الثلاثاء، 9 فبراير 2016


مخربشات

من أهل الديوان إلى حضرة ساري العسكر بونابارته

عماد أبو غازي

الشيخ عبد الله الشرقاوي

 في 2 أكتوبر سنة 1800 قرر مينو ثالث قادة الحملة الفرنسية على مصر إعادة تشكيل الديوان الذي كان بونابرت قد شكله عقب احتلاله لمصر، وكان يضم ممثلين للمصريين إلى جانب بعض رجال الحملة، وقد تشكل ديوان مينو من تسعة من مشايخ الأزهر الكبار برئاسة الشيخ عبد الله الشرقاوي وأمانة سر الشيخ محمد المهدي وكان من بين أعضائه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي والحاج علي الرشيدي صهر مينو، وشغل إسماعيل الخشاب منصب كاتب الديوان، ومن خلال وظيفته تلك قدم لنا ملخصا لجلسات ووقائع اجتماعات الديوان.


 مينو
وقد لفت انتباهي وأنا أقراء ووقائع تلك الجلسات ما ورد في جلسة الديوان الرابعة، التي انعقدت يوم الأربعاء 24 جماد آخر سنة 1215، الموافق 21 برومير سنة 9 وفقا لتقويم الثورة الفرنسية، ففي تلك الجلسة وضع الشيخ محمد المهدي لنفسه كرسيا بوسط الديوان وجلس عليه ليقرأ على الأعضاء نص الخطاب الذي صاغه بناء على تكليفهم ليرسلوه باسمهم وباسم شعب مصر إلى "حضرة عزيز المقام المشهور بين الخاص والعام عضيم العظماء والكبراء ... الحناب المهاب الأعظم، والمخصوص بالرأي التام بين الأمم، أمير الجيوش الفرنساوية على الإطلاق، والمنظور إليه في جميع الأقطار الآفاق، حضرة الجنلار (يقصد الجنرال) بونابارته"، بالمناسبة هذا قليل من كثير من أوصاف التفخيم والتعظيم التي وصف بها مشايخ الديوان "ممثلو" شعب مصر القائد الذي احتل بلادهم، أما مناسبة الرسالة فهي تهنئة بونابرت بانتصاراته المتلاحقة في أوروبا والتي أطلعهم عليها وأخبرهم بها خليفة خليفته في حكم مصر الجنرال عبد الله جاك مينو.

الشيخ محمد المهدي

 بعد الديباجة الطويلة التي تحوي ألفاظ التفخيم والتعظيم والدعاء لبونابرت بالنصر وبلوغ الآمال، يبدأ نص الرسالة الذي يتشوق فيه مشايخ الديوان لرؤية طلعة بونابرت البهية في مصر مرة أخرى فتقول الرسالة: "وبعد مزيد الأشواق برؤياكم وتمني التلاقي بمحاسنكم ومزاياكم، فإن جنابكم أيها الأمير الجزيل شرفا، الجميل لطفه وظرفه، أوعدتمونا مرارا عديدة وفرحتونا بأقوالكم السديدة وألفاظكم السعيدة، بأن عينيك دائما ملاحظان لهذه البلاد، ونحن نتحقق وفاء وعدكم، إن الله لا يخلف الميعاد، خصوصا وأن الله سبحانه وتعالى أراد تمام كلما تقولونه على الإجمال".

 وينتقل مشايخنا الأجلاء لمخاطبة بونابرت باسم الشعب المصر كله: "كل سكان القطر المصري من أمراء وأعيان ومن سائر أحبابنا الذين يعز علينا نجاحهم ونحبهم من الإخوان، وأهل أنواع التجارة، وأرباب الصنائع في جميع مدائنهم والبنادر، أصحاب الفضائل والعلوم، وأرباب المحامد والمفاخر، والمشتغلين بالفلاحة والزراعة، وسائر النساء التي صان الله عرضهن على يديكم الشهيرة بالفروسية والشجاعة، وكامل الفقراء والمساكين، وجميع الشباب والشيوخ من الأغنياء والمقترين هم باتفاق واحد بنا إليكم متوسلين، وعلينا في مخاطبتكم معولين وبنا مستعينين، لكونهم يفهمون خطابنا ونفهم خطابهم، وجعلتونا حين كنتم عندنا واسطة بينكم وبينهم ونحن وإياهم جميعا مبتهلون، وإلى الله راغبون طالبين من فضل رب العالمين أن تكونوا دائما على أعدائكم منتصرين ظافرين ولفعل الخيرات متعطفين محبا وعضدا للفقراء والمساكين، موقرا مكرما ومعضدا لديننا الأمجد الأجل، من حيث أنك قدمت فأعطيت لسانا أكمل للوقار والاعتبار لحريمنا، إذ أنه أمر مهم من بعد الدين لا يوجد عندنا أعز منه..... قد عاملتنا وقت افتتاحك مصر وانتصارك معاملة أناس كأنهم اختاروك عليهم مع قوتك واقتدارك .... فنشكرك ونحمد الله حيث أنك تصدرت لمنع كامل الأضرار والأوصاب التي كان يمكن حدوثها علينا، وعاقبت فاعليها في أوقات الاضطراب، والفرنسيس طبعهم لا يميل، ولم يسرعوا وراء المظالم ".

 ويؤكد رجال الديوان مرة أخرى على رغبتهم في عودة بونابرت إلى مصر: "وأنتم سترجعون للقطر المصري، إنشاء الله أمنين، وأنت ظهرت عندنا لمحة نظير برق لامع من قبل الله الحق، وغبت عنا بغتة كأسرع ما يكون البرق، إذ أخبرتنا بأن موضوعا آخر يدعوك إليه، وأنت تتوجه إلى حيث ما تكون رشيدا مفيدا منصورا مؤيدا بعون الله، معتمدا عليه، وقد بلغنا الفرنساوية أحبابنا الذين سرورنا يسرهم وسرورهم يسرنا، فرّحونا بأنكم توجهتم وقصدتم الحصول على نصرة عظيمة جدا ... وها قد غلبتم فحمدنا الله على نصرتكم ونجاح مقصدكم ... والآن نخبركم من خالص الطوية تصديقا لمقالنا بأن الطائفتين المصرية والفرنساوية لا يعدان الآن سوى رعية واحدة، مع وفور المحبة وصدق النية، ولا زال هذا الاتحاد يشتد يوما فيوما في سائر الأوقات وذلك باعتناء محبنا وعزيزنا عبد الله مينو الجزيل إكرامه بين المخلوقات ... فنحمد الله على أنه اشتاقكم لأن تحكموه وتقرروه وتختاروه على أن يسوسنا ويلاحظنا ويحفظنا ويرعانا ويقوم بحقوقنا وحقوق فقرائنا، ويجعلنا عباد الله إخوانا."
صفحة من مخطوطة التاريخ المسلسل التي تسجل وقائع الديوان

 ويختم المشايخ رسالتهم ـ التي لا نعرف للأسف كيف كان تلقي بونابرت لها ـ بقولهم: "ونؤمل بأنكم لا تنسونا كون القطر المصري بلدتكم العظيمة ... وإن كامل سكانها يحبونكك ويعزونك، ثم هم مشتاقون إليك يترجونك وينتظرونك، وديننا الذي أنت محب له يدعوك ويراك بالقلب والعين لأنك وعدته، والوعد عند الحر دين، وذلك اليوم الذي به اتحاد الطائفتين، قد تعين بين العباد فلا بد عن كمال هذا الاتحاد، لأن الله هكذا شاء وإذا أراد قضى المراد والسلام"

هكذا تحدث مشايخ الأمة وممثلوها... لكن الأمة نفسها كان لها رأي آخر!

هناك تعليقان (2):

  1. هي بالطبع علاقة مصالح ومحاولة طائفة تخصيص نفسها والنجاة علي حساب الباقين ودوما يكون هناك مرتزقة اللحظة
    ورجال الدين وغيرهم من كبار العسكر والتجار هم الاقرب للتقرب والقنص

    ردحذف
  2. منهج لا زال مستمرا إلى يومنا من اللف والدوران دون الدخول مباشرة في الموضوع، وإن طبعا اختلفت الأساليب

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...