الأحد، 15 فبراير 2015


ماذا حدث في فبراير؟

عماد أبو غازي

  في مطلع عام 1946 ردت بريطانيا على مطالب الحكومة المصرية بالدخول في مفاوضات سياسية لتحقيق الجلاء ردا سلبيا، وكان هذا الرد كفيلا بتفجير الغضب الشعبي ضد الوجود البريطاني في مصر والسودان، وجاءت الشرارة من الجامعة، فقد كان النشاط السياسي للوفديين خاصة المنتمين لتيار الطليعة الوفدية وكذلك للشيوعيين والمتعاطفين معهم في صفوف الطلاب متصاعدًا منذ بداية العام الدراسي في خريف 1945، وكانت الدعاية الوطنية الممتزجة بالقضايا الاجتماعية الاقتصادية محورًا لهذا النشاط.
 وكان الطلاب قد شكلوا لجنة لتنظيم حركتهم وقيادتها سميت باسم اللجنة الوطنية العليا للطلاب، وكان من أبرز قادتها لطيفة الزيات الطالبة بكلية الآداب والكاتبة الروائية والناقدة والأستاذة الجامعية فيما بعد، ومصطفى موسى الطالب بكلية الهندسة وكان ينتمي لتيار الطليعة الوفدية وقد غادر مصر في الحقبة الناصرية وعمل بالجزائر، وعصام الدين جلال الطالب بكلية الطب والذي أصبح فيما بعد من الناشطين البارزين في حركة باجواش للعلماء من أجل السلام، وقد نشرت دار الهلال منذ سنوات مذكرات الدكتور عصام الدين جلال التي خصص جزء مهم منها لأحداث فبراير 1946.
 خلال الأسبوعين التاليين للرد البريطاني السلبي تصاعدت حركة الاحتجاج وسط طلاب الجامعة، ووصلت الأمور إلى ذروتها يوم السبت 9 فبراير 1946 عندما خرج الطلاب في مظاهرات حاشدة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) قاصدين قصر عابدين مقر الملك وهم يهتفون للجلاء، وعند كوبري عباس (الجيزة حاليًا) تصدت قوات الأمن للمظاهرة لمنعها من العبور إلى القاهرة. وكان كوبري عباس من الكباري التي تفتح لمرور المراكب، وهنا تختلف الروايات للواقعة، فهناك رواية شائعة تؤكد أن الشرطة فتحت الكوبري عندما بدأ الطلاب في العبور عليه لتوقف المظاهرة، بينما يروى المؤرخ عبد الرحمن الرافعي القصة بشكل مختلف حيث يؤكد أن الكوبري كان مفتوحًا بالفعل لمرور المراكب، فنزل بعض الطلاب إلى النيل واستقلوا القوارب ليصلوا إلى العوامة التي تتحكم في فتح الكوبري ليغلقوه وتعبر المظاهرة من فوقه.
 
 
 وأي كانت الحقيقة فإن فتح الكوبري في هذا الوقت من النهار لم يكن أمرًا طبيعيًا فمواعيد فتح الكباري المعتادة تكون في ساعات الليل المتأخرة أو عند الفجر أو قبيل المغرب، ولا تفتح في وسط النهار، فبغض النظر عما إذا كان البوليس قد فتح الكوبري أثناء مرور الطلاب، أو أن الكوبري كان مفتوحًا عند وصولهم إليه، فإن الغرض في الحالتين كان منع المظاهرة من الوصول إلى هدفها أي قصر عابدين.

 
محمود فهمي النقراشي
 
 الأمر الثاني أن القصة الشائعة التي نرددها دائمًا تتحدث عن شهداء كوبري عباس الذين سقطوا في النيل جرأ فتح الكوبري على المظاهرة، وقد ظللت أردد هذه القصة مثل الجميع، إلى أن كنا نحتفل بالذكرى الثلاثين لمظاهرات فبراير 46، وقررنا في اتحاد  طلاب كلية الآداب بجامعة القاهرة أن نصدر بيانًا احتفاليًا نذكر فيه الطلاب بهذه المناسبة المهمة في تاريخنا الوطني، ولما كنت أمينًا لجنة النشاط السياسي والثقافي باتحاد طلاب الكلية، وهكذا كانت وقتها لجنة للنشاط السياسي والثقافي وفقًا للوائح القائمة وأخرها لائحة 1976، فقد توجهت لمطبعة صغيرة لكتابة البيان وطبعه، وكان البيان يحمل بشدة على محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية الذي أمر بفتح الكوبري ويتحدث عن الشهداء الذين غرقوا في النيل بسبب جريمته النكراء، فقال لي صاحب المطبعة يومها: "سأطبع لكم البيان كما هو لكن يا بني لازم تعرف إن النقراشي باشا كان من أشرف من تولى رئاسة الوزارة في مصر وإنه لم يسقط شهيد واحد في النيل في حادثة كوبري عباس"، وبالفعل طبع الرجل البيان ووزعناه في احتفال كبير بدأ في مدرج 50 بمبنى قسم التاريخ بكلية الآداب استضفنا فيه الدكتور عبد المحسن حمودة الذي كان من بين المشاركين في مظاهرات 46 من الطليعة الوفدية، وخرجنا في مسيرة رمزية تقدمها رئيس اتحاد طلاب كلية الآداب زياد عودة وتوجهنا إلى النصب التذكاري لشهداء الجامعة الذي يقف شامخًا أمام البوابة الرئيسية لجامعة القاهرة لنضع إكليلًا من الزهور ولوحة تذكارية تحمل اسم مصطفى موسى زعيم الطلبة سنة 46 وكان قد توفي قبلها بفترة بسيطة.
 انتهى الاحتفال ولم أنس كلمات صاحب المطبعة، الذي لم أكن أعرف عنه وقتها سوى أنه صاحب مكتب للآلة الكاتبة أسعاره رخيصة وعمله متقن، علمت بعدها بسنوات عندما التقيت به في منتديات ثقافية عديدة، أنه الأديب فتحي فضل، المهم حاولت أن أدقق معلوماتي حول الحادث من المصادر المعاصرة، فتأكد لي أنه لم يسقط شهيد واحد في مظاهرة كوبري عباس يوم 9 فبراير 1946 وأن الوحيد الذي استشهد في مظاهرات جامعة فؤاد الأول يوم 9 فبراير الطالب محمد علي محمد من طلبة كلية التجارة أمام باب الجامعة نتيجة سقوطه تحت سيارة أمام الجامعة أثناء خروج المظاهرة، لكن علمت أيضًا أن عدد الجرحى في المظاهرات بسبب استخدام البوليس للقوة المفرطة والعنف في التصدي للمظاهرات بلغ 84 مصابًا، بعضهم كانت إصاباتهم بليغة، كما سقط ثلاثة شهداء في الإسكندرية، وثلاثة آخرين في الزقازيق، وشهيد واحد في المنصورة، وكانت المظاهرات قد عمت عديد من المدن المصرية يومي 9 و10 فبراير 1946.
 ولأن النقراشي باشا كان سياسيًا يحترم تاريخه الوطني ويحترم شعبه، ولأن مصر كانت تعيش في ظل نظام دستوري يتمتع فيه الشعب بحريات سياسية واسعة رغم وجود الاحتلال والسرايا، فقد قرر الرجل أن يتحمل مسئولية ما ارتكبه رجال البوليس التابعين له فقدم استقالة وزارته في يوم 15 فبراير قبل أن ينقضي أسبوع على الأحداث.

هناك تعليقان (2):

  1. معلومة فعﻻ جديدة على معظم القراء.
    الله يرحم النقراشي شهيد اﻻرهاب اﻻخواني.

    ردحذف
  2. معلومة فعﻻ جديدة على معظم القراء.
    الله يرحم النقراشي شهيد اﻻرهاب اﻻخواني.

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...