الثلاثاء، 13 مايو 2014


 قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر (5)

قصة التوكيلات التي صنعت الوفد المصري

عماد أبو غازي
 لعبت حملة جمع التوكيلات للوفد المصري الدور الأساسي في تشكيل الحزب وبنائه على أرض الواقع، فقد كانت خطوة ضرورية لاكتساب الشرعية لوجوده من خلال الحصول على توكيل من الأمة بتمثيلها، وكان جمع التوقيعات من المصريين فردًا فردًا سبيل الوفد إلى توحيد الشارع المصري خلف السعي نحو الاستقلال، وكان بداية الطريق إلى ترسيخ قيادة الوفد للأمة، وإبراز سعد زغلول كزعيم للحركة الوطنية المصرية.
 بعد أن أقر الوفد صيغة التوكيل النهائي، انطلقت حركة جمع التوقيع على التوكيلات بطول البلاد وعرضها، ومعها انطلقت روح جديدة في الأمة، كانت البداية لحركة التوقيعات على التوكيلات بعد طبع الصيغة الأخيرة، ووزعت التوكيلات أولًا على أعضاء الهيئات النيابية، ثم امتد توزيعها بين مختلف الجماعات والتجمعات، وسرعان ما انتشرت حركة جمع التوقيعات على التوكيل من القاهرة إلى المدن والقرى في شمال البلاد وجنوبها، وشاعت الحركة بين مختلف طبقات الأمة.
سعد
 ويجمع المؤرخون الذين درسوا ثورة 1919 وأرخوا لها على أن الموقف الوطني لحكومة حسين باشا رشدي ساعد على انتشار الحركة واتساعها، فقد كانت حركة الوفد المصري تتم بالتنسيق الكامل بين سعد وزملائه من ناحية ورئيس الوزراء حسين رشدي وعدلي يكن أهم أركان وزاراته من ناحية أخرى، وكان هناك دعم واضح من الحكومة لحركة التوكيلات، كان الجميع يوقن أن هناك هدفا مشتركا يتمثل في الوصول إلى استقلال البلاد، وإن التكاتف والتعاون والوحدة سبيلًا وحيدًا لتحقيق هذا الهدف.

حسين باشا رشدي
 
 لقد أصدر رئيس الحكومة ووزير الداخلية حسين باشا رشدي تعليمات صريحة إلى مديري الأقاليم بعدم التعرض لحركة التوقيع على توكيل الوفد، ولا شك في أن هذا الموقف دعم الحركة وطمأن الناس ودفعهم للتوقيع على التوكيل بسهولة ويسر.
  وقد قدمت عملية جمع التوكيلات نموذجًا في النضال الوطني السلمي القانوني والسياسي، فعلى الصعيد القانوني أعطى التوكيل مشروعية للوفد في تمثيل الأمة، وعلى الصعيد السياسي وفرت حركة جامعي التوقيعات فرصة أمام أنصار الوفد للاتصال بالجماهير وشرح القضية، وبناء قواعد تنظيمية للوفد في مختلف مديريات مصر، ومن ناحية أخرى كان التوكيل بمثابة عقد التزام بين الوفد وجماهير الشعب ظل يشكل قيدا على كل محاولة للتفريط في حقوق الأمة في المفاوضات السياسية مع بريطانيا، كانت الفكرة عبقرية، وتتبدى عبقريتها في طبيعتها القانونية وقدرتها على حشد الناس في ذات الوقت، فالتوكيل إنابة من الأمة فردًا فردًا للوفد للحديث باسمها في قضية الاستقلال، وحركة جمع التوقيعات على التوكيلات في حد ذاتها دفعت مصر لتتحرك من ثباتها، وكانت فرصة للدعاية للقضية بين الجماهير ولحشدهم خلف زعامة شعبية حقيقية يشعر كل مواطن أنها تمثله فعلًا.
 ويبدو أن سلطات الاحتلال البريطاني لم تدرك للوهلة الأولى خطورة الحركة، ولم تكن تتصور الاستجابة الشعبية الهائلة لسعي الوفد المصري من أجل تحقيق استقلال البلاد، لكن التوكيلات وصلت إلى 2 مليون توكيل في شعب كان تعدده 14 مليونًا، كانت السلطات البريطانية في مصر تكتفي بالمماطلة في الرد على طلب سعد وأعضاء الوفد المصري بالسفر، وتمنيهم بأن الأمر محل دراسة، لكن اتساع حركة التوقيع على التوكيلات وانضمام ضباط الجيش والموظفين العموميين لها، ومباركة الحكومة للحركة دفعت السلطات البريطانية لتغيير موقفها، فقد شعرت سلطات الاحتلال البريطاني بخطورة الحركة فقررت التصدي لها، فأصدر المستر هينز المستشار الإنجليزي لوزارة الداخلية أوامره إلى مديري المديريات باستخدام القوة لمنع حركة التوقيعات وبمصادرة التوكيلات.
 وجاء رد سعد زغلول في رسالة وجهها إلى حسين رشدي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية يوم 23 نوفمبر 1923 أوردها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919، قال فيها:
 "حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء ووزير الداخلية
 أتشرف بأن أرفع لدولتكم ما يلي: لا يخفى على دولتكم أنه على أثر فوز مبادئ الحرية والعدل التي جاهدت بريطانيا العظمى وشركاؤها لتحقيقها، ألفت مع جماعة من ثقات الأمة ونوابها وأصحاب الرأي فيها وفدا لينوب عنها في التعبير عن رأيها في مستقبلها تطبيقا لتلك المبادئ السامية، لذلك شرعنا في جمع هذا الرأي بصيغة توكيل خاص، فوق ما لكثير منا من النيابة العامة، فأقبل الناس على إمضاء هذا التوكيل إقبالًا عظيمًا مع السكينة والهدوء، هذا أقل مظهر نعرفه من مظاهر الإعراب عن رأي الأمة في مصيرها، لكنه قد اتصل بنا أن وزارة الداخلية قد أمرت بالكف عن إمضاء هذه التوكيلات، ونظرا إلى أن هذا التصرف يمنع من ظهور الرأي العام في مصر على حقيقته، فيتعطل بذلك أجل مقصد من مقاصد بريطانيا العظمى وشركائها، وتحرم الأمة المصرية من الانتفاع بهذا المقصد الجليل، ألتمس من دولتكم باسم الحرية والعدل أن تأمروا بترك الناس وحريتهم يتمون عملهم المشروع، وإذا كانت هناك ضرورة قصوى ألجأت الحكومة على هذا المنع، فإني أكون سعيدًا لو كتبتم لي بذلك حتى نكون على بصيرة من أمرنا، ونساعد الحكومة بما في وسعنا على الكف عن إمضاء تلك التوكيلات.
 وفي انتظار الرد تفضلوا يا دولة الرئيس بقبول شكري سلفًا على تأييد مبادئ الحرية الشخصية وعظيم احترامي لشخصكم العظيم.
 الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ورئيس الوفد المصري
سعد زغلول"
 وعندما بلغ قيادات الوفد قيام السلطات بمصادرة التوكيلات الموقعة، أرسل سعد خطابا ثانيا إلى رشدي يوم 24 نوفمبر 1918 يشكو فيه من "أن رجال الحكومة لم يقتصروا على منع التوقيع على التوكيلات بل تجاوزوه إلى مصادرة ما تم التوقيع عليه منها..."
 ووفقا لتفسير الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه "تطور الحركة الوطنية" فإن الهدف من الخطابين كان إثبات واقعة المصادرة أكثر مما كان الهدف منهما وقف إجراءات منع حركة التوكيلات.
 وفي اليوم التالي يوم 25 نوفمبر 1918 رد حسين باشا رشدي على سعد زغلول مؤكدًا أن المصادرة جاءت بأوامر من المستشار البريطاني استنادًا إلى استمرار الأحكام العرفية.
  واستمرت حركة التوكيلات فقد شعر رجال الإدارة أن الحكومة توافق عليها وتساندها فتراخوا في التصدي لها.
 لقد كانت حركة جمع التوقيعات على توكيل الوفد المصري في السعي من أجل استقلال البلاد الخطوة الأساسية على طريق حشد الشعب المصري وتنظيمه في اتجاه الثورة، وكان الوفد المصري قد نجح في حشد الشعب كله حول قضية الاستقلال من خلال تلك الحملة، لذلك عندما صحت مصر يوم 9 مارس على خبر نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة هبت ثائرة، واعتبر كل مصري وقع على التوكيل نفسه جزءًا من الوفد المصري، ومسئولًا عن استعادة الزعماء المنفيين.
 
مشهد من الثورة
 
إنها خبرة من خبرات الشعب المصري التي تكررت مرات عدة وفي كل مرة كانت تثبت نجاحها، وفي تلك المرة كانت إعلان بالميلاد الحقيقي لأكبر حزب في تاريخ مصر.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...