الاثنين، 24 يناير 2022

من باب العشم

 

من باب العشم

رسالة خاصة من يحيى حقي إلى بدر الدين أبو غازي

عماد أبو غازي

 ربطت بدر الدين أبو غازي بيحيى حقي علاقة صداقة امتدت لأكثر من عشرين عامًا؛ كانت البداية علاقة قارئ متابع ومعجب بأديب مبدع، وأتذكر جيدًا أن كل أعمال يحيى حقي كانت تحتل مكانًا بارزًا في مكتبة المنزل، وكانت من الكتابات التي يرشحها لنا أبي لنقرأها إلى جانب مسرحيات توفيق الحكيم وروايات نجيب محفوظ.

 وجاء التعارف الفعلي بينهما في فترة تولي يحيى حقي لرئاسة مصلحة الفنون (1955-1958)، ثم توطدت العلاقة في الستينيات عندما رأس يحيى حقي تحرير مجلة المجلة في منتصف عام 1962، واستمر فيها حتى أواخر عام 1970، فقد أصبح بدر الدين أبو غازي خلال هذه الفترة أحد الكتاب الأساسيين في المجلة، نشر قرابة 90 مساهمة خلال 9 سنوات كلها باستثناء مساهمتين اثنتين في فترة رئاسة يحيى حقي للتحرير.

 وقد كان يحيى حقي الرئيس الرابع لتحرير المجلة، من بين خمسة رؤساء تحرير في إصدارها الأول الممتد من عام 1957 إلى عام 1971، وقضى أطول فترة في رئاسة التحرير وترك بصماته واضحة على المجلة التي ارتبطت باسمه لما أدخله عليها من تطوير، جعلها منبرًا مفتوحًا لكتاب ونقاد ومبدعين ينتمون لأجيال مختلفة، كان بدر الدين أبو غازي واحدًا منهم، وقد ترك يحيى حقي رئاسة تحرير المجلة قبل تعيين بدر الدين أبو غازي وزيرًا للثقافة بأسابيع قليلة.

 وعندما تولى أبو غازي وزارة الثقافة كان من أول من اتصل بهم يحيى حقي لمشاورته والاستنارة بآرائه، لما له من في إدارة العمل الثقافي وللعلاقة التي تربطهما ببعض، وكان الاتصال التليفوني متضمنًا وعدًا بلقاء طويل لحديث لا تتسع له المكالمات التليفونية، لكن اللقاء تأخر لبضع أسابيع بسبب مشاغل المنصب الجديد، الذي جاء في بداية عهد جديد، وبدأ "أولاد الحلال" يسعون للوقيعة بين الرجلين، ويهمسون في أذن يحيى حقي، ويقولون له: "إنه ليس مشغولًا، بل لا يريد أن يراك".

 عندها أرسل يحيى حقي خطابًا إلى بدر الدين أبو غازي الصديق قبل الوزير على عنوان منزله، وعندما تلقى أبو غازي الخطاب سارع بالاتصال بيحيى حقي وتم اللقاء بينهم، وأذكر جيدًا مدى تأثر بدر الدين أبو غازي بهذا الخطاب رغم مرور أكثر من خمسين عامًا على هذا الموضوع.

 مؤخرًا عثرت على هذا الخطاب الذي كنت أعلم بأمره، لكني لم أره من قبل أو أطلع على ما جاء فيه، وقد عثرت عليه وأنا أنقب في أوراق بدر الدين أبو غازي الخاصة، وأعمل على ترتيبها، ونشر ما يجدر نشره منها، وجدت فيه هذا الخطاب خطابًا من صديق إلى صديق، يبثه فيه ما دار بخاطره من هموم بصدق وصراحة تحتملها علاقة الود بينهما، ويعرض في الخطاب رؤيته ومقترحاته للنهوض بالعمل في وزارة الثقافة، ويوصيه بالاهتمام ببعض الأمور والعناية ببعض الموهوبين الذين حدد أسماءهم، ويطلب منه أن يكون "الجانب الإنساني" طابع عهده في الوزارة، وأعتقد أن مقترحات يحيى حقي التي ضمنها خطابًا طال لأكثر من أربع صفحات، تكشف عن رؤيته العميقة للعمل الثقافي وكيفية إداراته، وعن حسه المرهف وروحه الخلاقة المتطلعة إلى النهوض بالإنسان على المستويين الفردي والجماعي، حرصه على الاحتفاء بكبار المبدعين والمفكرين بقدر اهتمامه بالشباب وإتاحة الفرص أمامهم.



 وإلى نص الخطاب:

 "عزيزي الأستاذ الجليل بدر الدين أبو غازي

  وجدتني أخيرًا أُدافع الأوهام، أسخفها وأشقها، ولكن لي بعض العذر في ظني إذا قلت لك إنني كدت أصدق بعض هذه الأوهام، إن عذبتني معرفة السبب، بعض الناس من حولي ممن علموا باتصالك المبكر بي – ولا تدري كم سررت به وشكرتك عليه – بدأوا يقولون: إنه ليس مشغولًا، بل لا يريد أن يراك.

 وكنت أنتظر لقاءنا بلهفة لأن في قلبي أشياء كنت أريد أن أقولها لك، أنها تنفذ إلى العمل عن طريق الجانب الإنساني، فأني أتمنى أن يكون هذا هو طابع عهدك في الوزارة؛ من ذلك مثلًا: -

 1 – البحث عن الكفاءات المنزوية التي لا يسأل عنها أحد. يحضرني الآن إسمان، الأول جمال حمدان الذي تعرف فضله، إنه منزوٍ لا يسأل عنه أحد، كنت أريد أن أرجوك أن تسأل عنه وتحاول إخراجه من عزلته، الاسم الثاني هو صبري السربوني، وأنت تعرفه وهو من أصدقاء مختار، أزوره أحيانًا فيحدثني بمرارة عن العراقيل التي تقام في وجهه وتؤخر إصداره لمؤلف بالفرنسية عن حضارة العرب في أفريقيا، كنت أريدك أن تسأل عنه وتقول له: ما هي متاعبك؟ ولعلي أنجح في العصور على أسماء أخرى أو يدلك عليها غيري.

 2 – استعادة كفاءات هاجرت، يحضرني هنا اسم ولي الدين سامح، كنت أريد أن أرجوك لتبعث إليه تسأله هل يعود؟ هل هناك خير منه للإشراف على أفلامنا التسجيلية التي نادى بها أحمد بهجت أخيرًا في مقاله البديعة عن الفارابي.

 د. مصطفى بدوي، د. أنور لوقا، من أعمدة الأدب والنقد عندنا، هاجر الأول لإنجلترا والثاني لسويسرا، إذا لم نستطع استعادتهما للوطن فعلى الأقل يبلغهما من وزير الثقافة أسف لغيابهما، ورجاء بأن يشاركا بقلمهما في الحركة الأدبية عندنا، وتقديم مقترحات لك على ضوء خبرتهما في أوروبا.




 المسألة الثانية، كنت أريد أن أقول لك أيضًا إنني أتمنى أن يتميز عهدك بالاعتناء بالشباب.

 السعي للحصول على أكبر قدر من البعثات الدراسية للتخصصات التي تهتم بها وزارة الثقافة، النهضة المسرحية الأخيرة كانت بفضل هذه البعثات.

 تحريك تنفيذ الاتفاقات الثقافية مع الدول الصديقة، والانتفاع بكل الفرص وطلب المزيد.

 الوفود حبذا لو جعلت شرطها أن تضم نسبة محترمة من الشبان يسافرون مع الشيوخ.

 في الأقاليم شبان تتحسن أحوالهم إذا وجدوا في حضن الوزارة في عهدك عملًا لهم، يحضرني اسم عفيفي مطر، شاعر يشكو من أنه مرهق بالتدريس في كفر الشيخ.

 هل تذكر عبد الحكيم قاسم وكيف تفضلت بخدمته، إنه معدود من النجوم الصاعدة، في ذهني اسم كمال حمدي، إنه خميرة طيبة لو سافرت لأوروبا لعاد أستاذًا مرموقًا في الأدب الكلاسيكي.

 لأجل أن تعرف الأمثلة التي أقف عليها لضياع بعض الشبان أرسل لك مقصوصة من خطاب لواحد منهم يقول لي فيها إنه يَقتُل ويُقتل كل يوم، إننا لا نريد تدليع الخائبين والبلطجية، ولكن مساعدة من يستحق المساعدة.

 أحلم أنك تفتتح فصولًا حرة في المعاهد الفنية، إنك تنشئ جامعة شعبية لدراسات عن تاريخ مصر وجغرافيتها وآدابها إلخ إلخ، أن تأمر بترجمة كتاب وصف مصر، ووضع دائرة معارف،

 أن يذكر الناس عهدك بعمل عظيم، أين أفلامنا التسجيلية عن متاحفنا؟

 أشياء كثيرة تنتظر التنفيذ على يديك بإذن الله.



 وكنت أريد أن أعرض عليك أيضًا رأيًا في المجلات، فإني أتصور أن الحل يكون بتحريك النقابات المهنية لأداء واجبها الثقافي، وتعينها وزارة الثقافة بمبلغ محدد، نقابة المهندسين تصدر مجلة العمارة، عيب أن لا يكون في مصر أم العمارة مجلة للعمارة، نادي السينما يصدر مجلة السينما، وهلم جرا.

  لم يكن لي مطلب لنفسي فأنا والحمد لله في نعمة كبيرة، ولا أنسى أفضالك السابقة التي أنقذتني من ورطات كثيرة.

 كتبت لك الآن لأني أولًا خفت أن هذا الكلام مهما قلت قيمته قد يضيع من رأسي، ولأني – ثانيًا – أظن أن خطابي هذا قد يأتيني بكلمة منك ولو بالتليفون تبدد أوهامي.

المخلص

يحيى حقي

هذا خطاب خاص لذلك أرسلته بعنوان منزلك"



 وبعدها كان اللقاء، وترك بدر الدين أبو غازي الوزارة بعد ستة أشهر إلا أيام من توليه المنصب، واستمرت الصداقة واستمر التواصل إلى أن رحل بدر الدين أبو غازي قبل يحيى حقي بتسع سنوات وشهور...

 مقالي المنشور في أخبار الأدب - عدد 23 يناير 2022

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...