الأربعاء، 8 أكتوبر 2014


الصحوة الأخيرة

عماد أبو غازي

 عاشت مصر مرحلة ترهل وانحلال حضاري بعد عصر الرعامسة، نتيجة لكثافة الاستغلال الذي تعرض له الفلاح المصري الصانع الأول للحضارة، فمنذ عصر بناء الإمبراطورية جنى ثمارها تحالف الكهنة والعسكريين والكتبة، ذلك التحالف الذي أخذ عبر عشرات السنين يكثف استغلاله للفلاحين المصريين ويبدد المنجز الحضاري المصري.
 كانت النتيجة الطبيعية للترهل الذي أصاب مصر انخفاض مناعتها في مواجهة الخطر الخارجي الجديد الذي بات يهدد سوريا وفلسطين ومصر، خطر الإمبراطورية الآشورية الصاعدة في العراق، ومنذ القرن الثامن قبل الميلاد توالت هجمات الآشوريين على مصر، ونجحوا في احتلال البلاد في القرن السابع قبل الميلاد في ظل الانهيار والضعف الذي أصاب الدولة المصرية، ففي عام 674 ق.م. وصلت الجيوش الآشورية بقيادة الملك آشور أخي الدين إلى شرق الدلتا، حيث تصدى لهم طهارقا ملك مصر النوبي بجيوش ضخمة نجحت في رد الآشوريين إلى بلادهم، لكن الآشوريين عادوا مرة أخرى بعد أربع سنوات ووصلوا إلى أبواب الدلتا واحتلوها بالكامل، ولم يحترم الآشوريين معتقدات المصريين وديانتهم بل سعوا للبطش بالثقافة المصرية وتدميرها.

 
طهارقا بجسم أبو الهول
استنفر الاحتلال مشاعر أهل الدلتا فدعوا طهارقا للزحف شمالًا لتحريرهم، ورغم نجاح طهارقا في تحرير الدلتا إلا أن هذا النجاح لم يدم طويلًا، فبعد تولي الملك الآشوري الجديد آشور بني بعل العرش أرسل جيشا ضخمًا ليحتل مصر ويصل إلى طيبة.
 
آشور بني بعل
 
 فاتجه طهارقا إلى عاصمته الأصلية نباتا في جنوب النوبة، فكانت النوبة هي الملجأ الأخير الذي حمى الثقافة المصرية كالعادة.  

 وهنا ظهر الفلاح المحارب مرة أخرى، وظهرت المقاومة الشعبية الحقيقية في مصر للمرة الأولى، ففي كل الغزوات السابقة على غزو الآشوريين للبلاد، كان المصريون يجتمعون تحت منارة الدولة أو أمراء طيبة وينخرطون في جيوشهم ليخوضوا حرب التحرير، لكن في هذه المرة بدأت حركات التحرير السرية تنتشر في أرجاء البلاد، وأخذ الناس على عاتقهم أن يجعلوا من مصر جحيمًا لا يحتمل بالنسبة للمستعمر المستبد، ورفعوا راية العصيان بزعامة مصري أسمه "نخاو" اعتبره المصريون الزعيم الروحي لحركتهم، وكان نخاو هذا رجلًا مسنًا ذا خبرة وتجارب وثقافة واسعة، أخذ يجمع المصريين حوله ويهاجم المستعمر في حركات سريعة وسرية، واتبعوا في حربهم ما يمكن أن نسميه بلغة العصر حرب العصابات.

 وإذا كانت حركة نخاو لم تنجح فى تحرير البلاد فإنها انتهت إلى تعيين نخاو حاكمًا للدلتا تحت الولاية الإسمية للآشوريين.
 وإذا كانت أمور الدلتا قد استقرت تحت حكم نخاو فإن الصعيد ظل يغلي بالمقاومة، وتجمعت جهود أهله حول تانوت آمون أحد أمراء النوبة لمحاربة الآشوريين، نجح تانوت آمون في حشد جيش ضخم من الفلاحين استطاع أن يهزم به الآشوريين عند مدينة منف، لكنه وقع في خطأ تاريخي عندما لم يتقدم خلفهم ويطردهم من الدلتا، فقد عاد الآشوريون مرة أخرى بقوة أكبر هزمته في منف سنة 661 ق.م.، وطاردته حتى طيبة وفر الأمير الشاب إلى نباتا.
 وانتقلت مهمة التحرير إلى أهل الشمال مرة أخرى، فكانت ثورتهم الناجحة التي نظمها وقادها الأمير بسماتيك ابن الأمير نخاو، الذي نجح في توحيد البلاد خلفه لأنه جمع بين أصول أبيه الشمالية وصلته بالأسرات الليبية التي حكمت مصر في أواخر عصر الدولة الحديثة، وأصول أمه النوبية الجنوبية التي كانت ابنة للفرعون طهارقا. عرف بسماتيك كيف يعد لمعركته إعدادًا جيدًا وعقد مجموعة من التحالفات الإقليمية، وجمع بين المقاومة المسلحة والجهود الدبلوماسية، لينتهي به الأمر بتحرير البلاد من الآشوريين، وتأسيس أسرة ملكية جديدة، بل عصر جديد من عصور الحضارة المصرية عرف بالعصر الصاوي، نسبة إلى مدينة سايس، وكان العصر آخر عصور النهضة المصرية الناجحة، وانتهى بعد أكثر من مئة عام بالاحتلال الفارسي.

 
بسماتيك الأول
 لقد صمدت مصر أمام الغزوات الأجنبية قرابة ثلاثة آلاف عام إلى أن نجح الفرس فى كسرها وتدمير مقومات ثقافتها فانهارت القدرات العسكرية للبلاد، لكن القوة والروح القتالية ظلت كامنة داخل نفوس المصريين تظهر بين حين وآخر فى حركات التمرد ضد الفرس، إلى أن جاء الإسكندر الأكبر ليطردهم من البلاد.
 ففى سنة 525 قبل الميلاد حل بمصر الاحتلال الفارسي على يد قمبيز بن قورش الذي كان شديد الشراسة في معاملته للمصريين، وفي الاستهزاء بمعتقداتهم الدينية وثقافتهم، ولم يتوقف المصريون عن مقاومة الفرس والثورة ضدهم، ونعرف من خلال النصوص القديمة أخبار ثلاث ثورات كبرى ضد الاحتلال الفارسي، اشتعلت أولى هذه الثورات سنة 486 ق.م. واستمرت حتى عام 484 عندما نجح الملك الفارسي إجزركسيس في القضاء عليها، ورغم التنكيل بالمصريين والعمل على القضاء على الروح القومية في مصر إلا أن الثورة عادت للاشتعال سريعًا ونجحت في طرد الفرس من البلاد، ونجاحها في صد عدة محاولات أخرى لإعادة الاحتلال الفارسي، لكن طاقة المقاومة سقطت في النهاية أمام الجيوش الفارسية القوية.

قمبيز ممسكا ببسماتيك الثالث
 وفي أواخر القرن الخامس قبل الميلاد نجح المصريون في تحرير بلادهم مرة أخرى مؤسسين الأسرات الثلاث الأخيرة المستقلة والتي استمرت تحكم البلاد قرابة سبعين عامًا من سنة 404 إلى سنة 342 ق.م.، وعندما سقطت مصر للمرة الأخيرة في يد الفرس بعد معارك ضارية دافع فيها آخر ملوك مصر المستقلة نختنابو الثاني عن البلاد دفاع الأبطال، وطوال عشرة أعوام كاملة ظلت مصر تقاوم الحكم الفارسي إلى أن دخل الاسكندر الأكبر البلاد بجيوشه فتخلصت مصر من الحكم الفارسي، لتبدأ حقبة جديدة في التاريخ المصري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...