الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم !!!
 
شاعر القطرين يهاجم الاستبداد
 وأنا بقلب في ملفاتي القديمة لقيت المقال ده، كنت كتبته في مخربشاتي في الدستور من سبع سنين في خريف 2007، حسيت إني عاوز أنشره تاني وأهديها لضحايا قانون التظاهر وضحايا مصادرة حرية الرأي والتعبير... 
عماد أبو غازي

 الشيء بالشيء يذكر كما يقولون، والشيء هنا ثلاثة أشياء، أولها الحديث عن دنشواي الذي قادني إلى لحظة مهمة من تاريخنا الوطني، إلى بدايات القرن الماضي حيث كانت عناصر حلقة جديدة من حلقات النهضة الوطنية والديمقراطية تتشكل في مصر، وثانيها التجليات الأدبية والفنية لتلك الحادثة التي وجهتني إلى عالم الشعر في وقت انغمست فيه في الإعداد لملتقى الشعر العربي الذي ينتظم عقده في نوفمبر القادم تحت عنوان "الشعر في حياتنا"، وثالثها قضايا حرية الصحافة المتأججة اليوم مع أحكام تصدر ضد كتاب وصحفيين في قضايا نشر، وإحالة آخرين إلى المحاكم، وتعديلات في القوانين لا تفي بمطالب نقابة الصحفيين في صون حرية الصحافة، بل ومحاولات لاستصدار قوانين جديدة تفرض مزيد من القيود على حرية الصحافة، ذكرتني هذه الثلاثية بشاعر القطرين خليل مطران ودفاعه نثرًا وشعرًا عن حرية الصحافة في مصر.
 
 

  ففي أعقاب المد الوطني الذي نتج عن حادث دنشواي شهدت مصر حملة حكومية شرسة ضد الحركة الوطنية المتصاعدة، فبقدر ما كان لحادثة دنشواي من آثار إيجابية تمثلت في دفعة كبيرة للحركة الوطنية المصرية تجلت في ظهور الحزب الوطني ككيان سياسي منظم، وفي إجبار اللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر منذ الاحتلال سنة 1882 على الاستقالة من منصبه، كان للحادث كذلك آثاره السلبية، فقد دفع تصاعد الحركة الوطنية بالخديوي عباس حلمي الثاني الحاكم الشرعي لمصر بعيدًا عنها وعن مواقفها، خاصة مع اتجاه الحركة الوطنية نحو التنظيم، والتفاف قطاعات أوسع من الشعب حولها، وربطها بين المطالبة بالجلاء والمطالبة بالدستور، واتجه الخديوي إلى التحالف مع سلطات الاحتلال في مصر ممثلة في السير إلدون جورست، وكانت الساحة الأساسية  للمواجهة ساحة حرية الصحافة.

جاءت المواجهة الأولى في صيف 1908 فيما عرف بقضية الكاملين، والكاملين بلدة في السودان شهدت انتفاضة شعبية في عام 1908، وبعد أن قمعت قوات الجيش الانتفاضة، تمت محاكمة زعماء الحركة أمام المحكمة المدنية الكبرى التي أصدرت أحكامًا بالإعدام والسجن ومصادرة الأملاك على المتهمين ، وتكتمت الحكومة أخبار القضية كي لا تعيد إلى الأذهان ذكرى دنشواي، إلا أن جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني نشرت الخبر مع كثير من المبالغة، فقد رفعت عدد المحكوم عليهم بالإعدام من 12 إلى 70 شخصًا، وعندها اضطرت وزارة الحربية إلى إعلان الحقيقة ونشرت اللواء بيان الحربية مع تعليق يحمل التشكيك فيه، عندها أقامت الحكومة الدعوى ضد الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير اللواء بتهمة إهانة وزارة الحربية ونشر أخبار مثيرة للخواطر، وقد انتهت القضية إلى براءة الشيخ عبد العزيز جاويش من التهمتين.

 وفي نوفمبر 1908 استقالت حكومة مصطفى باشا فهمي التي استمرت في الحكم 13 عامًا، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة بطرس باشا غالي، التي ضمت وجوها جديدة، وقد استقبل رئيس الحزب الوطني محمد فريد الحكومة الجديدة مستبشرًا بها خيرًا بمقال قال فيه: "كل أعضاء هذه الوزارة من رجال العصر المتعلمين، فمنهم أربعة من حائزي الشهادات العالية في العلوم الحقوقية، وواحد من أكبر مهندسي العالم بشهادة الخاص والعام، أما رئيسهم فإنه لم يكن من حائزي الشهادات، إلا أنه ممن يشهد لهم بالنباهة والذكاء والحنكة والدهاء، فالوزارة الحالية في مجموعها من أحسن ما يتمنى لمصر والمصريين، ويرجى منها للبلاد خير عظيم، وكلهم ممن درسوا الحكومات الأوروبية، وعلموا فوائد النظام الدستوري، وأيقنوا أن لا تقدم للبلاد إلا بمنحها النظام النيابي، الذي أجمعت الأمة على طلبه من أميرها..."

 ورغم أن الحكومة قد اتخذت بعض الخطوات الإصلاحية مثل علنية جلسات مجلس شورى القوانين، ومنحه حق سؤال الوزراء، وتعديل قانون مجالس المديريات بزيادة أعضائها ومنحها مزيد من السلطات، لكن أمل محمد فريد سرعان ما خاب ففي 25 مارس 1909 أعاد مجلس الوزراء العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881، أثناء الثورة العرابية، وكان العمل بهذا القانون قد توقف منذ عام 1894، وكان هذا القانون يمنح لوزارة الداخلية حق إنذار الصحف وتعطيلها مؤقتًا أو نهائيًا دون حكم قضائي، وعقب ذلك بدأت ملاحقة الصحف وإنذارها، وتقديم الصحفيين والكتاب للمحاكم على مقالاتهم، وحبس بعضهم بسبب هذه المقالات، ومنهم عبد العزيز جاويش ومحمد فريد نفسه، كما وضعت الحكومة قانونًا جديدًا يقضي بإحالة تهم الصحافة إلى محكمة الجنايات بدلًا من الجنح، كما عدلت نصوص قانون العقوبات لمعاقبة من ينشر المرافعات في القضايا الجنائية، واعتبرت مديري الصحف مسئولين بالاشتراك الجنائي عما ينشر في صحفهم، وأكملت الحكومة تقييدها للحريات بوضع لائحة للمسارح تجرم تمثيل الروايات التي تدعو للحرية والاستقلال.

 وقد تصدى دعاة الحرية لتلك التشريعات والقوانين بالقول والفعل، وكان من المدافعين عن الحرية بقلمه شاعر القطرين خليل مطران الذي كتب في المجلة المصرية:

 "في مصر وفي الإستانة العلية خطتان رسمتا للتضييق على الصحافة يراد بهما أن تصدر الجريدة كما يخرج الكلب العقور من بيت صاحبه وفي فكه كمامة، على أنه ليس في العزائم أدل من هذه العزيمة على رسوخ الداء الشرقي القديم في قلوب أولياء الأمور منا، داء الخوف من النقد. وبديهي أن هذا الخوف يكون عادة نتيجة حالتين: الكبرياء وهي أخصهما، وسؤ السيرة أو الطمع في الراتب وهو أعمهما".

 وكتب مطران كذلك أبياتًا من أروع ما كُتب في الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، قال فيها:

شردوا أخيارها برًا وبحرًا         واقتلوا أحرارها حرًا فحرًا
إنما الصالح يبقى صالحـــــًـا  آخــــر الدهر ويبقى الشر شرًا
كسروا الأقلام هل تكسيرها     يمنع الأيدي أن تنقش صخرًا
قطعوا الأيدي هل تقطيعها       يمنع الأعين أن تنظر شـذرًا
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها      يمنع الأنفاس أن تصعد زفرًا
اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم      وبه منجــــــــاتنا منكم فشكرًا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...