السبت، 13 ديسمبر 2014


مشاهد من ثورات المصريين  زمن الحملة الفرنسية

عماد أبو غازي

بونابرت في مصر
  عندما جاء بونابرت ليحتل مصر سنة 1798 في حملته الشهيرة المعروفة باسم الحملة الفرنسية، كان يتصور أن رحلته سهلة يسيرة داخل البلاد، وكان يعتقد أن العقبة الرئيسية التي تقف أمامه هي الأساطيل البريطانية التي حاول أن يراوغها ويدخل مصر دون أن ترصده، لكنه فشل في النهاية ودُمر أسطوله في خليج أبي قير.
 
 

 أما الحامية العثمانية وفرسان المماليك الجراكسة فقد كان الفرنسيون يعلمون أنهم أضعف من أن يصمدوا وحدهم في مواجهة قوات الحملة الفرنسية المنظمة وفق أحدث القواعد العسكرية في تلك الفترة.

 كان بونابرت يتصور أن المصريين سيرحبون بحملته بسبب ضيقهم الشديد بالحكم العثماني وبعسف أمراء المماليك الجراكسة وظلمهم الذي عانوا منه لقرون عدة، وفي أسواء الأحوال كان بونابرت يعتقد أن المصريين إن لم يرحبوا به فعلى الأقل لن يقاوموه باعتباره جاء ليخلصهم من حكم الجراكسة؛ وكان هذا واضحًا في المنشور الذي صاغه بونابرت ووجهه للمصريين، وقد حرره في يوم 27 يونيو سنة 1798 من على ظهر البارجة الفرنسية أوريان قبل أن يرسو الأسطول الفرنسي في الإسكندرية بأيام قليلة، وقد صاغ المنشور في قالبه العربي جماعة من المستشرقين والتراجمة الذين أحضرهم بونابرت معه، وقد طبع المنشور بالمطبعة العربية التي أحضرتها الحملة معها، وبدأت طباعته على ظهر البارجة أوريان ثم استكملت الطباعة في الإسكندرية، وقد طبع المنشور بتاريخ 2 يوليو سنة 1798 ووزعت منه آلاف النسخ على المصريين في محاولة لاكتسابهم إلى جانب الحملة، وركز منشور بونابرت على الفساد والخراب الذي حاق بمصر بسبب مظالم المماليك الجراكسة، وقد حاول من صاغوا المنشور أن يستخدموا ألفاظا وعبارات دينية إسلامية في محاولة من بونابرت للتقرب إلى المصريين بهذا الأسلوب حيث تصور أنه بذلك سوف يكون مقبولًا لديهم، وقد جاء في هذا المنشور الذي صيغ بلغة عربية ركيكة:
 "بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد ولا شريك له في ملكه
 من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرت يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد السناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدى، فحضر الآن ساعة عقوبتهم... من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم...
 يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمغترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم."
 
 ويستمر المنشور بعد ذلك في محاولة استمالة المصريين من خلال تقديم الوعود لهم بالمشاركة في حكم البلاد وإدارة أمورها بعد إزاحة المماليك الجراكسة فيستطرد قائلًا على لسان قائد الجيوش الفرنسية بونابرت:
  "إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء حسن فيها، من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، فإن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رؤوف عادل ورحيم حليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر من الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها. وسابقًا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك... طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلى مراتبهم، طوبى أيضًا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقًا إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر."
 ورغم تحذيرات بونابرت للمصريين من مقاومة حملته، ورغم معاناة المصريين الحقيقية من الحكم العثماني وعسف المماليك، إلا أنهم لم ينخدعوا بدعاوى الفرنسيين. لقد قاوم المصريون منذ اللحظة الأولى الحملة الفرنسية بشتى أشكال المقاومة الإيجابية والسلبية، وكاد بونابرت يفقد حياته في الإسكندرية عندما أطلق رجل وأمرأة النار عليه من شباك منزلهما في سياق أعمال المقاومة بالمدينة، والتي انتهت بإعدام حاكمها محمد كُرّيم، وظهرت المقاومة في المدن الكبرى مثلما ظهرت في القرى الصغيرة في الريف، لكن القوة العسكرية للحملة الفرنسية كانت أكبر من طاقات المقاومة لشعب حرم من حقه في الدفاع عن وطنه وفي حمل السلاح لقرون طويلة منذ نهاية عصر البطالمة.
 نجحت الحملة في السيطرة على الدلتا كلها وعلى القاهرة عاصمة البلاد، واستمرت الحروب بين الفرنسيين والمماليك بقيادة مراد بك ومماليكه في صعيد مصر.


مراد بك
****
  وهذه بعض مشاهد من مقاومة المصريين للحملة ومن ثورتهم على حكم الفرنسيين:

( 1 )

فلاحو الدلتا يقاومون الاحتلال (المنوفية والغربية)

 منذ اللحظة التي وطئت فيها جيوش بونابرت أرض مصر اشتعلت نار المقاومة ضد الغزاة ولم تخمد طوال السنوات الثلاث التي قضتها الحملة الفرنسية في مصر.
 كانت قوات الحامية العثمانية قد انهزمت وغادرت البلاد، كذلك فشل أمراء المماليك بقيادة مراد بك وإبراهيم بك في التصدي للحملة؛ فانتقل عبء المقاومة إلى الشعب المصري الذي حُرّم عليه حمل السلاح لقرون. لقد انسحب إبراهيم بك بقواته إلى الشرقية ومنها إلى الشام، وتراجع مراد بك إلى الصعيد ليحتمي به ويناوش الفرنسيين منه، وأصبحت القاهرة والدلتا خالية من أية قوات نظامية يمكنها التصدي لحملة بونابرت، وقد تصور القائد الفرنسي المظفر أن انتصاره على العثمانيين والمماليك سيكفل له استقرار الأمور في مصر، أو على الأقل في القسم الأكبر منها.

 وكان المنشور الذي أصدره بونابرت باللغة العربية ووجهه إلى أهالي مصر يدعوهم فيه للتعاون مع الفرنسيين ويحذرهم من مغبة معارضتهم يسبق قواته في كل مكان تتوجه إليه، وقد جاء في هذا المنشور الذي سجل نصه المؤرخ المعاصر للأحداث عبد الرحمن الجبرتي: "جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية، فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر. وكل قرية تقوم على الفرنساوية تحرق بالنار، وكل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضًا تنصب صنجق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه".
 بعد هذا التحذير وبعد هزيمة القوات النظامية في مصر بدأ بونابرت يخطط لنشر قواته في أنحاء الدلتا المختلفة، فعين لكل منطقة قائدًا، وأوفد هؤلاء القادة على رأس قوات عسكرية من الخيالة والمشاة للسيطرة على أنحاء البلاد المختلفة. كانت المشكلة الأساسية التي تواجه قوات بونابرت هي نقص الجياد اللازمة لفرق الخيالة، فاتجه إلى جمعها من قرى الدلتا، وكان أسوأ ما توقعته قيادة الحملة امتناع الفلاحين المصريين عن إمداد القوات بالخيول التي تحتاج إليها، لكنهم لم يتوقعوا أبدًا أن تلقى هذه القوات مقاومة مسلحة من المصريين؛ وقد وجه بونابرت رسالة إلى قواده المتوجهين إلى الدلتا تضمنت تعليماته بخصوص أسلوب التعامل مع المصريين، جاء فيها:

 "اصدروا أوامركم بأن تقدم لكم كل قرية جوادين من خير الجياد، وأيما قرية لم تفعل ومضت خمسة أيام من إعلانها بالأمر ضربت عليها غرامة ألف ريال، وإن هذه هي الطريقة الفعالة للحصول على خمسمائة من الجياد تسد من حاجتكم، وعليكم عند طلب الخيل أن تطلبوا كذلك عدتها من الركاب واللجام لتتوافر لكم في الحال فرقة من الخيالة، فإنها الوسيلة الوحيدة لإخضاع هذه البلاد."
 لكن واقع الحال كان غير ما توقع بونابرت، ففي مساء الخامس من أغسطس سنة 1798 تحرك الجنرال فوجيير متوجها إلى الغربية التي عينه بونابرت قومندانًا عليها، وتوجهت القوات الفرنسية إلى منوف أولًا، واستقرت فيها حتى الثالث عشر من أغسطس، حيث خرجت منها إلى الغربية، وإلى الشمال من منوف وبعد مسير ساعة واحدة اصطدمت القوات الفرنسية بأول حركة للمقاومة الشعبية في الدلتا عند قريتي غمرين وتتا؛ فقد ثار أهالي القريتين وحملوا السلاح وأغلقوا الطريق في وجه القوات الفرنسية، وبدأوا في الاشتباك معها، ولما عجز الجنرال فوجيير عن مواجهة الأهالي بقواته أرسل يطلب العون والمدد من زميله الجنرال زايونشك قومندان المنوفية الذي كان قد استقر بقواته في منوف. ووصلت الإمدادات من منوف، وحاولت القوات الفرنسية تطويق القريتين وإخضاعهما، لكن الأهالي قاوموا مقاومة شديدة، خاصة أهالي قرية غمرين، وبعد ساعات من القتال غير المتكافئ بين جيش عصري حديث مسلح بالمدافع والبنادق، وفلاحين يحملون العصي والفؤس وقليلًا من الأسلحة النارية، نجحت القوات الغازية في اقتحام القريتين، لكن الأهالي ظلوا يقاومون الغزاة في طرقات قرية غمرين ويدافعون عن بلدتهم حتى غطت جثث القتلى شوارع القرية. ويصف الكابتن فيروس أحد ضباط القوة الفرنسية معركة غمرين في رسالة بعث بها إلى الجنرال كافاريللي قائلًا: "جاءنا المدد وتعاونت الكتيبتان على مهاجمة قرية غمرين؛ فأخذنها عنوة بعد قتال ساعتين، وقتلنا من الأعداء من أربعمائة إلى خمسمائة بينهم عدد من النساء كن يهاجمن جنودنا بكل بسالة وإقدام".
 لقد انتهت المعركة غير المتكافئة باستشهاد مئات من الفلاحين والفلاحات من أبناء قريتي غمرين وتتا، وفي المقابل قُتل وجُرح عدد قليل من قوات جيش الاحتلال، لكن دلالة المعركة كانت أهم من نتائجها بكثير، فقد كانت المرة الأولى منذ سنوات طوال التي يخرج فيها الفلاح المصري حاملًا فأسه ليشق به رأس المعتيى المحتل بدلًا من أن يشق به أرضه ليزرعها. كما كانت المرة الأولى منذ مئات السنين التي تعود فيها الفلاحة المصرية إلى ساحة المقاومة المسلحة جنبًا إلى جنب وكتفًا بكتف مع الفلاح المصري. كانت المعركة درسًا للغزاة الفرنسيين عرفوا منها أن حملتهم على مصر ليست نزهة سهلة يتحقق النصر فيها بمجرد هزيمة العثمانيين والمماليك، بل إن هناك شعبًا يقاوم ويحارب حتى ولو كان سلاحه العصي والفؤوس.
 وهذه شهادة ضابط فرنسي على المقاومة في الدلتا:  "كان الجنود يعملون على إخماد الثورة بإطلاق الرصاص على الفلاحين وفرض الغرامات على البلاد، لكن الثورة كانت كحية ذات مئة رأس، كلما أخمدها السيف والنار من ناحية ظهرت من ناحية أخرى أقوى وأشد مما كانت، فكأنها كانت تعظم ويتسع مداها كلما ارتحلت من بلد إلى آخر."

 لقد كان انتقام الفرنسيين من أهالي قريتي غمرين وتتا شديدًا، فلم يكتف الغزاة بقتل خمسمائة من رجال ونساء القريتين، بل قاموا بإحراقهما، لقد كان هدف الفرنسيين من إحراق القريتين عقاب أهلهما على مقاومتهم للحملة من ناحية، وترويع المصريين من ناحية أخرى حتى لا يحذوا حذو أهل القريتين في المقاومة.

 لكن هل نجح الفرنسيون في إخماد جذوة الثورة؟
 لم ينجح أسلوب القمع والإرهاب في القضاء على المقاومة المصرية في الدلتا، لقد كانت الحملة الفرنسية هي التي استنفرت شعورًا كامنًا لدى الفلاح المصري ظل مكبوتًا لسنوات وسنوات فجره مجيء الحملة، وظلت المقاومة مشتعلة طوال السنوات الثلاث التي عاشتها الحملة في مصر، ولم تؤد الإجراءات الانتقامية في غمرين وتتا إلى إخماد المقاومة بل على العكس زادتها اشتعالًا، فبعد أسابيع قليلة ثارت مدينة طنطا أثناء الاحتفال بمولد السيد البدوي، وكاد الثوار يفتكون بالقوات الفرنسية، لكن قوة النيران الفرنسية كانت عادة ما تحسم المعركة لصالحهم.
 وفي هذه المرة حاول بونابرت أن يجرب أسلوبًا آخر في التعامل مع الثوار، حيث خشي من تطبيق أسلوب العقاب الجماعي والانتقام بإحراق المدن مع مدينة مثل طنطا تحوي مزارًا روحيًا مهمًا لدى المصريين، أعني مقام السيد أحمد البدوي القطب الصوفي الكبير.
 ويقول بونابرت في رسالة موجهة إلى قائد قواته في الغربية عقب إخماد ثورة طنطا في أكتوبر سنة 1798:
 "لقد علمت بمزيد الأسف ما حدث في طنطا، على إني راغب في احترام هذه المدينة، وأعتبر تخريب هذا المكان المقدس في نظر الشرق كارثة كبرى، على أني أكتب إلى أهالي طنطا، وسأطلب من الديوان العام أن يكتب إليهم، وإني راغب في أن تنتهي الحادثة بالمفاوضة على صلح ووئام".
 لكن مثلما فشل حرق القرى والعقاب الجماعي، فشل أيضا أسلوب المهادنة في إخماد ثورات المصريين ضد الحملة الفرنسية.

*****

 


 

( 2 )

فلاحو الدلتا يقاومون الاحتلال (الدقهلية ودمياط)

 وتتواصل رحلة المقاومة الشعبية في الدلتا مع توغل قوات الحملة الفرنسية فيها، تلك المقاومة التي لعب الفلاح المصري الدور الأساسي والفاعل فيها. ونتوقف عن مشهد من أهم مشاهد المقاومة، وقائع ما حدث للفرنسيين في محافظتي الدقهلية ودمياط، وللمحافظتين تاريخ عريق في مقاومة الفرنسيين منذ حملة لويس التاسع في القرن الثالث عشر والتي هزمت عند مدينة المنصورة.
 في أوائل أغسطس سنة 1798 عين بونابرت أحد قادة حملته الجنرال فايل قومندانًا لمديريتي المنصورة ودمياط، فتوجه القائد الفرنسي بقواته إلى الإقليم الذين عين حاكمًا له. وفي الأسبوع الأول من أغسطس وصل فيال إلى المنصورة، وتصور أن المدينة خضعت له، فترك بها حامية مكونة من مائة وخمسين رجلًا، واتجه إلى دمياط؛ فاحتل المدينة واحتل عزبة البرج، وجعل من مدينة دمياط مقرًا للقسم الأكبر من فرقته، لكن تصورات فيال كان بعيدة تمامًا عن الواقع؛ ففي يوم 10 أغسطس، وكان اليوم يومًا لسوق مدينة المنصورة، وفد على المدينة مئات من سكان البلدان المجاورة تحت ستار السوق الأسبوعي، وما هي إلا ساعات قليلة حتى أعلنت المدينة بكاملها الثورة على الحامية الفرنسية، وخرج الرجال والنساء لحصار معسكر القوات الفرنسية وأشعلوا فيه النيران، وأمام قوة الهجوم قرر جنود الحامية الفرنسية الفرار إلى دمياط واللحاق بقائدهم هناك عبر النيل، لكن الأهالي حاصروا القوات الفرنسية وقضوا عليها عن أخرها باستثناء جنديين وقعا في الأسر وثالث فر إلى دمياط.
 وشجعت أحداث العاشر من أغسطس في المنصورة أهالي الدقهلية على الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، لكن بونابرت كان قد عين الجنرال دوجا أحد قادته الكبار قومندانًا للمنصورة ووجهه بقوة كبيرة إلى هناك، وكان دوجا حكيما في تصرفه، فلم يلجأ إلى العقاب الجماعي لأهالي المنصورة حتى لا يزيد نار الثورة اشتعالًا، بعد أن ثبت لقادة الحملة أن إعدام الأهالي وإحراق المدن والقرى لا يؤدي إلا إلى مزيد من المقاومة. لقد حاول دوجا أن يتتبع قادة المقاومة الشعبية وزعماءها داخل المنصورة وخارجها؛ فقبض على اثنين من أهالي المنصورة وأعدمهما، وأمر بتتبع اثنين آخرين من قادة الثوار للقبض عليهما. وقد أقر بونابرت دوجا في خطته في التعامل مع الثورة الشعبية في الدقهلية، وهي خطة تعتمد على الموائمة بين أسلوبي اللين والبطش، الوعد بالعفو والوعيد بالانتقام. ومع ذلك لقي الفرنسيون صعابًا جمة في إخضاع الدقهلية لسيطرتهم، وكان جباة الضرائب كلما ذهبوا إلى قرية لجمع الأموال أو مصادرة أملاك المماليك واجههم الأهالي بالرصاص والعصي. وعلى مدى شهرين توالت انتفاضات الفلاحين والعرب في قرى ومدن الدقهلية، وتمتلأ التقارير العسكرية للحملة بأخبار المقاومة في ميت غمر وسنباط والمنزلة وغيرها من البلاد، وأصبح انتظام الملاحة النهرية في فرع دمياط مهددًا بفضل أعمال المقاومة الشعبية المستمرة التي أثارت قلق الفرنسيين وخوفهم.

 وخلال أحداث المقاومة الشعبية في الدقهلية ودمياط برزت أسماء زعماء شعبيين، من هذه الأسماء علي العديسي والأمير مصطفى اللذان أثبتت تحقيقيات الجنرال دوجا أنهما كانا وراء ثورة المنصورة في العاشر من أغسطس سنة 1798، وقد استمر الرجلان في قيادة المقاومة بعد فرارهما من المنصورة في قرى منطقة البحر الصغير والمنزلة، وكان القبض عليهما أحياء أو التخلص منهما هدفًا رئيسيًا للجنرال دوجا وقواته. وفي منتصف سبتمبر سنة 1798 وجه دوجا حملة عسكرية إلى منطقة البحر الصغير، وحدد لمعاونيه أسلوب التعامل مع الثوار في هذه المنطقة تكشف عن التحول السريع في أسلوبه من الملاينة إلى الشدة، وقد جاء في هذه التعليمات:
 "منية محلة دمنة والقباب الكبرى، هاتان القريتان واقعتان تحت تأثير رجلين يجب أسرهما، وهما علي العديسي من المنية والأمير مصطفى من القباب، وقد وصلتني رسالة من الجنرال فيال قومندان مديرية دمياط ينسب إليهما الاتصال بالشيخ حسن طوبار شيخ بلد المنزلة وانتظارهما النجدة منه، فيجب أن لا يترك له الوقت لإمدادهما، ومن ثم يجب مهاجمة المنية والقباب أسرع ما تمكن السرعة، ثم احتلال موقع عسكري بين القباب ودموه السباخ يحول بين الرجلين وكل مدد يأتيهما، وإذا قاوم الأهالي وجب سحقهم وسحق قراهم، وإذا سلموا بدون إطلاق النار فيجب عليهم أن يسلموا في الحال عشرين رهينة منهم، وأن يسلموا كذلك جميع أسلحتهم وعشرين جوادًا وثلاثين من الماشية، ويُغرّموا ثلاثة أمثال الضريبة المفروضة عليهم، وإذا رأيتم بعض القرى تتخذ السلاح لمؤازرة المنية والقباب فاضربوا في أهلها وخذوهم أخذ الأعداء للأعداء".

 لقد كان قادة الحملة الفرنسية في شرق الدلتا يشعرون بخطر الزعامات الشعبية، ويدركون صعوبة الأرض التي يحاربون عليها، لذلك كان دوجا يسعى إلى توجيه ضربات سريعة إلى الثوار ويحاول القبض على قادتهم. تحرك الجنرال دماس والجنرال دستنج على رأس القوات الفرنسية من المنصورة يوم 16 سبتمبر 1798 بالسفن في البحر الصغير في اتجاه منية محلة دمنة والقباب الكبرى، واتخذ الأهالي أسلوبًا دفاعيًا جديدًا حتى يصلهم المدد من المنزلة، فأخلوا القريتين تمامًا من السكان، ففشلت بذلك محاولات الفرنسيين في القبض على الأمير مصطفى وعلي العديسي.

 أما المعركة الكبرى فوقعت عند الجمالية وهي من البلاد التابعة لمركز دكرنس، وتقع على البحر الصغير، كانت السفن الفرنسية قد توقفت بسبب الأوحال هناك بسبب قلة المياة، فهاجم الأهالي القوات الفرنسية، واشترك في الهجوم أهالي الجمالية، وأطلقوا النار على السفن، كما أمطروها بالحجارة من أعلى أسوار بلدتهم، وبعد معركة استمرت لأكثر من أربع ساعات اضطر الجنرال داماس إلى الانسحاب، وقبل أن تنسحب الحملة عائدة إلى المنصورة أشعلت النيران في الجمالية، كما أحرقت في طريق عودتها قرية ميت سلسيل؛ وقد وصف الضابط جازلاس المعركة في تقريره عنها قائلًا: "لما وصلنا بحرًا تجاه الجمالية، وهي قرية كبيرة قوية على الشاطئ الغربي من بحر أشمون، فوجئت السفن التي كانت تقل الجنود بعاصفة من الأحجار والرصاص انهالت من أسوار البلدة وبيوتها، وفي الوقت نفسه رأينا جموعًا كثيرة من العرب والمماليك والفلاحين مسلحين بالبنادق والسيوف والعصي تهرع من الجهات المجاورة مسرعة إلى مهاجمتنا، وكان بعضهم راكبين الخيل وأكثرهم مشاة، فدهشنا من هذه الهجمة العنيفة، لكننا لم نؤخذ على غرة، ونزلت الجنود حاملة سلاحها إلى البر الشرقي المقابل للقرية وتأهبوا للقتال منتظرين قدوم الأعداء، فرأينا أكثرهم شجاعة يغامرون بأنفسهم ويهجمون إلى أن يصبحوا في وسط جنودنا، وقد رأيت بنفسي جماعة من الفلاحين ليس بيدهم سلاح سوى العصي يهاجموننا بحماسة فيسقطون بين أسنة رماحنا."

 ويمضي جازلاس قائلًا: "وصدر لي الأمر بإطلاق النار على الأعداء المهاجمين، فأطلقنا النار عليهم، وفرقنا هذه الجموع بعد أن تركت الميدان مغطى بجثث القتلى، ولقد تمكن بعضهم من أن يعبروا الترعة ثانية ويمتنعوا في الجمالية، وهي قرية محاطة بالأسوار تحميها ترعة أشمون من جهة والمستنقعات التي تغمرها المياه من جهة أخرى، فأمرني الجنرال داماس أن أخذ القوة الكافية واستولى عنوة على القرية، فعبرنا الترعة بجسر أقمناه على عجل، ووزعت جنودي؛ فعهدت إلى جزء منهم رد الهجمات الآتية من خارج القرية، وهجمت بقوتي على القرية، واقتحمنا الباب الكبير رغم مقاومة أهلها الذين دافعوا عنها دفاعًا قويًا، فاستولينا على جزء من القرية، لكن الأهالي ظلوا يدافعون عن الجزء الآخر ممتنعين في البيوت والشوارع، وهجم الثوار على القوة التي دخلت القرية، لكن صدتهم البنادق والحراب، وحُصر جزء منهم في القرية وتمكن جماعة آخرون أن يتسللوا منها، فتلقتهم القوة المرابطة حولها ونجا منهم من ألقوا بأنفسهم في المستنقعات وذهبوا سباحة يحملون أسلحتهم."
 ورغم سقوط ما يقرب من خمسمائة شهيد من أهالي الجمالية والقرى المحيطة بها، ورغم إحراق القرية إلا أن المعركة في مجملها تعتبر معركة خاسرة بالنسبة للفرنسيين من الناحية العسكرية.
 لقد كانت أهداف الحملة العسكرية على البحر الصغير هي قمع حركات المقاومة الشعبية والقبض على زعماء الثورة، فهل تحققت هذه الأهداف؟

 لقد كانت الحملة العسكرية الفرنسية على البحر الصغير فاشلة بكل المعايير، فمن ناحية استمرت المقاومة في إقليمي الدقهلية ودمياط وازدادت اشتعالًا، ومن ناحية أخرى فشل الفرنسيون في القبض على زعماء الثوار أو حتى أخذ رهائن من أبناء القرى التي يحتمي فيها الثوار، فقد اتبع المصريون أسلوب هجر القرى واستفادوا من فترة فيضان النيل لحماية أنفسهم خلف مياهه المرتفعة وفي وسط المستنقعات التي يشكلها في مناطق شمال وشرق الدلتا، ورغم سقوط مئات المصريين والمصريات في هذه المعارك، مقابل مقتل خمسة جنود وجرح خمسة وعشرين من قوات الحملة الفرنسية، إلا أن هذا العدد من قتلى الجيش الفرنسي رغم قلته كان مؤثرًا أشد التأثير في معنويات حملة معزولة عن بلدها تواجه شعبًا ثائرًا، وأهم ما في الأمر أن أكبر زعماء المقاومة في الدقهلية وهو الشيخ حسن طوبار شيخ الصيادين ظل طليقًا يقاوم الفرنسيين لعدة أشهر أخرى، وعندما ضيقوا عليه الخناق في جزر بحيرة المنزلة هرب مع مجموعة من رجالة إلى غزة، وهناك بدء في إعداد العدة للعودة إلى مصر مرة أخرى، لكنه لم ينجح في ذلك. وبعد فشل حملة بونابرت على سوريا سُمح لطوبار بالعودة إلى المنزلة على ألا يغادرها، وتوفي بعد فترة قليلة في 28 يوليو 1800، ومن يومها وأهالي المنزلة يحتفلون بذكراه كل سنة ويقيمون به مولدًا من أشهر موالد المنطقة.

*****
( 3 )
ثورة القاهرة الأولى

 لقد تصور بونابرت أنه أحكم قبضته على البلاد وأن أمرها بات في يده، وإن المصريين قد خضعوا له وقبلوا بحكمه خاصة في القاهرة حيث وطد سلطته ووضع يده على كل شيء، لكن شعب مصر لم يكن راضيًا عن الاحتلال الفرنسي أو مستسلما له، ولم تغير مشاركة بونابرت في الاحتفالات الدينية والشعبية للمصريين في القاهرة من الأمر شيئا.
 لقد ظلت الثورة كامنة في نفوس الشعب المصري في القاهرة، لكن الصمت لم يطل فسرعان ما انفجر بركان الغضب أسرع مما كان يتوقع بونابرت ورجاله؛ ففي 21 أكتوبر سنة 1798 أي بعد أقل من أربعة أشهر على بداية الحملة هب أهالي القاهرة في ثورة قوية ضد الاحتلال الفرنسي، عُرفت فيما بعد بثورة القاهرة الأولى. وقد كانت الأسباب المباشرة لهذه الثورة هي الضرائب الفادحة التي أخذت الحملة تفرضها على المصريين، ثم قرار قيادة الحملة بمصادرة بعض الأملاك وهدم المباني وإزالة أبواب الحارات، بالإضافة إلى أسلوب القمع الذي اتبعته الحملة مع المصريين في الأقاليم المختلفة ووصلت أخباره إلى القاهرة مع طلاب الأزهر.
 وكان للثورة لجنة تديرها وتنشر دعوتها وتنظم صفوف المصريين فيها، وكان مقرها في الأزهر، وانتخب لقيادتها الشيخ السادات، وأخذ دعاة الثورة يحرضون الناس على التمرد على الفرنسيين وشرعوا في الوقت نفسه يثيرون الشكوك حول موقف كبار المشايخ المتعاونين مع الحملة ويتهمونهم بموالاة  الفرنسيين حتى لا يستمع الجمهور لنصائحهم بالتهدئة.

الشيخ السادات
 وقد انضم المصريون من كل الطبقات والفئات إلى صفوف الثورة، فشارك فيها شيوخ الأزهر وطلابه، كما شارك فيها التجار والحرفيون بالإضافة إلى بعض الفلاحين من ضواحي القاهرة؛ ولنرى ما رواه شاهد عيان من ضباط الحملة الفرنسية في وصف الساعات الأولى من الثورة؛ قال: "21 أكتوبر سنة 1798 الساعة السادسة صباحًا احتشدت الجموع في عدة أحياء من القاهرة، وعلت أصوات السخط والاستياء، وأخذ الناقمون يعددوا أسباب سخطهم، وصاح المؤذنون على مآذنهم ينادون نداءات مثيرة للخواطر، وانثال الناس مسلحين بالبنادق والعصي يقصدون الاجتماع في صعيد واحد، ثم أقفلت الدكاكين. وفي نحو الساعة الثامنة صباحًا علم الجنود الفرنسية بهذا الشيء فتأهبوا للقتال، وكان القائد العام مطمئنًا لموقفه فركب جواده وصحبه من القواد كافاريللي ودومارتان وكنت معهم، وذهبنا نتفقد استحكامات مصر القديمة وجزيرة الروضة، وفي نحو الساعة العاشرة جاءه الخبر أن القتال قد بدء في المدينة، وإن أناسًا قتلوا من الفريقين، وإن الجنرال ديبوي قومندان القاهرة ضمن القتلى، صرعه الثائرون برمية سهم نفذت إلى صدره، وكان في كتيبة من الفرسان ذهب القتل بكثير منهم."

 وإذا كانت مدافع الفرنسيين قد نجحت في قمع الثورة بعد أيام قليلة من اشتعالها، فإن روح المقاومة ظلت كامنة في نفوس المصريين تتفجر بين الحين والآخر إلى أن رحلت الحملة عن مصر في عام 1801 بعد ثلاث سنوات قضتها في البلاد.

*****

( 4 )

ثورة القاهرة الثانية

 إذا كانت القاهرة قد ثارت بقيادة صغار المشايخ وطلاب الأزهر في أكتوبر سنة 1798، فإن المدينة عادت إلى الثورة ثانية في شهري مارس وإبريل سنة 1800 رغم القمع الذي واجه به الفرنسيون ثورة القاهرة الأولى. لقد انفجرت ثورة القاهرة الثانية من حي بولاق ولم تخرج من الأزهر كما حدث في الثورة الأولى، وتصدى لقيادتها التجار والحرفيون وأصحاب الوكالات، وكان على رأس قادة تلك الثورة الحاج مصطفى البشتيلي أحد أعيان حي بولاق، وينتسب أصلًا إلى قرية بشتيل من قرى الجيزة.
 لكن كيف بدأت الثورة؟

  بدأت ثورة القاهرة الثانية يوم 20 مارس 1800 أثناء المعارك التي دارت على مشارف المدينة في منطقة عين شمس بين قوات الحملة الفرنسية وفرق من الجيش العثماني، كان كليبر القائد الثاني للحملة بعد رحيل بونابرت يسعى إلى الصلح مع العثمانيين والجلاء عن مصر خاصة بعد أن وصلت جيوشهم إلى العريش في 30 ديسمبر سنة 1799، وانتهت جهود كليبر إلى توقيع معاهدة العريش في 24 يناير 1800، والتي حددت جدولًا زمنيا لجلاء الفرنسيين وتسليم البلاد مرة أخرى للدولة العثمانية، لكن إنجلترا بذلت كل جهودها لإفشال هذه المعاهدة، الأمر الذي حدث بالفعل بعد أقل من شهرين على توقيعها، وكان من نتائج المعاهدة دخول فرق من الجيش التركي إلى مشارف القاهرة، واشتبكت هذه الفرق مع الفرنسيين مما حفز أهالي القاهرة على الثورة.
 كان من زعماء هذه الثورة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف العائد من الشام، والسيد أحمد المحروقي كبير التجار، والشيخ الجوهري، لكن أبرز القادة الميدانيين للثورة كان الحاج مصطفى البشتيلي الذي سبق أن اعتقله الفرنسيون في أغسطس سنة 1799 واستمر حبيسًا لعدة أشهر. وكان سبب اعتقال الحاج مصطفى البشتيلي وشاية من بعض عملاء الفرنسيين بأن الرجل يخفى في وكالته ببولاق قدورًا عبء بها بارودًا.

السيد عمر مكرم
 ويذكر عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه أن الفرنسيين عندما فتشوا وكالة البشتيلي وجدوا بها بالفعل قدورًا مملؤة بالبارود، ويبدو أنه كان يُعد العدة للثورة بالفعل قبل شهور من وقوعها. ويسجل عبد الرحمن الجبرتي وقائع اشتعال الثورة قائلًا: "أما بولاق فإنها قامت على ساق واحدة، وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله وهيجوا العامة وهيئوا عصيهم وأسلحتهم، ورمّحوا وصفّحوا، وأول ما بدأوا به إنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيس الذي تركوه بساحل البحر، وعنده حرس منهم، فقتلوا من أدركوه منهم ونهبوا جميع ما به من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودائع التي للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس."
 ثار أهالي بولاق وحملوا ما وصلت إليه أيديهم من السيوف والبنادق والرماح والعصي، واتجهوا بجموعهم صوب قلعة قنطرة الليمون لاقتحامها، لكن حامية القلعة ردت هجومهم بنيران المدافع، فأعاد الثوار تنظيم صفوفهم واستأنفوا الهجوم، وقُتل في هذه المعركة ثلاثمائة من الثوار.

 وأدت هذه المعركة إلى امتداد نار الثورة في باقي أحياء المدينة، وزاد من اشتعالها فرار عناصر من الجيش العثماني والمملوكي من معركة عين شمس ودخولهم إلى المدينة بسلاحهم. وتضاعف عدد الثوار في ساعات قليلة وتوجهت حشودهم إلى معسكر القيادة العامة للجيش الفرنسي بالأزبكية وحاصروه، واحتلوا المنازل المجاورة له، وأخذوا يُطلقون منها نيرانهم على الفرنسيين.

 ولم يقف ضعف الإمكانيات العسكرية والسلاح الناري عائقًا أمام ثورة المصريين، فقد استخدموا كل ما تقع عليه أيديهم من معادن لتصنيع القنابل، كما شيدوا مصنعًا للبارود، ويروي المسيو مارتان أحد مهندسي الحملة قصة هذه الجهود: "لقد قام سكان القاهرة بما لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود، وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصناع، وفعلوا ما يصعب تصديقه ـ وليس من رأى كمن سمع ـ ذلك أنهم صنعوا المدافع".
  الأمر الذي يؤكده الجنرال كليبر في يومياته عندما قال: "استخرج الأعداء مدافع كانت مطمورة في الأرض وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصب المدافع وعمل القنابل، وأبدوا في كل ناحية من النشاط ما أوحت به الحماسة والعصبية، هذه هي بوجه عام حالة القاهرة عند قدومي إليها، وإني لم أكن أتصورها في هذه الدرجة من الخطورة."

 وخلال أيام قليلة امتدت الثورة إلى بعض مدن وقرى الوجه البحري، ورغم العنف الذي واجه به كليبر وجنرالاته الثورة إلا أنها استمرت ثلاثة وثلاثين يوما. وبدء تراجع الثورة مع الهجوم الفرنسي المضاد على مواقع الثوار والذي بدأ في الثامن عشر من إبريل 1800، عندما هاجم الفرنسيون القاهرة من الشمال والشرق والجنوب، ومثلما بدأت الثورة من بولاق كانت النهاية هناك، فبعد معارك ضارية نجح الفرنسيون في احتلال الحي الذي أشعل الثورة.

 ويصف عبد الرحمن الجبرتي ما حدث لبولاق وأهلها بعد هجوم 18 أبريل الكاسح قائلا: "هجموا على بولاق من ناحية البحر، ومن ناحية بوابة أبي العلا، وقاتل أهل بولاق جهدهم، ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيون عليهم وحاصروهم من كل جهة، وقتلوا منهم بالحرق والقتل وتلوا بالنهب والسلب، وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما تشيب له النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصا البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطراف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخواندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذي وجدوه منعكفًا في داره أو طبقته ولم يجدوا عنده سلاحًا نهبوا متاعه، وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيًا، وأصبح من بقى من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم".
 وبعد قتال استمر قرابة أسبوع ارتكب خلاله الفرنسيون فظائع فاقت ما ارتكبوه في قمع ثورة القاهرة الأولى انتهت وقائع الثورة، وغادر المدينة من دخلها من العثمانيين والمماليك ورحل معهم نقيب الأشراف السيد عمر مكرم وكبير التجار السيد أحمد المحروقي، أما الحاج مصطفى البشتيلي قائد الثورة في بولاق فقد قبض عليه الفرنسيون وأرغموا اتباعه وصبيانه على أن يقتلوه ضربًا بالعصي حتى مات.

*****

هناك تعليق واحد:

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...