الخميس، 13 يناير 2022

الاقتصاد البرتقالي

 



الاقتصاد البرتقالي وآفاق التنمية

عماد أبو غازي

 انتشرت في مجال الاقتصاد المصطلحات التي تضفي ألوانًا معينة كسمات دالة على الاقتصادات المختلفة، وتجاوزت ألوان أنواع الاقتصادات اليوم عشرة ألوان؛ وفي هذا السياق ظهر مصطلح "الاقتصاد البرتقالي" كمصطلح من المصطلحات المستخدمة للتعبير من خلال الألوان عن نوع من أنواع الاقتصاد وتوجهه ومحتواه.


 يشير مصطلح الاقتصاد البرتقالي إلى الأنشطة الاقتصادية التي تجمع بين الموهبة والإبداع والتكنولوجيا والثقافة، ويتم فيها تحويل الأفكار إلى سلع وخدمات ثقافية، وتجني عوائدها من خلال حقوق الملكية الفكرية والحقوق المجاورة؛ حيث يشمل الاقتصاد الإبداعي أو البرتقالي الثروة الهائلة التي تتكون من اجتماع المواهب وحقوق الملكية الفكرية والتراث الثقافي، وبهذا المعنى فإن المصطلح يعتبر تطورًا لمفهوم الصناعات الثقافية أو الصناعات الإبداعية.

  فالاقتصاد البرتقالي أو الإبداعي يجمع قطاعات مختلفة من الاقتصاد معًا، ووفقًا لليونسكو، يتمثل هدفها الرئيسي في تسويق الأنشطة والخدمات والمنتجات، أو النشر، أو الترويج، أو الاستنساخ، أو الإنتاج الذي يحتوي على محتوى تراثي أو فني أو ثقافي، وترتبط منتجاتها أو خدماتها بالملكية الفكرية مثل ألعاب الفيديو والراديو وبرامج التلفزيون والإعلان والموسيقى والأزياء والألعاب والبحث والتطوير والنشر والتصميم والأفلام والحرف اليدوية والفنون المرئية وفنون الأداء والتصميمات المعمارية.

  متى ظهر المصطلح؟

 يرجع ظهور مصطلح الاقتصاد البرتقالي على الساحة لأول مرة إلى سنوات قليلة مضت؛ وذلك عندما أصدر الكولومبيان فيلبي بويتراجو - ريستريبو (Felipe Buitrago - Restrepo) وإيفان دوكي - ماركيز Iván Duque Márquez)) في عام 2013 كتابًا أو دليل عمل يحمل عنوان "الاقتصاد البرتقالي فرصة لا نهائية" (The Orange Economy – An Infinite Opportunity).

 ويجمع المؤلفان بين خبرات في العمل السياسي والقانوني والاقتصادي والثقافي؛ فأولهما: بويتراجو -ريستريبو متخصص في الاقتصاد والسياسات العامة، بدأ حياته المهنية في وزارة الثقافة الكولومبية، حيث عمل بين عامي 2003 و2006 كمنسق لبرنامج الاقتصاد والثقافة، وساهم في بناء نظام المعلومات الاقتصادية في المجال الثقافي كأداة لاتخاذ القرارات العامة والخاصة، كما شارك في مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وعمل مديرًا لبرنامج تطوير الاقتصادات الإبداعية في المجلس الثقافي البريطاني في عام 2009، ثم في عامي 2010 و2011 مديرًا للمرصد الأيبيري الأمريكي لحقوق التأليف والنشر، وتولى مؤخرًا منصب وزير الثقافة لشهور قليلة؛ وثانيهما: دوكي - ماركيز محامي وسياسي ومشرّع كولومبي، ينتمي إلى يمين الوسط، انتخب رئيسًا للجمهورية في عام 2018، وكان قد تخصص منذ البداية في القانون الاقتصادي الدولي وإدارة السياسات العامة، وعمل في وزارة المالية، كما عمل في بعض المؤسسات الثقافية والاقتصادية في كولومبيا، حتى انتخب نائبًا في البرلمان عن حزب "الوسط الديموقراطي"  (Centro Democrático)عام 2014، وساهم خلال عضويته في البرلمان في صياغة عدد من القوانين منها: "القانون البرتقالي" الذي صدر سنة 2017 بهدف تحقيق ضمانات الترويج للصناعات الإبداعية والثقافية وتنميتها وحمايتها في كولومبيا.

 وجاء كتابهما كعمل إبداعي في حد ذاته، فنحن أمام نص غير تقليدي، نص تفاعلي تتخلله صفحات بيضاء لنكتب تعليقاتنا فيها، كما أنه مليء بأكواد QR تقودنا إلى مواقع وفيديوهات على الإنترنت.

 لماذا اللون البرتقالي؟

  لكن ما سبب اختيار المؤلفان اللون البرتقالي للتعبير عن الاقتصاد الإبداعي؟

 ذلك لأنهما رأيا أن اللون البرتقالي يرتبط عادة بالثقافة والإبداع والهوية، ويقدم المؤلفان تفسيرهما لهذه العلاقة من خلال استعراض دلالته في مختلف الحضارات والثقافات.

 فيقول المؤلفان: إنه منذ أقدم العصور كان اللون البرتقالي دالًا على الإبداع بشكل أو بآخر؛ ففي العصور القديمة، استخدم الفنانون المصريون القدماء بكثرة صبغة برتقالية مصنعة من كبريت الزرنيخ في الكتابات الهيروغليفية والزخارف في المقابر.

 وفي التقاليد الغربية يرمز اللون البرتقالي إلى الترفيه والانطلاق، وربما ترجع جذور هذه الرمزية إلى الحضارتين اليونانية والرومانية حيث كانت ملابس ديونيسيوس (باخوس) إله المسرح والخمر وملهم طقوس الابتهاج والمرح برتقالية اللون.

 والبرتقالي كذلك لون ثمار نبات القرع الذي يشكل أحد الرموز الأساسية في طقوس احتفال الهيولين، الذي ترجع أصوله إلى المكسيك، ومنها انتقل إلى أمريكا الشمالية، ثم كثير من بلدان العالم.

 وفي الثقافات الأسيوية يشير اللون البرتقالي أيضًا إلى دلالات ترتبط بالفكر والثقافة والإبداع: ففي الكونفوشيوسية يعتبر لون التحول؛ وفي البوذية يعد لونًا مميزًا للرهبان ووفقًا لمعتقدهم فقد اختار بوذا اللون بنفسه للدلالة على الحكمة، وفي الهندوسية يعد البرتقالي لونًا للرجال المباركين؛ كما تمثل الشاكرا البرتقالية (Orange Chakra) الموجودة في أسفل البطن مركز القوة الإبداعية لدى الإنسان في فلسفة اليوجا.

 وبالنسبة للسكان الاصليين لأمريكا اللاتينية يمثل البرتقالي لون التعليم والقيادة، كما يمثل اللون المميز للخزف في حضارات امريكا الوسطى، وفي البيرو يعتبر لون المجتمع والثقافة.

 والبرتقالي أيضًا اللون الأكثر ارتباطًا بالنار، وهناك عدد من الاستعارات اللغوية حول العلاقة بين النار والفكر والإبداع والعاطفة.

 وأخيرًا فإن "البرتقالي أسعد الألوان" وفقًا للفنان الأمريكي الشهير فرانك سيناترا.

 لكل ما سبق، ونظرًا لأن الاقتصاد الثقافي والإبداعي كان يفتقر إلى هوية لونية أو علامة مميزة وقت تأليفهما كتابهما، فقد قررا إضفاء اللون البرتقالي على الاقتصاد الإبداعي وتسميته بالاقتصاد البرتقالي.

 وإذا كان مصطلح الاقتصاد البرتقالي قد ظهر أولًا في كولومبيا، فإن استخدامه شاع بسرعة في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، وتعددت الدراسات التي تحمله في عنوانها، وقبل مرور أقل من عشر سنوات على ظهور المصطلح أصبح شائعًا ومتداولًا على نطاق عالمي.

 من الصناعات الإبداعية إلى الاقتصاد البرتقالي

 يشمل الاقتصاد البرتقالي طيفًا واسعًا من الصناعات والحرف والإسهامات التي تتسع يومًا بعد يوم، والتي يدخل الكثير منها تحت مظلة ما يعرف بالصناعات الثقافية؛ فإذا كانت صناعة الكتاب والنشر التي ظهرت مع اختراع يوحنا جوتنبرج (Johannes Gutenberg) للطباعة في القرن الخامس عشر كانت اللبنة الأولى في بناء ما عرف بعد ذلك بالصناعات الثقافية، فإن الاختراعات التي أضافتها موجات الثورة الصناعية في القرنين التاسع عشر والعشرين قد حولت أشكالًا إبداعية كانت تتميز بطابع الفردية، أو بالصلة المباشرة بين المبدع والمتلقي، إلى صناعات تنطبق عليها معايير الصناعة الحديثة وتندمج في آليات السوق الرأسمالي، وتخضع لقوانينه.

 وفي ستينات القرن الماضي ظهر مصطلح الصناعات الإبداعية باعتباره تخصصًا مستقلًا في الدراسات الاقتصادية، وكان يشمل صناعات الكتاب والنشر والسينما والموسيقى والغناء بشكل أساسي، كما دخلت في إطاره عروض المسرح والفنون الاستعراضية والفنون التشكيلية، من خلال آليات تمويل إنتاجها وتسويقها.

 ثم غاب المصطلح أو قل الاهتمام به إلى عاد للظهور بقوة مع بداية الألفية الجديدة، في سياق صعود حضارة الموجة الثالثة، حضارة ثورة المعلومات والاتصالات، فظهر بمسمى الصناعات الثقافية واتسع نطاقه ليشمل صناعة الإعلانات والهندسة المعمارية والفن والحرف اليدوية التراثية والتقليدية والتصميم وصناعة الأزياء والبرمجيات وألعاب الفيديو والراديو والتلفزيون، إلى جانب السنيما والموسيقى والمسرح؛ فمع هذه الثورة تطورت الصناعات الإبداعية واتسع نطاقها؛ فانضمت إلى القائمة مجالات وقطاعات جديدة كالألعاب ومنتجات الترفيه وخدمات السياحة الثقافية، والإعلام، والفنون البصرية، والمصطلح في ظهوره الجديد شمل مجموعة من الأنشطة بعضها قديم قدم الحضارة الإنسانية مثل الموسيقى والغناء، وبعضها حديث جدًا مثل ألعاب الفيديو، وأصبح التركيز على الأنشطة التي تهتم بتوليد المعرفة والمعلومات واستغلالها.

 ومثلما أضافت تقنيات عصر الثورة الصناعية إلى الإبداع وحولته من الإنتاج المحدود إلى الإنتاج الكبير، فإن تقنيات المعلومات والاتصالات حققت التحامًا مع الصناعات الإبداعية ووفرت لها دفعة كبيرة إلى الأمام، وجاء هذا الالتحام على مستوى تقنيات الإنتاج وعلى مستوى تطوير المحتوى في الوقت نفسه؛ وقد أصبح المحتوى الإبداعي يمثل حصة كبيرة متزايدة باستمرار من التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت،

 ومع هذه التطورات في المفهوم حدث تغيير في المصطلح، فتحول إلى الاقتصاد الإبداعي بدلًا من الصناعات الإبداعية أو الثقافية، لماذا؟ لعل ذلك يرتبط بالأشكال الجديدة للإنتاج الثقافي والإبداعي التي تستوعب أشكال عصر الثورة الصناعية وتتجاوزها في الوقت نفسه، فقد منحت الثورة الرقمية قدرات واسعة للمبدعين وللمنتجات الثقافية لا تتقيد بأساليب عصر الصناعة، فأصبح مصطلح الاقتصاد الإبداعي أكثر تعبيرًا عن الحال.

 منذ أكثر من عشرين عامًا كانت الأسئلة الملحة: إن مفهـوم الصناعات الإبداعية أو الثقافية ظهر عندما كانت قيم الثورة الصناعية هي السائدة باعتبار الصناعة القيمة العليا، لكن مع ثورة المعلومات والاتصالات وقيمها الجديدة وما يصاحبها من تطورات ما وضع الصناعات الإبداعية والثقافية؟

 هل استمرت أساليب الإنتاج الثقـافي نفسها، أم أنها تغيرت وتطورت؟

 وهل مـازال لمصطلح الصناعات الثقافية استخدامه؟ وهل مازالت له دلالاته نفسها؟ هل يمكن أن نطلق مصطلح "صناعات" على المنتج الثقافي والإبداعي ونحن ننتقل من عصر الصناعة التقليدية إلى العصر الرقمي بأدواته وآليات عمله الجديدة المتطورة؟

 وأظن أن الإجابة جاءت مع تغير المصطلح إلى الاقتصاد الإبداعي، ثم مع إضفاء سمة لونية عليه ليصبح الاقتصاد البرتقالي.

الاقتصاد البرتقالي فرص لا نهائية

 وصف بويتراجو – ريستريبو ودوكي - ماركيز في كتابهما الاقتصاد البرتقالي بأنه يحمل فرصًا بلا نهاية؛ وهما محقان تمامًا في هذا الوصف، فالاقتصاد الإبداعي يحوي مجموعة من الأنشطة الإنتاجية والترفيهية والخدمية تشكل قيمة مضافة كبيرة لأي اقتصاد قومي، كما تقدم فرص عمل متزايدة أمام الشباب، كما ينمي الاقتصاد الإبداعي القدرة على الابتكار وينعكس هذا على مجال الدعاية والإعلان للمنتجات لمختلف الاقتصادات الأخرى، وفي الوقت نفسه تقدم إضافة فكرية وثقافية مهمة في المجتمع، كما أن الإبداع البشري يشكل المورد المتجدد الذي لا ينضب منذ الثورة الذهنية والذي يتطور بالتراكم المعرفي لدى البشر، ويملك الاقتصاد البرتقالي القدرة على تجاوز الأزمات الاقتصادية والكساد وتقلبات السوق والخروج منها والتعافي بأقل أضرار،

 والعلاقة بين الاقتصاد البرتقالي والاقتصاد الرقمي الذي يشكل المستقبل علاقة تبادلية حيث يقوي كل منهما الآخر، فقد أعطت التجارة الإليكترونية دفعة كبيرة للاقتصاد البرتقالي، وفي المقابل يعد الاقتصاد البرتقالي أحد العناصر الرئيسية للنمو في الاقتصاد الرقمي، ويتضح ذلك بجلاء من التحول نحو الاقتصاد ما بعد الصناعي، حيث توسعت الخدمات الشخصية والترفيهية والسمعبصرية كحصة من نفقات الأسرة المتوسطة وكحصة من الاقتصاد على مستوى العالم.

 ولو استعرضنا بعض النماذج لتطور الاقتصاد الإبداعي في العقود الثلاثة الأخيرة سنكتشف الحجم الذي يشكله في الاقتصاد العالمي وفي اقتصادات الدول المختلفة.

 فوفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، شهدت التجارة في السلع والخدمات الإبداعية ذروة فترة ازدهارها بين عامي2002 و2011 حيث زادت الصادرات بنسبة 134٪. وأصبحت خامس سلعة يتم تداولها في جميع أنحاء العالم، وقد وصلت صادرات المنتجات والخدمات الإبداعية إلى 646 مليار دولار.

 وسنجد أن نسبة اسهام الاقتصاد الإبداعي في اقتصاديات الدول تتراوح بين 2% و7% ويبلغ متوسط اسهامه في الاقتصاد العالمي 6,1%، وبناء على تقديرات الأمم المتحدة تبلغ عائداته السنوية 2,25 تريليون دولار، ويوفر 30 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، وتشكل النساء ما يقرب من نصف العاملين، كما يشكل الشباب بين 15 و29 النسبة الأكبر من العاملين، ويقدم التلفزيون والفنون المرئية أكبر إيرادات في القطاع، بينما تستوعب الفنون المرئية والموسيقى أكبر عدد من الوظائف.

  وفي بريطانيا جرى قياس القطاع لأول مرة عام 1998، وتضمن القياس ثلاثة عشر مجالًا تعتمد على الموهبة والقدرة على تكوين الثروة من خلال حقوق الملكية الفكرية: الإعلان، والتصميمات المعمارية، وسوق الفنون والتحف، والحرف اليدوية، والتصميم، وتصميم الأزياء، والأفلام، والبرامج الترفيهية التفاعلية، والموسيقى، والفنون المسرحية، والنشر، والبرمجيات، والتلفزيون والراديو؛ واتضح من القياس أن هذا القطاع يولد فرص عمل تبلغ ضعف متوسط فرص العمل في الاقتصاد البريطاني ككل.

 وفي الولايات المتحدة نتج عن التوظيف في الفنون والثقافة أكثر من 400 مليار دولار في الأجور لأكثر من 5.1 مليون أمريكي في عام 2017، أما في الصين فقد أسهمت القطاعات الإبداعية بما يزيد على 460 مليار دولار في الاقتصاد الوطني، أي ما يوازي نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي، ووفقًا لتقديرات 2018 فإن الاقتصاد الإبداعي في بلدان الاتحاد الأوروبي كان مسؤولا عن توفير 12 مليون وظيفة ما يجعله ثالث أكبر قطاع لأصحاب العمل، ويولد نحو 550 مليار دولار أي ما يعادل 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد.

 هناك أيضًا تجربة دول الكاريبي التي تعاني من وجود قاعدة صناعية ضيقة ومتدنية، وتعاني من عبء الديون وتدهور القدرة التنافسية لصادراتها، فأدركت الحكومات والوكالات الإقليمية هناك أن الصناعات الإبداعية يمكن أن تكون محركًا للنمو الاقتصادي وآلية لتنويع الاقتصادات وتحسين القدرة التنافسية العالمية، ومن هنا بدأ العمل على تذليل العقبات التي تواجه الاقتصاد البرتقالي هناك والمتمثلة في الافتقار إلى مرافق الإنتاج وسوء تنظيم السوق وعدم كفاية القواعد واللوائح والفهم المحدود للأسواق العالمية ومشكلة اللغة والافتقار للقدرة على المساومة.

 وعلى صعيد آخر تهدف إمارة دبي إلى زيادة مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي للدولة من 2,6% إلى 5% بحلول عام 2025، كما أنشئت مناطق إبداعية جديدة للمحتوى الثقافي والتصميم وفنون، وتسعى استراتيجية الاقتصاد الإبداعي هناك إلى مضاعفة عدد الشركات الإبداعية والثقافية العاملة في القطاع من 8300 الآن إلى 15 ألف شركة على مدى السنوات الأربع المقبلة، مع زيادة الوظائف الإبداعية من 70 ألف إلى 140 ألف وظيفة.

 ومن الجدير بالاهتمام دراسة تأثيرات الجائحة التي يمر بها العالم في العامين الأخيرين على الاقتصاد البرتقالي، فرغم تضرر قطاعات كبيرة من هذا الاقتصاد من الجائحة، مثل السينما، والسياحة، والأنشطة الترفيهية الحية، نرى في المقابل ازدهار في مجالات الترفيه الرقمي ومنصات عرض الأفلام والبرامج والتجارة الإلكترونية لسلع الاقتصاد الإبداعي.

 لماذا تستمر العوائق أمام الاقتصاد البرتقالي؟

 رغم كل ما سبق، ورغم ما يتمتع به الاقتصاد البرتقالي من قدرة على تطوير قطاعات مختلفة من الاقتصاد ما زالت هناك عوائق قائمة أمامه في عدد من دول العالم، ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب وفقًا لكتاب "الاقتصاد البرتقالي فرصة لا نهائية":

 أولًا: يعد تعريف الاقتصاد البرتقالي أمرًا معقدًا، فالثقافة والإبداع والاقتصاد مفاهيم واسعة تتطلب ترسيم الحدود وتحديد العلاقات؛ فرغم الزمن الطويل الذي انقضى على نشأة الصناعات الثقافية، ما زالت العلاقة بين الاقتصاد والثقافة ليست بديهية لدى كثير من الناس، وما زالت فرصهما المشتركة غير معروفة على نطاق واسع، وما زال النهج الاقتصادي الكمي للأنشطة الثقافية والإبداعية حديث إلى حد ما يحتاج إلى تطوير أدواته، وما زال سؤال هل الثقافة والإبداع خدمة بلا مقابل أم سلعة لها ثمن؟ يلقى إجابات متفاوتة.

 ثانيًا: إن الجمع والنشر المنتظم للبيانات والمعلومات ذات الصلة بالاقتصاد الإبداعي غير متسق، ونادرًا ما يتم توصيله بطريقة فعالة.

 ثالثًا: العملية الإبداعية، التي ينتج عنها السلع والخدمات، هي عمل غامض يتبع منطقًا معقدًا ومتقلبًا، يبدو أحيانًا بعيدًا عن الفهم التقليدي للقائمين على شئون الاقتصاد.

 رابعًا: يفتقر تصميم السياسات العامة لدعم الاقتصاد الإبداعي إلى الأطر العملية، لا سيما للاستفادة من الفرص التي يقدمها لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

 خامسًا: الأشخاص المعنيون لا يمثلون كتلة حرجة حتى الآن.

لماذا الاقتصاد البرتقالي مهم لمصر؟

  نمتلك في مصر امكانيات كبيرة غير مستغلة في مجال الاقتصاد البرتقالي (الإبداعي):

 لدينا ثروة بشرية من المبدعين في مجالات الفنون والآداب المختلفة يملكون الموهبة إلى جانب الدراسة في الكليات والمعاهد الفنية، ولدينا أيضًا تراث إبداعي حديث متواصل على مدى قرنين.

 لدينا خبرة ممتدة في الصناعات الثقافية مثل صناعات الكتاب والنشر والسينما والموسيقى والغناء والدراما الإذاعية والتليفزيونية، يرجع عمر أقدمها إلى قرنين وأحدثها قارب ثلاثة أرباع القرن، لكنها تحتاج إلى توفير بيئة تشريعية ملائمة ودعم مباشر وغير مباشر لتنطلق قدرتها التنافسية في المجالين المحلي والإقليمي، ولتتيح فرص للتوظف لأعداد أكبر من الشباب.

 نمتلك حرف تقليدية وتراثية يمكن أن ننميها وتشكل قيمة مضافة لاقتصادنا القومي من ناحية، وفرص عمل أمام قطاع واسع من الشباب والكبار ولا تحتاج الا الى تنمية المهارات.

 لدينا تراث طويل من تجارب الاستفادة من الطاقات الابداعية التلقائية، مثل: تجربة حبيب جورجي ثم رمسيس ويصا واصف وصوفي حبيب في الحرانية، وتجربة ايفلين في الفيوم، وتجارب جراجوس وحجازة، وإحياء حرفة التلي في الصعيد (تجربة مركز الفنان سعد زغلول وتجربة المجلس القومي للمرأة)، ومراكز الحرف التراثية التابعة لوزارة الثقافة.

 نحظى بعدد من مواقع التراث الأثري والثقافي والطبيعي الجاذبة للسياحة، نحتاج إلى الحفاظ عليها وتحقيق أقصى استفادة منها.

 لدينا جيل من الشباب القادر على تطوير محتوى رقمي مصري، وتصميم الألعاب التعليمية والترفيهية الإلكترونية والتقليدية، أو التي تجمع بين الأسلوبين، وتطوير البرمجيات، يحتاجون إلى الدعم والمساندة..

 لدينا ثروة من حقوق الملكية الفكرية لمنتجنا الفني والثقافي تشكل إضافة مهمة لاقتصادنا القومي لو أحسنا حمايتها.

  وقبل ذلك كله وبعده نمتلك رؤية جعلت من دعم الصناعات الثقافية كمصدر قوة للاقتصاد القومي وقوة لتحقيق التنمية وأساسًا لقوة مصر الناعمة إقليميًا ودوليًا، الهدف الأول من أهداف محور الثقافة في استراتيجية التنمية المستدامة مصر 2030.

 آن الأوان أن نتجه بحزم للاستفادة من كل هذه الإمكانيات الكامنة ليسهم الاقتصاد البرتقالي في تحقيق التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل جديدة، وإضافة قوة جديدة للاقتصاد الوطني، والاستفادة من المنتجات الثقافية والإبداعية باعتبارها ميزة تنافسية أساسية نمتلكها ولا نستخدمها بالقدر المناسب، وفي سبيل تحقيق ذلك نحتاج إلى حزمة من الحوافز ومجموعة من الإصلاحات التشريعية، وقاعدة من البيانات الدقيقة، حتى نحقق أقصى استفادة من إمكانياتنا في مجال الاقتصاد البرتقالي.

"لا يوجد شيء أقوى من فكرة حان أوانها"

 بلزاك

مقالي في عدد نوفمبر من آفاق اقتصادية

هناك 4 تعليقات:

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...