الاثنين، 12 مايو 2014


قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر ( 4 )

الوفد ضمير الأمة

عماد أبو غازي
 في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى لعب التياران الرئيسيان في الحركة الوطنية المصرية من خلال حزبيهما: حزب الأمة والحزب الوطني دورا أساسيًا في تشكيل الوعي السياسي للمصريين، وكان للحزبين الفضل في إعادة النخبة المصرية مرة أخرى إلى المشاركة بإيجابية في العمل السياسي، وحتى عندما قامت الحرب ورغم إعلان الأحكام العرفية وفرض الرقابة على الصحف وتعطيل الجمعية التشريعية أثناء سنواتها الأربع، ظلت الروح الوطنية تنمو ببطء في تربة هيئتها سنوات النضال الوطني والديمقراطي منذ مطلع القرن، سنوات البعث الوطني وتمهيد التربة من أجل المطالبة بالاستقلال والدستور بفضل هذين التيارين، تيار الحزب الوطني وتيار حزب الأمة.
 وكما يقول المؤرخ الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه المهم "تطور الحركة الوطنية في مصر": "إذا كان الحزب الوطني قد غرس في تلك الحقبة من تاريخ مصر بذرة الكراهية للاحتلال ومقاومته في نفوس الشعب، فإن حزب الأمة قد ثبت بدوره أسس القومية المصرية، وألقى بذور الاستقلال عن كل من تركيا وبريطانيا، وبمعنى آخر أنه بينما كان عمل الحزب الوطني قائمًا على هدم الاحتلال، كان عمل حزب الأمة قائما على بناء أسس مصر الحديثة المستقلة، وواضح أن العمليتين: الهدم والبناء يكمل كل منهما الآخر".
 لقد مهد الحزبان الأرض فأثمر زرعهما الثورة المصرية الكبرى في القرن العشرين، ثورة 1919، وتلقى راية القيادة منهما تشكيل جديد ظل الفاعل الأساسي في الحياة السياسية المصرية حتى هزيمة الديمقراطية في أزمة مارس 1954؛ إنه الوفد المصري.
 وترجع قصة تأسيس الوفد المصري إلى شهر نوفمبر سنة 1918، فمع نهاية الحرب حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم تكن تتوقعه سلطات الاحتلال، فقبل أن تنتهي الحرب اتفق سعد باشا زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وزعيم المعارضة بها وزميليه في الجمعية عبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا على أن يطلبوا من دار الحماية تحديد موعد لهم ليقابلوا السير رجنلد وينجت المندوب السامي البريطاني للتحدث إليه في طلب الترخيص لهم بالسفر إلى لندن لعرض مطالب البلاد على الحكومة الإنجليزية.
 وقبل أن تعلن الهدنة بساعات تقدم سعد ورفيقيه يوم الاثنين 11 نوفمبر بطلبهم إلى دار الحماية بوساطة من حسين باشا رشدي رئيس الوزراء، فاستجابت دار الحماية لطلبهم وحددت لهم موعدًا يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 الساعة الحادية عشر صباحًا، وقابلوا المعتمد البريطاني ودار بينهم حوار طويل استمر لمدة ساعة، حاول خلالها وينجت إثناء الرجال الثلاثة عن مطالبهم مقدمًا الحجة وراء الحجة، وفندوا هم دعاواه الواحدة بعد الأخرى، وأكد عبد العزيز بك فهمي على مطالب الأمة قائلا: "نحن نطلب الاستقلال التام".... وأكد على أن للحزب الوطني وحزب الأمة هدف واحد وطريقين مختلفين للوصول إليه.
 

جدارية 13 نوفمبر 1918 قاعدة تمثال سعد زغلول بالإسكندرية لمختار
 وبعد أن انتهى اللقاء توجه الزعماء الثلاثة إلى وزارة الداخلية لمقابلة حسين رشدي باشا في مكتبه بالوزارة وأبلغوه بما دار في اللقاء، وكان رشدي باشا قد أعد في نفس اليوم خطابًا للسلطان أحمد فؤاد يستأذنه فيه السماح له ولعدلي يكن باشا بالتوجه إلى لندن للسعي نحو تحقيق استقلال مصر، وفي نفس اليوم أيضًا التقى رشدي بالسير ونجت، فتسأل الأخير كيف يتحدث ثلاثة رجال باسم الأمة؟
 ومن هنا جاءت فكرة تأسيس الوفد المصري، فعندما علم سعد من رشدي باشا ما دار في لقائه مع ونجت اجتمع مساء 13 نوفمبر 1918 مع رفيقيه للتشاور في أسلوب يثبت جدارتهم بتمثيل الأمة، فاتفقوا على تأليف هيئة تسمى الوفد المصري في إشارة إلى أنها وفد مصر للمطالبة باستقلالها، وأن تحصل هذه الهيئة على توكيلات من الأمة تمنحها بمقتضاها هذه الصفة وتفوضها للحديث باسمها.
 استغرق تأسيس هيئة الوفد المصري عشرة أيام بين 13 و23 نوفمبر سنة 1918، وتألف الوفد في تشكيله الأول يوم 13 نوفمبر برئاسة سعد زغلول باشا وعضوية علي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك وعبد اللطيف المكباتي ومحمد علي علوبة بك، وكانوا جميعًا أعضاء في الجمعية التشريعية باستثناء محمد محمود وأحمد لطفي السيد، كما كان أغلبهم من الميالين لتيار حزب الأمة باستثناء محمد علي علوبة عضو اللجنة الإدارية للحزب الوطني وعبد اللطيف المكباتي المؤيد لتيار الحزب الوطني، واتفق أعضاء الوفد على قانونه الذي تضمنت مادته الأولى أسماء أعضاء الوفد، ونصت مادته الثانية على أن مهمة الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة، حيثما وجد للسعي سبيلًا، في استقلال مصر استقلالًا تامًا، وقررت المادة الثالثة من القانون أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأسًا أو بواسطة من يمثلونهم بالهيئات النيابية، كما أشار القانون في مادته الثامنة إلى أن للوفد أن يضم إليه أعضاء جدد، الأمر الذي حدث بالفعل خلال الأيام والأسابيع التالية، فقام سعد بضم كل من مصطفى النحاس بك والدكتور حافظ عفيفي بك على اعتبار أنهما يمثلان الحزب الوطني فقد كانا من المعتنقين لمبادئه حسب تعبير الرافعي، وضم شخصيات أخرى تمثل عناصر مختلفة من الأمة هم: حمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمود بك أبو النصر وسنيوت حنا بك وجورج خياط بك وواصف غالي بك وحسين واصف باشا وعبد الخالق مدكور باشا، وقد صدق الأعضاء على قانون الوفد في 23 نوفمبر سنة 1918.
 لم يكن الوفد المصري بهذه الصورة التي بدأ بها حزبًا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل جماعة من الساسة تنوب عن الأمة وتمثلها في المطالبة باستقلالها، فقد عرفت مصر الأحزاب السياسية بشكل جنيني في سبعينيات القرن التاسع عشر، ثم عرفت التشكيلات الحزبية المكتملة في العقد الأول من القرن العشرين بتأسيس حزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية والحزب الوطني، بالإضافة إلى عدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى، ولم يكن الوفد عندما قام حزبًا على شاكلة هذه الأحزاب، كان تجمعًا من الساسة حول هدف واحد محدد وبرنامج من نقطة واحدة هي السعي من أجل استقلال مصر استقلالًا تامًا.
 عندما تأسس الوفد كان الحزب الوطني لا يزال قائما رغم ملاحقة سلطات الاحتلال لقادته أثناء الحرب، وكان رجال حزب الأمة قد تحولوا إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والثقافية بعد إغلاق جريدة الحزب سنة 1915، وتحول بعض شبابهم إلى الكتابة في مجلة السفور، وعقب الحرب وتأسيس الوفد شكل مجموعة من هؤلاء الشباب الحزب الديمقراطي المصري، وحاولوا الانضمام للوفد، لكن مسعاهم لم يكلل بالنجاح فلم يكونوا قد أعلنوا عن حزبهم بشكل رسمي بعد، ولم يقبلهم سعد في الوفد رغم قربهم من تيار حزب الأمة سياسيًا وفكريًا، وانتمائهم بدرجة أو أخرى إلى مدرسته.
 وتم الاتفاق على صيغة التوكيل التي أصبحت ميثاقا للوفد في نضاله الوطني، التي جاء فيها: "نحن الموقعين على هذا أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا في استقلال مصر استقلالًا تامًا".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...