الاثنين، 6 أكتوبر 2014


 دول مقالين كتبتهم في مخربشاتي بجريدة الدستور في الذكرى 35 لحرب أكتوبر من ست سنين...

حكاية الفلاح المحارب

عماد أبو غازي
 من 35 سنة في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر 1973، أصدر الرئيس السادات قرارات بالإفراج عن من تبقى من الطلاب المعتقلين بعد مظاهرات 1973، كما أعاد الصحفيين المبعدين إلى أعمالهم بعد أن ألغى قرارات لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي العربي بفصلهم، الفصل الذي ترتب عليه إبعادهم من عملهم الصحفي وفقًا لقوانين ذلك العصر، كان التصور وقتها أن تلك القرارات صدرت تحسبًا لافتتاح الجامعة الذي كان موعده قد اقترب طلبًا لعام دراسي هادئ، لكن الأيام التالية كشفت عن أن حقيقة الأمر أن القرارات صدرت لضمان "وحدة الجبهة الداخلية" في الأيام الأخيرة السابقة على الحرب التي طال انتظارها.
 بعد أيام قليلة من القرار انطلقت الشرارة الأولى لحرب أكتوبر 1973 ليحقق الجيش المصري الذي أعيد تكوينه على أسس جديدة بعد هزيمة 1967، الجيش الذي ضم عشرات الآلاف من المجندين من خريجي الجامعات المصرية، عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف.

 جاءت الحرب بعد سبع سنوات من الانتظار والغليان المكتوم، بعد أن كاد الناس يصلون إلى حد اليأس بسبب استطالة حالة "اللا سلم واللا حرب"، بدأ العبور، كان الأمر مفاجأة، لكن المتأمل لتاريخ هذا البلد لابد أن يدرك أن  ما حدث في ظهر يوم السبت 6 أكتوبر سنة 1973 لم يكن بمستغرب، فأبناء الجيش المصري الذي عبر القناة، هم أنفسهم حفدة المقاتلين المصريين الذين صدوا الغزاة طوال تاريخ مصر الألفي الطويل، حفدة الفلاح المصري المقاتل الذي ينفي تاريخه أكذوبة خنوعه وخضوعه لكل غاصب محتل.
 إن الجميع يعرفون قصة الفلاح الفصيح وشكاواه الشهيرة التي استنجد فيها بالفرعون ليرفع عنه ظلم موظفيه ورجاله، تلك القصة التي تعتبر واحدة من روائع الأدب السياسي في مصر القديمة، لكن من يعرف قصة الفلاح المحارب؟
 إنها قصة ممتدة عبر التاريخ، قصة كفاح المصري من أجل الدفاع عن وطنه، فرغم أن الشعب المصري مسالم لا يبدأ بالعدوان، ورغم أنه لم يبن دولته القديمة على أسس من التوسع والاستعمار للبلدان المجاورة، إلا أن العدوان المستمر للجيران ـ خاصة البدو الأسيويين ـ كان يحفز المصريين دائمًا للدفاع عن وطنهم وترابهم وحدودهم.
 وقد أثبت أبناء النيل في معظم المرات التي تعرضت بلادهم فيها لعدوان الغزاة أنهم أهل لحماية أرضهم وصد الغزاة عنها، فرغم كراهية المصري للقتل والقتال إلا أنه لا يتهاون أبدًا مع من يتعدى على أرضه.
 إن درس التاريخ الممتد لأكثر من خمسة ألاف سنة يؤكد دائمًا أن المصري ذلك الفلاح المسالم الوديع الذي يكرس حياته كلها لبناء الحضارة، ليهب الحياة لا ليسلبها، يتحول إلى مقاتل شرس شجاع إذا تعرض الوطن للخطر، ويترك المحراث والفأس ليحمل السلاح. إن إطلالة سريعة عبر عصور التاريخ المصري تؤكد أن التاريخ الطويل للحضارة المصرية هو تاريخ ممتد من مقاومة الغزاة الذين توالوا على البلاد.فمنذ الألف الثالث قبل الميلاد كانت مصر عرضه لغارات متوالية من سكان المناطق الغربية من آسيا، وكانت هذه الغارات تأخذ عادة شكل الهجمات الخاطفة التي تهدف إلى السلب والنهب في الدلتا. وتشير النصوص التاريخية القديمة إلى أن جسر أو زوسر صاحب هرم سقارة المدرج قد بذل جهودًا ضخمة لحماية البلاد من تلك الغارات.

 جسر أو زوسر
لقد كان للمصريين القدماء جيش قوامه من فلاحي مصر يدافع عن حدود الوطن من الشرق والغرب والجنوب، وربما كانت أولى الغزوات الخارجية التي يسجلها التاريخ هي تلك التي وقعت في عصر الأسرة السادسة، حوالي سنة 2450 قبل الميلاد، عندما تعرضت مصر لهجوم كاسح ومباغت من الحدود الشرقية قامت به جماعات من البدو من غرب آسيا، واستقرت تلك الجماعات في أرض الدلتا بقوة السلاح.
 وإذا كان المؤرخون لم يعرفوا أصل تلك الجماعات على وجه التحديد، لكن ما نعرفه بشكل مؤكد أن مصر هبت كلها للدفاع عن أرضها، فيبدو أن شدة الاجتياح الأسيوي استدعت تجنيد جيش كبير، فتم تجنيد الآلاف من مختلف أنحاء البلاد وتدريبهم بسرعة، وقد نجح هذا الجيش في طرد الغزاة.
وقد خلد قائد الجيش المصري الذي تصدى للغزاة ودحرهم هذا الدفاع المجيد في نقش على جدران مقبرته، سجل منه كيف تكون هذا الجيش من جموع المصريين من الوجهين القبلي والبحري وأهالي النوبة والصحراء الغربية.

وخرج هذا الجيش الجبار ليلًا ليدفع الغزاة عند الحدود الشرقية لدلتا النيل، فهزمهم شر هزيمة وأنزل بهم خسائر فادحة، ولم يكتف بصدهم عن البلاد بل طاردهم إلى ما وراء الحدود. وقد سجل القائد المصري "أونى" هذا الانتصار في أنشودة كان الجنود يتغنون بها جاء فيها:

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن فارق بلاد سكان الرمال

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن خرب بلاد سكان الرمال

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن دمر حصون الأعداء

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن أقتلع تينهم وكرومهم

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن ألقى النار بين جنودهم

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن قتل عشرات الآلاف من الجنود

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن أحضر معه آلافًا من الأسرى

لقد كان الغزو الخارجي الذي تعرضت له مصر عند نهاية الدولة القديمة دافعًا للانتباه الدائم للأخطار الخارجية، وللعمل على تكوين جيش محترف قوي يذود عن البلاد في وقت الخطر...

 تستمر مسيرة الفلاح المحارب الذي يدافع عن أرضه ووطنه عبر التاريخ المصري القديم، ففي عصر الدولة الوسطى أصبحت حماية حدود البلاد من الموضوعات المتكررة في النصوص المصرية القديمة، فيسجل الملك سونسرت الثالث أحد ملوك الدولة الوسطى نصا في شكل وصية تحمل الدعوة للدفاع عن الحدود وتأمينها قال فيها:
"أي أمرأ من ولدي يستطيع أن يحمي ما أقمت من حدود لهو ولدى من صلبي، وإنه كمثل صادق لذلك الابن الذي يحمى أباه، ويذود عن حدوده، فأما من قصر عن ذلك ولم يذد عن حدودي، فذلك ليس من ولدي، لأنني لم ألده، وهذا تمثالي أقمته لكم على الحدود، عله أن ينهضكم، فدافعوا عنه.
 إن الأعداء يصدعون لصوت الشجاع، فإذا ما هوجموا خضعوا، وإذا لان لهم الأمر هجموا، وإنهم لقوم ضعفاء لا يقام لهم وزن، ثم هم مساكين، ضعاف قلوبهم..."

سونسرت الثالث
 
 ومع نهاية عصر الدولة الوسطى نجح الهكسوس في احتلال قسم كبير من البلاد، وبسطوا نفوذهم على بقيتها، بفضل استخدامهم لتقنيات عسكرية لم يكن المصريون قد وصلوا إليها بعد. ولا نعرف على وجه التحديد الكيفية التي نجح بها الهكسوس في احتلال مصر، هل عن طريق التسلل والاستيطان التدريجي أم عن طريق الغزو المباشر، لكن المصريين عبروا عن هذا الواقع المرير من خلال نص منقوش على لوح حجري يقول:
 "هب الغضب الإلهي علينا ولست أدرى لماذا؟ فعلى حين غفلة بلغت الجرأة بقوم من جنس غير معروف جاءوا من الشرق أن غزوا بلادنا واستولوا عليها عنوة، وهؤلاء الناس قبضوا على الرؤساء وأضرموا النار في المدن بوحشية، وأزالوا المعابد، وعاملوا الأهالي بكل قسوة يذبحون البعض ويسبون النساء والأطفال وأخيرًا عينوا أحدهم ملكًا اسمه سالاتيس فأقام في منف وجبى الإتاوات من الأقاليم العليا والسفلى..." 
 وفي مواجهة حكم الهكسوس للبلاد أعاد المصريون تنظيم صفوفهم واستوعبوا ما فاتهم من تطور في التسليح، وعاد الفلاحون إلى القتال مرة أخرى، ونجحوا في طرد الغزاة؛ حيث قاد سقنن رع وابنيه كاموس وأحمس جيش التحرير في حرب طويلة انتهت بالنصر المظفر، وانطلق الجيش المصري، جيش الفلاحين، إلى الشرق خارج الحدود ليؤمن البلاد فتأمن مصر شر الغزاة.

 
 أحمس الأول يطهر من الربين رع وآمون
 لقد حكم الهكسوس مصر ما يقرب من مئة وخمسين عامًا، احتاج الأمر قرن من الزمان حتى ينظم المصريون حركتهم تحت قيادة أمراء طيبة ويتحركوا لتحرير البلاد وطرد الهكسوس، بدأت حرب التحرير في عهد سقنن رع الذي بدأ حربًا متواصلة لطرد الهكسوس من البلاد، استشهد سقنن رع في ميدان القتال دون أن يكمل حرب التحرير، لكنه أشعل شرارتها، وأكمل المسيرة من بعده ابنه كاموس، ولعبت أميرات أسرة سقنن رع دورًا مهمًا في الحشد المعنوي للقتال، لكن الحلم لم يتحقق إلا على يد الابن الثاني لسقنن رع، أحمس الأول، الذى أكمل جهود تحرير مصر من الهكسوس، وأعاد توحيد البلاد مرة أخرى، ورغم أن أحمس ينتمي إلى ملوك الأسرة السابعة عشرة الذين حكموا جنوب البلاد من طيبة وأشعلوا حرب التحرير ضد الهكسوس، إلا أن إنجازه للتحرير الكامل لمصر جعل منه مؤسسًا لأسرة جديدة بل ولعصر جديد في التاريخ المصري.

 شاهد لأحمس الأول
 لقد أثبتت تجربة الحرب التي خاضها المصريون لتحرير بلادهم من الهكسوس عدة أمور، أولاها: أن المصري مهما صبر على من يغتصب أرضه وحقه لابد له من لحظة يقظة يهب فيها ليسترد حقه، وثانيها: قدرة المصري على استيعاب التقنيات الجديدة وتطويرها والاستفادة منها، فقد ساد الهكسوس لأنهم كانوا يستخدمون الخيول والعجلات، ولم يكن المصري يعرفها حتى ذلك الحين، لكن الفلاح المصري سرعان ما استوعب هذه التقنية الجديدة عليه واستخدمها وطورها لبناء إمبراطورية كبيرة، أما ثالثها: فما أدركه المصريون من ذلك الوقت المبكر عن ما نسميه بلغة اليوم أمنهم القومي، من أن أمن مصر خارج حدودها، لقد أدرك المصريون بعد التجربة المريرة من احتلال الهكسوس لأجزاء كبيرة من البلاد، وسيطرتهم السياسية على الأجزاء الباقية، أن أمن مصر واستقرارها يقتضى تعقب الغزاة وراء الحدود، فتتتبع أحمس الهكسوس في فلسطين وسوريا وأستأصل حصونهم واستحكاماتهم التي بنوها في فلسطين وأزالها من الوجود، كذلك اتجه أحمس وابنه أمنحتب الأول إلى تأمين الحدود الجنوبية للبلاد، وبناء القلاع والحصون في النوبة التي ثبت لحكام مصر أنها خط الدفاع الأخير عن البلاد عندما يأتي الغزاة من الشمال والشرق.

قلادة عسكرية من عصر الدولة الحديثة
 وفى أوائل القرن الخامس عشر قبل الميلاد أنتقل حكم مصر إلى بيت جديد ينتمى إلى الأسرة الثامنة عشرة، وقد نجح تحتمس الأول مؤسس البيت الجديد، وأبناؤه وأحفاده في تأسيس أكبر إمبراطورية مصرية عرفها التاريخ.
 
تحتمس الأول
وللتاريخ بقية... 


هناك تعليقان (2):

  1. كعادة أستاذي العظيم يكتب فى التاريخ القديم بنفس إجادته للتاريخ الحديث عشت دوماً لخدمة التاريخ

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...