السبت، 27 ديسمبر 2014


رعاية حلمي
عماد أبو غازي

  ٢٤ ديسمبر عيد ميلاد أمي، أول مرة نقضيه وهي مش معانا، وأول مرة أكون بعيد عن القاهرة في اليوم ده من ساعة ما وعيت على الدنيا، حبيت أني اكتب عنها النهار ده، وأخليها تكتب عن نفسها، وكمان أسيب مساحة لواحدة من تلميذاتها تكتب عنها.  
 أرتبط اسمي دائما بأبي كناقد تشكيلي ومثقف شارك في الحياة المصرية منذ مطلع الأربعينات، وارتبط أيضا بخال أبي مختار الذي أوصف دائمًا بأني حفيد له، دومًا كان لدي إحساس بالذنب تجاه أمي التي أعتقد أنها أسهمت في تكويني بشكل كبير، ولا أعرف كيف أقدمها للحياة العامة التي ابتعدت عنها لسنوات طويلة، رغم أنها تستحق أن أُعّرِف بها مثلما أُعّرف بأبي، فأمي نحاته ومصورة متميزة، ليس في تقديري بل في رأي كل من شاهد أعمالها الفنية في منزل الأسرة أو في منزلنا أو على صفحتي على الفيس بوك، ابتعدت عن أضواء المعارض الفنية وركزت جهدها في عملها كمدرسة للتربية الفنية في مدرسة السنية ثم كموجهة بعد ذلك، وكم أسعد عندما ألتقي في الحياة بتلميذاتها فيتحدثن معي عنها، وكانت منهن زميلات لي في العمل السياسي وأخرهن زميلتي في المجلس الأعلى للثقافة نجلاء الكاشف والتي فوجئت بعد سنوات من عملنا معًا أني ابن مدرستها التي أثرت فيها وأحبتها رعاية حلمي.
 

 وهذه كلمات قالتها الدكتورة سوزان فياض واحدة من الطالبات التي كانت أمي تحبهن وتعتز بهن، كتبتها في رثائها بعد أن رحلت يوم 28 أكتوبر الماضي تكشف جوانب من حياتها قد لا تعرفها أسرتها بالضرورة، قالت سوزان على صفحتي:

 "السيدة الفاضلة هي "أبله رعاية" أستاذتي ومربيتي الفاضلة في قسم الدراسات الفنية في مدرسة السنية الثانوية.. وأبله رعاية كانت أيضًا زوجة وزير الثقافة الشهير في أواخر الستينات ـ والد الدكتور عماد ـ ومؤلف العديد من الكتب والحائز على جوائز محلية ودولية رفيعة، ومن بين كتبه كتاب صغير بسيط عن "التذوق الفني" وكان من ضمن المنهج المدرسي في قسم الدراسات ـ السيدة المثقفة واسعة الأفق كانت تعرف جيدًا أن المطلوب من التربية الفنية ليس تخريج طلابًا فنانين.. وإنما تربية حاسة التذوق الفني لدى الطلاب والناس عمومًا.

  التقطت بمهاره شغفي وفضولي للتعرف على الفنون (وكنت قد بدأت القراءة وأحببت التاريخ والأدب) وبالرغم أنني لم تكن لدي أي مهارة في الرسم.. وكان مثلي كثيرون.. إلا أنها راحت تشجعنا على تجربة كل أشكال التعبير الفني مرورًا بالرسم والحفر والطباعة، وصولًا لتنمية المهارات النقدية، فطلبت مني الاطلاع على كتب مصورة عن مختلف المدارس الفنية.. ورحت أقرأ التعريف الصغير المكتوب بالإنجليزية بجوار الصور، وأسأل وأترجم وأكتب انطباعي عن الكتاب والمدرسة الفنية التي يعبر عنها.. وهكذا تعرفت سريعًا على ما يسمى المدارس التجريدية والتأثيرية والتكعيبية وكونت ذوقي الخاص الذي مازال يلازمني عند اختيار الصور بالمنزل..

 مع أبله رعاية تعرفت لأول مره على تاريخ الفن المصري الحديث.. وذلك بمساعدة الكتب التي ألفها الراحل الكبير بدر الدين أبو غازي (ولا أذكر إن كانت مصورة.. ولكني أذكر أنني تعرفت على رسوم لراغب عياد ومحمود سعيد.. كما أهدتني وزميلتي أن ذاك (آمال عبد الهادي) كتابًا ضخمًا يحتوي على صور فاخرة الطباعة لمحمود مختار.. أما زيارات المتاحف والمعارض الفنية الدورية، فقد أصبحت هواية جديدة لي (وأزاحت هوايات أخرى تافهة قديمة).

 حين انتقلنا للجامعة، نقلت أنا وصديقتي آمال إلى زملائنا كل ما تعلمناه.. فرحنا نطعم مجلات الحائط بالمعلومات والصور الفنية.. (إلى أن قطع الطريق علينا أولاد الحرام بتوع السياسة وانخرطنا لسنوات في مجال جديد.. أجاهر بالرغم من أنني لازلت أمارسه بشكل أو بأخر أنني لم أحبه!

 أحببت هذه السيدة الهادئة البسيطة بدرجة لا توصف.. فأطررت أن أكون مؤدبة مثلها وأن أتعلم أدب الحوار (جزئيًا!) لأني كنت مندفعة وتلقائية (أكثر من الآن).. لدى آمال وعدد أخر من الصديقات خبرات شبيهة.. باختصار هي سيدة من ذلك النوع من الناس التي تترك تأثيرًا إيجابيًا كبيرًا في كل ما حولها..

 حزنت كثيرًا لأني لم أزورها في مرضها.. ولم أعرف بالجنازة إلا اليوم.. عزاؤنا الوحيد أن ذكراها تعيش في قلوب الكثيرين.. بقدر ما ربت وأضافت وعلمت... رحمها الله.. وقلبي مع عماد وكل أفراد أسرتها".

 لقد كنت منذ طفولتي أشعر بفخر داخلي وزهو بأن أمي إمرأة عاملة، وربما جاءت الفرصة لي لأعلن هذا الزهو على الملأ، أمي رعاية الله حلمي كانت دائمًا مصدر فخر لي، كنت سعيد جداً أن أمي تعمل، وكان عملها يشعرني بأني متميز، لأن أمهات زميلاتي وزملائي في المدرسة الابتدائية أغلبهن من غير العاملات، أغلب الأطفال كانت أمهاتهم يحضروا للسؤال عنهم في المدرسة، أما أنا فلا، لم يكن هذا يضايقني على العكس كان يعطيني شعور بالاختلاف والفخر بها، خاصة وهي مدرسة مثل أولئك المدرسات اللاتي يقمن بتعليمنا.

 لم يؤثر عملها أبدًا على اهتمامها بنا، مختار وأنا ونادية، بقدر ما كانت المرأة العاملة المتفانية في عملها المخلصة له، كانت الأم الحنونة المعطاءة، حضورها في الأسرة دائم، ولمساتها في المنزل واضحة، تعلمنا وتوجهنا بشكل غير مباشر، ترعى اهتماماتنا الصغيرة والكبيرة، كانت رعاية الله بحق، اسم على مسمى.




 





 

 تحببنا في الفن وتهتم بما نرسمه وتشجعنا دومًا، كان يوم عيد بالنسبة لنا عندما تعطينا علبة ألوانها الفلوماستر العريضة التي أتت بها من فرنسا لنرسم بها، فلم يكن هذا النوع من الألوان موجود في مصر وقتها، وكنا نسميها "الألوان السحرية".
 في بعض الأحيان تجمع "لوحاتنا" وتنظم لنا بها معرضًا على جدران غرفة من غرف المنزل، وتضع شريطًا على بابها، ثم تدعو أبانا لافتتاح المعرض، وربما يمنحا بعض "اللوحات" جوائز، أو يقرروا اقتنائها، مثلما تقتني الدولة أعمال كبار الفنانين.

 عندما كانت تسافر مع أبي مرة كل عامين لحضور بينالي الإسكندرية لفنون البحر المتوسط، ويتركانا في بيت جدي لأمي القريب من بيتنا، ينظما لنا مسابقة في القراءة الحرة، يقرأ كل منا نحن الثلاثة ما يشاء من كتب، ويكتب عنها، وبالطبع كانت الجوائز من نصيب ثلاثتنا، يختاروا عرضًا واحدًا من عروض الكتب التي قدمنها، عرض واحد لكل منا ويمنحوه جائزة عليه.
 عندما كبرنا بعض الشيء كانت إجازة الصيف بالنسبة لي ولنادية فرصة لنشاركها المطبخ، نطهو معها الكيك ونتعلم الطبخ، تعلمت منها كثير من الطبخات وبرعت فيها، لكني نسيت كيف يصنع الكيك، أما نادية فمازالت ماهرة في صناعته.
 عندما صرت أكبر أدركت ما ضحت به من أجلنا، فنها، إبداعها في مجال النحت والتصوير المائي والزيتي، توقفت تقريبًا منذ عام 1955، لم تكن قادرة أن تترك عملها الذي تحبه في التدريس، ورأت أن عليها أن تختار بين اثنين من ثلاثة: الأبناء والتدريس والفن، فاختارتنا واختارت التدريس.

 رغم قسوة تجربة فقد الابن التي مرت بها بعد وفاة أخي الأكبر في حادث سيارة، فقد حاولت رغم حزنها على رحيل مختار أن تتماسك من أجلنا، أبي ونادية وأنا، واصلت الحياة، بعد أشهر استقالت من عملها، لكنها حاولت أن نعيش حياة طبيعية بقدر طاقتها، وبعد أن فقدنا أبي حاولت أن تتماسك مرة أخرى من أجلنا أيضًا، رغم المرارة التي تركها فقد الابن ثم الزوج شريك الحياة في أقل من أربع سنوات، كانت تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها نادرًا ما كانت تفصح عما بداخلها، عن إحساسها بأنها فقدت جزء منها بعد وفاة مختار، وفقدت كل شيء بعد وفاة بدر.

 ربما أعطها الأحفاد مريم وسلمى وسامح دفعة جديدة للحياة، تابعتهم يكبرون ويشقون طريقهم ويختارون مستقبلهم، كانوا مصدر سعادة لها، تتجدد بهم طاقتها، تبث فيهم القيم الجميلة، وتفخر بما يحققوه.



 

 والآن أترك مساحة هنا لأمي تتحدث عن نفسها وعن شقيقتها الأصغر الفنانة منحة حلمي، هذا النص الذي أملته عليّ منذ عدة سنوات ليتصدر كتالوج معرض منحة حلمي الذي أقيم في قاعة أفق بعد وفاتها، وكنت قد نشرت هذه الكلمة من قبل ضمن عمودي الأسبوعي بجريدة الدستور، تحت عنوان "مخربشات شخصية"، ورأيت أن الكلمة رغم أنها شخصية لكنها تعكس تفكير جيل أعطى كثير لهذا البلد، وبالنسبة لي فإن الكلمة تحمل معاني كثيرة فبتقديمها كنت أتصور أنني أسد قليلًا من دين كبير لأمي.

 


رعاية حلمي في مرحلة الدراسة
منحة حلمي ... صورة عن قرب

رعاية حلمي

"جمعني بمنحة مصير واحد وعلاقة مركبة، لم تكن مجرد شقيقتي التي تصغرني مباشرة، كنا في الوسط بين تسعة أشقاء، ولدان وسبع بنات، كان تقارب السن بيني وبينها وسط أسرة كبيرة العدد دافعًا إلى توطد علاقتنا، ثم كان تقارب الميول والاتجاه نحو دراسة الفنون نتيجة لتلك العلاقة الحميمة وسببًا ـ في نفس الوقت ـ لمزيد من تعميق العلاقة، كان اختيارنا للفنون مجالًا لدراستنا العليا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي نتاج نشأتنا في بيئة أسرية تحترم الفكر والثقافة، كان الأب حريصًا على تعليمنا جميعًا التعليم الذي نرغب فيه ويتوافق مع ميولنا، اهتم بتعليم البنات بنفس قدر اهتمامه بتعليم الأولاد، في فترة كان التحاق الفتيات بالتعليم الجامعي في مصر في بداياته الأولى، وكانت الأم تعمل دائمًا على توفير الأجواء الملائمة لنا لنحقق ذواتنا ونتقدم في حياتنا.

 كنا دائما ـ منحة وأنا ـ مع بعضنا متلاصقتان، ينادوننا دومًا: منحة ورعاية أو رعاية ومنحة، لم نكن نفترق أبدًا، معًا في اللهو في مرحلة الصبا، معًا في الدراسة وفي استلام شهادات التفوق الدراسي حتى المرحلة الثانوية، ثم في المعهد حيث اتجهت منحة لدراسة فن التصوير، واتجهت أنا لدراسة فن النحت.

 
 وبعد بعثتها إلى إنجلترا تخصصت في فن الحفر وتميزت فيه دون أن تترك أساسها الأول كمصورة بارعة، استمرت تبدع أعمالها الفنية حتى السنوات الأخيرة من حياتها عندما توقفت عن ممارسة فن الحفر بسبب الحساسية التي أصابتها من التعامل مع الأحماض والمواد الكيميائية التي يتطلبها الإبداع في هذا الفن، وإن واصلت عملها كأستاذة بكلية التربية الفنية تخرج أجيالًا وراء أجيال.

 وفي مرحلة الدراسة تعلمنا على يد مجموعة من الأساتذة المتميزين الذين ساهموا في تكوين فنانات جيلنا، كان ممن درسّن لنا: مارجريت نخلة ومدام عياد ومدام راينر وكوكب يوسف.

 على مر الأيام جمعت بيننا جولتنا المشتركة في المعارض والندوات الثقافية والفنية، التي كانت تذخر بها الحياة المصرية في الأربعينات، حتى عندما تزوجنا، كان اختيارنا لشخصين متشابهين في كثير من الصفات، اخترت أنا بدر الدين أبو غازي ناقدًا تشكيليًا شابًا دارسًا للقانون، واختارت هي عبد الغفار خلاف طبيبًا شابًا وهب حياته لخدمة الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كانا متشابهين في الطموح الشديد كل في تخصصه ومجاله الوظيفي، إلى جانب اهتمام بالثقافة والفن والأدب، ومشاركة فاعلة في العمل العام، وتميزًا إنسانيًا باحترام شديد للحياة الأسرية وللزوجة ولعملها، وعرفنا معهما مساندة دائمة لنا.

 كانت حوارتنا حول المعارض التي نزورها وحول الفن وقضاياه، وبعد رحيلها أشعر في ابنتها الكبرى نهال امتدادًا لها وهي تتناقش معي حول الفنانين وأعمالهم التي تقتنيها وحول المعارض التي تزورها.
 تميزت منحة حلمي دائمًا بالاتزان والهدوء والاعتماد على النفس، كانت شخصية دءوبة في عملها متقنة له لا تعرف اليأس ولديها إصرار على إتمام العمل الذي تبدأه، حرصت حتى اليوم الأخير في حياتها على الاستمرار في عملها بكلية التربية الفنية، وغادرتنا فجأة وبهدوء كعادتها وطبعها الدائم في ألا ترهق أحدًا معها."

  بكلماتك أختم هذه السطور...
 

هناك تعليق واحد:

  1. تعيش وتفتكر يا أستاذي . رحمها الله وأدخلها فسيح جناته حضرتك أعظم إمتداد لها

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...