نستمع إلى همس مختار يتخفى وراء صوت مارسيل



أحن إلى خبز أمي

وقهوة أمي

ولمسة أمي

وأعشق عمري

لأني إذا مت أخجل من دمع أمي

خذيني أمي

إذا عدت يومًا

وشاحًا لهدبك

وفي لحظة من ذروة النغم الحزين عدنا خمسة تلفنا غلالة من الدموع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...