صانع
التاريخ مؤرخًا
عماد أبو غازي
قديمًا كانت صفة المؤرخ تطلق على من يدون
الأحداث التي يعاصرها ويعايشها، مثلما كان هيردوت أبو التاريخ كما نسميه يفعل؛ كان
المؤرخ بمفهوم ذلك الزمن البعيد أقرب إلى الرحالة أو المدون المتابع للأحداث
اليومية، كان أقرب إلى شاهد العيان، وفي زمن تالٍ كان المؤرخ يعود إلى الماضي
مسجلًا حوادثه، هكذا كان مؤرخو العصور الوسطى من أمثال ابن قتيبة وأبو جرير الطبري
وابن الأثير، كان هؤلاء موثقين مسجلين لما يعيشونه من أحداث، وفي نفس الوقت جامعين
منقبين عن ما وقع في ماضيهم القريب أو البعيد، لكن معظم هؤلاء المؤرخين لم يعتمدوا
على منهج علمي في جمعهم للحوادث، ولم يلجأ أغلبهم إلى نقد ما يتجمع لديهم من
حكايات ومرويات، إلى أن جاء القرن الخامس عشر الميلادي وفيه بزغ نجم اثنان من أبرز
مؤرخينا، عبد الرحمن بن خلدون وتقي الدين المقريزي، حيث وضع الأول إطارا منهجيا
لكتابة التاريخ، ونجح الثاني في أن يطبق هذا الإطار المنهجي باقتدار، بل ويضيف
إليه، وفي ذلك العصر الذي ازدهرت فيه الكتابة التاريخية، عرفنا فئة من المؤرخين
كانوا في ذات الوقت من صناع التاريخ، أي أنهم بحكم قربهم من الحكام أو مشاركتهم في
دوائر الحكم كانوا مساهمين في صنع التاريخ، وفي الوقت نفسه كانوا ممن يسجلون
التاريخ، تاريخ زمنهم، وحوادث الماضي.
ولاشك في أن محمد حسنين هيكل يعد أحد صناع
التاريخ المصري الحديث والمعاصر، فقد كان فاعلا أساسيًا في كثير من الأحداث
المهمة، فضلا عن كونه شاهدًا على تاريخ مصر والمنطقة العربية، على الأقل طوال
سبعين عامًا؛ فقد بدأ هيكل عمله الصحفي عام 1942 قبل أن يكمل عامه العشرين، وتنقل
بين الإيجيبشيان جازيت وآخر ساعة وأخبار اليوم ثم الأهرام التي ارتبط اسمه بها منذ
تولى رئاسة تحريرها منذ أغسطس 1957 حتى فبراير 1974 وارتبط اسمه بها كما ارتبطت
الأهرام الجريدة والمؤسسة به، ولا زلت أذكر نداء بائع الصحف في الستينات كل يوم
جمعة "أهرام هيكل".
طوال سنوات عمله الصحفي لم يكن هيكل مجرد مخبر
صحفي أو مراسل أو محرر أو كاتب أو صانع صحافة، كان أكثر من ذلك بكثير، ليس على المستوى
الصحفي المهني الذي نبغ قيه وتفوق، بل على مستوى علاقته بالأحداث المهمة والفاصلة
في تاريخ مصر والمنطقة العربية بل وفي تاريخ منطقة شرق المتوسط وجنوب أوروبا، فقد
اختار اختراق الحواجز والصعاب، فكانت أول جائزة صحفية يحصل عليها على تغطية صحفية
متميزة لوباء الكوليرا الذي ضرب محافظة الشرقية في أواخر الأربعينات، ثم دفعت به
تغطيته لحرب البلقان ثم حرب فلسطين سنة 1948 إلى قلب الأحداث السياسية الكبرى، وفي
حرب فلسطين كان اللقاء الأول بجمال عبد الناصر أثناء حصار القوات المصرية في
الفالوجا، هذا اللقاء الذي تكرر إلى أن أصبح علاقة تاريخية قوية بين قائد تنظيم
الضباط الأحرار ورئيس الجمهورية الثاني لمصر وبين الكاتب الصحفي والمفكر محمد
حسنين هيكل، جعلت هذه العلاقة التي توطدت قبل أن يتولى عبد الناصر قيادة البلاد
عقب انتصاره في أزمة مارس 1954 من هيكل قريبًا من مركز اتخاذ القرار في مصر
لسنوات، بل مشاركًا في القرار في كثير من الأحيان، ورغم أن علاقة هيكل بالرئاسة
تراجعت في زمن الرئيس السادات حتى وصلت إلى اعتقال هيكل في سبتمبر 1981، الذي
أسماه هيكل "خريف الغضب"، إلا أن قامة هيكل وقيمته كصاحب رؤية سياسية
لما يدور على أرض الوطن وفي المنطقة العربية وعلى ساحة الصراع الدولي لم تتراجع، بل
يمكن القول بحق أن الأزمات أضافت لهيكل ولم تنتقص منه.
وقد أتاح اقتراب هيكل من السلطة أن
يحصل على كثير من صور لوثائق ومستندات وصلت إليه بحكم صلته بالرئيسين الراحلين
جمال عبد الناصر وأنور السادات،
لقد اقترب الرجل من مواقع السلطة في مرحلة حاسمة في تاريخنا وكان
فاعلا فيها بدرجة كبيرة دون أن يتطابق معها، كل هذا أهل محمد حسنين هيكل لأن يكون إلى جانب صفته
الأصيلة كصحفي، ودوره كسياسي ومشارك في صنع الحدث، شاهدا على التاريخ وللتاريخ، ومؤرخًا
لعصرنا.
وإذا كانت شهادة هيكل على العصر تعد وثيقة حية
عن مرحلة غابت وثائقها عن أرشيفنا القومي، فإن هيكل في كتاباته المتعددة يعتبر بحق
مؤرخ ممتلك لمنهج تحليلي نقدي يتعامل مع الوثائق كمصدر رئيسي للتأريخ، إلى جانب
اعتماده على ذاكرته الحية كمشارك في الأحداث أو شاهد عليها.
ورغم أن كتابات محمد حسنين هيكل وأحاديثه في
مجملها تعد مصدرًا تاريخيًا، إلا أن من بينها ما يمكن أن نعتبره دراسة تاريخية
منهجية بحق فضلا عن كونها كتابة سياسية تحليلية، فقد كتب هيكل
العديد من الكتب التي تناول فيها تاريخنا بعين المحلل السياسي والمشارك في الأحداث
في آن واحد، ولعل من أهمها ثلاثيته "ملفات السويس" و"سنوات
الغليان" و"الانفجار"، تلك الثلاثية التي تناولت حرب الثلاثين عاما
من أجل السيطرة على المنطقة العربية، والتي أكتمل صدورها في عام 1990، ومن هذه الأعمال كذلك "أكتوبر 73 السلاح
والسياسة"، ثم كتابه عن حرب فلسطين سنة 1948 "العروش والجيوش"
بجزئية.
ورغم أن هيكل يقول في مقدمة 1967 الانفجار أن
العمل يتضمن "قراءة التاريخ وليست كتابته، وتنشيط الذاكرة وليس إصدار الأحكام"،
وإذا كان هيكل يرى: "إن الصحفي ليس في مقدوره أن يكتب التاريخ، فتلك مهمة
أكبر من طاقته، وأوسع من أي تحقيق يقوم به في حدث بذاته، ولعلها أبعد من عمر أي
إنسان فرد ، ثم إنها أعقد من أن تحتويها دفتا كتاب واحد. وإنه حتى وإن كان أحد
شهود الحدث الذي يكتب عنه يستطيع أن يقدم شهادة تاريخية لكن الشهادة التاريخية
ليست تاريخا وإنما هي إن صدقت تصلح لأن تكون مادة تاريخية أي عنصرا من العناصر
وزاوية من زوايا النظر حين يكتب التاريخ." إلا أن ثلاثية "حرب الثلاثين
سنة"، وغيرها من كتبه التي تناول فيها مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، هي
كتابة للتاريخ بجداره، يطبق في هيكل بمهارة وحرفية منهج البحث التاريخي الذي يقوم
على التحليل والتركيب، إنها كتابة تاريخية تعتمد على الوثائق تحللها وتستنطقها،
وتعيد ترتيب المادة المستخلصة منها لتشكل بها بناءً تاريخيًا مكتملا، فإن ما قدمه
في هذه المجموعة من الأعمال المتوالية لم يكن تحقيقا صحفيا، ولم يكن مجرد شهادة
تاريخية، بل عملا في التأريخ للصراع في المنطقة ـ منطقة الشرق الأوسط ـ وعليها،
كما كان مشروعه في البداية في عام 1985، عندما اقترح عليه ناشره البريطاني أن
يستبدل بفكرة هذا الكتاب عن الشرق الأوسط كتابا عن حرب السويس في ذكراها الثلاثين.
ورغم أنه حقق رغبة ناشره بالتأليف عن حرب
السويس بعد ثلاثين عامًا من وقوعها، إلا أنه ربطها تاريخيًا بما قبلها وما بعدها؛
فقد كان يرى أن: "السويس كانت قمة صراع بدأ قبلها بسنوات طويلة ثم استمر
بعدها وتصاعد حتى قمة 1967، ولم يتوقف تصاعده حتى جاءت سنة 1973، وبعدها بسنوات
بدا أن مرحلة بكاملها في الشرق الأوسط قد وصلت إلى نهايتها، وأوشك الستار أن ينزل
عليها ليرتفع إلى مرحلة جديدة لا أحد يعرف متى وأين وكيف بدايتها؟"، وأن
"السويس وحدها لا تقول القصة كاملة للصراع على الشرق الأوسط وفيه، والصراع
كله يستحق أن يعالج، وليس السويس وحدها وإلا فإن الموضوع مبتور وناقص!"
وهذا ما حققه العمل بالفعل، لم يأت في صورة سرد
صحفي، بل تحليل سياسي تاريخي، وضع هيكل في مكانة بارزة بين طائفة المؤرخين، إلى
جانب مكانته بين الصحفيين والمحللين السياسيين.
ما يميز هذه الأعمال لمحمد حسنين هيكل أنه كتبها
بعد الحدث بسنوات، وإنها اعتمدت على الوثائق بدرجة كبيرة، ورغم أنه كما يقول تباعد
مرات عن الحديث وترك الوثائق وحدها تحكي ما عندها، إلا أن صوته يظهر محللًا وقارئًا
للوثائق الأصلية، فاكتسبت بذلك خصائص الكتابة التاريخية.
يبقى السؤال، هل كان هيكل منحازًا في كتابته،
لقد أشار بوضوح في مقدمته لملفات السويس إلى أن: "الذين يعيشون الحوادث هم في
أغلب الأحيان آخر من يصلح لتأريخها، ذلك لأن معايشتهم للحوادث تعطيهم على الرغم
منهم دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف بطبيعته اقتناع، والاقتناع
بالضرورة رأي، والرأي في جوهره اختيار، والاختيار بدوره انحياز، والانحياز تناقض
مع الحياد وهو المطلوب الأول في الحكم التاريخي."
لكن هل هناك مؤرخ محايد، أو باحث في التاريخ بلا
انحياز، أشك في ذلك، فكل العاملين في حقل الإنسانيات والدراسات الاجتماعية لهم
انحيازاتهم، وهذا الانحياز لا يعيب بحثهم ولا ينتقص منه، طالما أن هذا الانحياز لا
يؤثر على الموضوعية، ولا يدفع بهم إلى إخفاء وثيقة أو اختلاق واقعة.
وأتذكر هنا ما أكد عليه الأستاذ
محمد حسنين هيكل في أحاديثه بقناة الجزيرة منذ عدة سنوات عندما قال: "سئلت
كثيرا جدا عما إذا كنت أنا منحازا أو غير منحاز، وأنا بأقول بوضوح كده، نعم أنا
منحاز، ولكن مسألة الانحياز لا بد أن توصف، أخجل من انحيازي إذا كان انحيازا لنظام
أو انحيازا لرجل لكني لا أخجل من انحيازي إذا كان انحيازا لوطن ولأمة، وأنا أتصور
برضه ويشفع لي تجربة طويلة يعني هو أني واحد بلا مطامع، أن أقول إنه حتى هذه
اللحظة أنا أقدر أتكلم في هذا الموضوع وأقول والله أنا منحاز ومنحاز لوطن وأمة
وليس لرجل وشخص"، كما أكد أيضا على أن ما يقدمه محاولة للتحليل والفهم عندما
قال: "بترجى أنه لا أحد يتصور أنه في أحد يملك حقيقة ولا في أحد يملك حكمة
ولكن كلنا بنحاول".
إن
كتابات هيكل حول الصراع في المنطقة وعليها محاولة ناجحة في التأريخ جعلت من صانع
التاريخ مؤرخًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق