قلة نهضة مصر
عماد أبو غازي
دي مقالة قديمة كنت نشرتها في عمودي الأسبوعي
بالدستور من عشر سنين تذكرته بمناسبة الصورة دي:
الصورة بعتتها لي الصديقة كريمة خليل من أسابيع
قليلة. فدورت على المقالة وبعيد نشرها النهارده مع الصور المرة دي.
ده المقال:
أثناء قيامي بإخلاء شقة جدتي عثرت على صندوق كبير فوق
دولاب خشبي متهالك، الصندوق كان مغلقًا بإحكام وعناية، ولأن منزل جدتي الذي كانت
تسكن فيه منذ 1935 ممتلئ بأشياء غريبة وطريفة فقد توقعت أن أعثر في هذا الصندوق
على "كنز"، والكنز الذي أتوقعه وأنتظره ليس كنزًا من المال فهي لم تكن
تملك منه الكثير، لكن "كنزها" الكنز الذي يهمني ويعنيني كباحث في
التاريخ والوثائق، كنز الأوراق القديمة والصور الفوتوغرافية والتذكارات،
خصوصًا أن سكان هذا المنزل جدتي وبناتها وشقيقتها ووالدتهما، هم أسرة المثال
مختار، وقد عشن فيه سبعين عامًا، كما عاش فيه أبي منذ صباه قبل أن يتزوج ويغادر
المنزل متوجه جنوبًا إلى حي المعادي عام 1950، وقد قضيت سنوات طفولتي وشبابي
مترددًا على هذا المنزل، فكثيرًا ما كنت أقضي أيامًا من الإجازات المدرسية في هذا
المنزل؛ الآن المنزل بالنسبة لي صندوقًا للذكريات والأسرار جاءت الفرصة لفتحه وأنا
أخلي الشقة بعد رحيل جميع ساكنيها.
صورتي مع جدتي
نرجع مرة أخرى للصندوق، لم أستطع الانتظار حتى
أنزل بالصندوق من فوق الدولاب، فتحته وأنا نصف معلق في الهواء، كان أول ما اكتشفته
شجرة للعائلة تتضمن نسب الذكور أبناء الذكور فقط، رسمها أحد أفراد العائلة وأهداها
إلى أبي باعتباره ابن شقيقة مختار، ويرجع تاريخها إلى عام 1946، فقدرت بالخبرة
المهنية كمتخصص في الأشياء القديمة، أن الصندوق أغلق في ذلك العام، عام 46 وليس
قبل ذلك، ومع مزيد من الحفريات في أعماق الصندوق اكتشفت مجموعة من الصور
الفوتوغرافية ترجع إلى بدايات القرن الماضي وخطابات وشهادات وأوراق قديمة أخرى،
كان من أطرفها بالنسبة لي "شهادة تحقيق شخصية للخدامين" صادرة عن نظارة
الداخلية في 10 فبراير 1917، والشهادة باسم مرسيلة عبد الله المولودة بالسودان
والمقيمة بالداودية بالدرب الأحمر، سنها 50 سنة وتعمل طباخة، وتحمل الشهادة
المدونة بالعربية والإنجليزية صورة الست مرسيلة.
ومن النظرة الأولى يتضح أن
الصورة لصاحبة تمثال لمختار، البورترية المعروف باسم رأس زنجية، والذي نحته في
مرحلة الدراسة بمدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز بالقاهرة، ومرسيلة هذه أو كما
كانت تسميها جدتي داده مارسينا طباخة تعيش مع الأسرة، وهي طفلة سودانية خطفها تجار
الرقيق وباعوها في مصر قبل إلغاء الرق، واشترها جد جدتي لأمها البدراوي أحمد عمدة قرية نشا في أوائل سبعينات القرن
التاسع عشر، وتحررت مثل غيرها لكنها ظلت مرتبطة بالأسرة التي تربت في كنفها، وعندما
كان مختار طالبًا في مدرسة الفنون كان وجه مرسيلة أول وجه نسائي خلده في تمثال.
عثرت أيضًا على علبة صغيرة مستطيلة من القطيفة الخضراء، عندما فتحتها وجدت بداخلها إيصال تلغراف وكارتين من الكارتون.
يحمل
الكارت الأول صورة للزعيم مصطفى كامل محاطة بإطار مذهب وعليه عبارة "فلتحي ذكرى
مصطفى كامل باشا"، وعلى الكارت الثاني وضعت صورة لقداسة الأنبا كيرلس الخامس
محل صورة مصطفى كامل ودونت عبارة مماثلة لتلك المدونة على الكارت الأول، ثم طمس
اسم مصطفى كامل بنقوش مذهبة، وكتب بالخط المذهب على جانبي الصورة: حضرة قداسة
الأقدس المفخم أنبا كيرلس الخامس، وعلى ظهر الكارتين عبارة: "المصور المصري
حسن راسم حجازي بحارة أحمد طاهر بطنطا".
خمنت أن صاحب العلبة القطيفة والكارتين
لابد وأن يكون جدي محمود أفندي أبو غازي، فقد عمل لفترة قصيرة مدرسًا للتاريخ في
إحدى المدارس الابتدائية بطنطا، وانتقلت الأسرة لتعيش معه هناك، ولابد أن تاريخ
العلبة ومحتوياتها يعود لأواخر عام 1925 لأن بالعلبة إيصال تلغراف مرسل في شهر
أكتوبر من ذلك العام أو لبدايات عام 1926 العام
الذي توفي فيه جدي.
وعندما وصلت إلى القاع اكتشفت ما
اعتبرته أهم كشف "أُسري"، غطاء قلة نهضة مصر، أخيرًا عثرت على هذا
التراث العائلي الذي كانت جدتنا تحكي لنا عنه وكنت أظنه أسطورة من الأساطير، كانت
جدتي تحكي لنا دائمًا عن أن أحد مظاهر الاحتفاء الشعبي بتمثال نهضة مصر تمثل في
صنع أغطية للقلل تحمل نموذجًا مصغرًا لتمثال النهضة، وكنت قد عاصرت وأنا صغير
إنتهاء عصر القلة في بيوت الأسرة القديمة ومنها بيت جدتي، وكانت للقلل في زمننا
أغطية من البلاستيك الملون، وكانت هناك بقايا قليلة من الأغطية النحاسية القديمة، وكان
السؤال الذي يشغل ذهني وأنا صغير إذا كانت أغطية القلل التي تحمل تمثال النهضة
حقيقة وليست خيالًا فلماذا لا تستخدمها جدتي؟ أخيرًا وجدتني أمام الإجابة أمام "القارة
المفقودة" أو القلة المفقودة، ثلاثة لفافات قُمعية الشكل مغلفة بإتقان بورق
أزرق داخل كل لفافة غطاء قلة من المعدن الفضي اللامع فوقه نموذج مذهب لتمثال نهضة
مصر، أصغر نموذج شاهدته في حياتي للتمثال، كنت قد شاهدت عند الصديق بيير سويفي
نماذج صغيرة غير متقنة من الجبس الملون لتمثال النهضة اقتناها من بعض أسواق
الأشياء القديمة، ارتفاعها حوالي 25 سم، لكن تمثال غطاء القلة لا يتجاوز ارتفاعه 2
سم فقط.
إن غطاء القلة هذا يعكس كيف تحول عمل فني تشكيلي
إلى جزء من وجدان الأمة بكل طبقاتها، كان تمثال النهضة رمزًا للثورة المصرية جسد
من خلاله مختار طموح الثورة المصرية لاستعادة الروح الوطنية، فلقي التأييد من كل
المصريين فأشاد به الزعيم سعد زغلول في رسالة بعث بها إلى مختار بعد أن شاهد
النموذج المصغر الذي عرضه مختار في معرض باريس،
ودعا مجموعة من الساسة والمثقفين لإقامة التمثال في ميدان من ميادين
القاهرة، وتبنت جريدة الأخبار حملة لجمع التبرعات للتمثال، وقد شارك بالتبرع أغنياء مصر كما شارك الفقراء من كافة الطبقات
بملاليم قليلة تجمعت لتصبح ثلاثة آلاف جنيه وهذا مبلغ كبير جدًا بمقاييس وقتها،
وقد نشر بدر الدين أبو غازي في كتابه عن المثال مختار قوائم التبرعات ونماذج من
الخطابات التي أرسلها بسطاء المصريين طلاب وعمال وربات بيوت وباعة جائلين وباعة
ترمس مع تبرعاتهم، لقد أصبح إحساس الناس عن حق أن التمثال ملكهم جميعا، وتكونت
علاقة بين التمثال والناس لم تحدث من قبل في تاريخ الفن، فاتخذته الشركات الصناعية
وشركات السينما وشركات النقل ودور النشر والمراكز البحثية والبنوك شعارًا لها، لكن
أجمل ما رأيته هذا التجسيد الشعبي البسيط للتمثال الرمز، غطاء القلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق