الثلاثاء، 27 مايو 2014



قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر (6)

الوفد يقوى بتطهير صفوفه
عماد أبو غازي
 لقد بدأ الوفد المصري في نوفمبر 1918 كمجموعة من الشخصيات السياسية موكلة من الأمة للسعي من أجل استقلال البلاد، ورغم وجود لائحة أو قانون ينظم عمل الوفد المصري إلا أنه لم يكن في بدايته حزبًا بالمعنى المتعارف عليه للأحزاب السياسية، ومع حركة جمع التوكيلات بدأ جسد الوفد يتشكل بامتداد مصر من أقصاها إلى أقصاها، وأصبح جامعو التوقيعات على التوكيلات نواة لأعضاء لجان الوفد في مختلف محافظات مصر، وربما يكون الميلاد الحقيقي للوفد كحزب قد جاء مع الثورة، ثورة 1919 التي تفجرت عقب نفي سعد زغلول ورفاقه، وأثناء الثورة سواء في مرحلتها الأولى التي استمرت لأسابيع قليلة وشملت البلاد كلها، أو في مرحلتها الثانية الهادئة التي استمرت لسنوات تشكلت لجان الوفد، كما تشكلت لجنته المركزية في أبريل 1919 لدعم مهمة الوفد المصري في باريس، أما الجهاز السري للوفد الذي قاده عبد الرحمن بك فهمي ولعب دورًا أساسيًا في نجاح الثورة، فقد نشأ في خضم الثورة واستمر بعدها بسنوات.

 عبد الرحمن بك فهمي


 لقد تشكل الوفد حول برنامج من نقطتين، أو بمعنى أدق حول مطلبين، الاستقلال والدستور، نفس ما ظلت الحركة الوطنية المصرية تطالب به طوال نضالها المتواصل، لقد تشكل الوفد المصري من أشخاص ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة جمع بينهم العمل من أجل استقلال مصر وحصولها على دستور يحقق إدارة الشعب لأموره.
 وحزب من هذا النوع لا يصمد طويلا بهذا التشكيل الذي يضم تنويعات غير منسجمة من السياسيين، كان من الممكن أن يكون هذا التكوين الذي بدأ به الوفد المصري سببًا في انهياره، لو كانت يد قيادة الوفد مرتعشة تسعى إلى إرضاء الجميع، كان من الممكن أن يتحول الوفد إلى ساحة للصراع المدمر للحزب وللوطن وثورته فقد كان الوفد حلم المصريين وأملهم في الخلاص، لكن القيادة القوية الحازمة لسعد زغلول ومن بعده مصطفى النحاس أنقذت الوفد المصري من هذا المصير، وجعلته جديرًا بأن يكون حزبًا يلتف حوله الشعب المصري من أجل تحقيق الجلاء والحصول على الدستور ثم حمايته، لم يخش قادة الوفد من الانشقاقات في الوفد مهما كانت قامة وقيمة من قاموا بها، خرجت من الوفد ثلاثة أحزاب قادها ساسة وزعماء كبار، ومضى الوفد في طريقه حزب الأغلبية الساحقة في أي انتخابات نزيهة جرت في مصر منذ دستور 1923 حتى انقلاب يوليو 1952.
 لم يهتز سعد زغلول أو يضعف أمام ضغوط بعض أعضاء الوفد البارزين الذين حاولوا الانحراف بالحزب عن طريق الثورة، ولم يخشى من اتخاذ اجراءات صارمة وحازمة تجاه من خرجوا عن مبادئ الوفد. كانت القرارات سريعة وحازمة منذ الأشهر الأولى لتأسيس الوفد، فقبل أن يمضي عام على تأسيس الوفد المصري قرر الوفد في يوليو سنة 1919 ومصر ما زالت تعيش في ظلال الثورة، قرر الوفد المصري اعتبار صدقي باشا ومحمود بك أبو النصر منفصلين عن عضويته، وذلك لما نسب إليهما من مخالفتهما مبدأ الوفد وخطته، ثم تم فصل حسين واصف باشا، ويعتبر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أن هذا كان أول انشقاق في الوفد. فهل أعاق هذا القرار مسيرة الوفد؟ الإجابة بالنفي، بل على العكس كان التخلص من إسماعيل صدقي رغم أنه أحد المنفين مع سعد باشا إلى مالطة، مصدر قوة للوفد فقد كان صدقي باشا دومًا ميالًا للتحالف مع القصر.
 
إسماعيل باشا صدقي  
وإذا كان الانشقاق الأول صغير الحجم والتأثير، فإن الانشقاق الثاني كان أكبر وأخطر تأثيرًا، ففي فبراير سنة 1921 أبلغت الحكومة البريطانية السلطان فؤاد بنيتها إنهاء الحماية على مصر وصياغة شكل جديد للعلاقة بين البلدين، وبناء على ذلك كلف السلطان فؤاد عدلي يكن باشا بتأليف الحكومة في مارس، فقام الأخير بإبلاغ سعد زغلول بنية حكومته خوض مفاوضات مع بريطانيا، فقرر سعد العودة إلى مصر ووضع مجموعة من الشروط لاشتراك الوفد المصري مع الحكومة في عملية التفاوض مع بريطانيا، وتتلخص هذه الشروط في أن يكون الهدف من المفاوضات إنهاء الحماية تماما، والاعتراف بالاستقلال التام لمصر، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحافة قبل الدخول في المفاوضات، وأن يرأس سعد فريق المفاوضين ويكون أغلب أعضاؤه من الوفد المصري، وأخيرا أن يصدر مرسوم سلطاني متضمنا هذه الشروط، وكان سعد يرى أن هذه الشروط تتوافق تماما مع التوكيل الذي يحمله الوفد من الأمة.



عدلي باشا
 وافق عدلي يكن على الشرطين الأولين، كما ألغى الرقابة على الصحف، أما الأحكام العرفية فلم يكن بمقدوره إلغائها حيث أن السلطة العسكرية البريطانية هي التي قررتها، لكن بقيت مسألة رئاسة وفد المفاوضات حجر عثرة أمام اتفاق سعد وعدلي، فقد أصر عدلي على أن الأعراف والتقاليد تقتضي أن يتولى رئيس الحكومة رئاسة أي وفد للمفاوضات ما دام مشاركا فيه، بينما كان سعد يرى أن حكومة عدلي ليست حكومة دستورية منتخبة بل حكومة معينة من سلطان عينته سلطات الحماية البريطانية وبالتالي ليس لرئيسها الحق في رئاسة وفد المفاوضات الذي ينبغي أن يمثل الأمة.

واجتمعت هيئة الوفد يوم الخميس 28 أبريل 1921، لمناقشة الموقف، فرأت الأغلبية عدم الاشتراك في المفاوضات مع عدم محاربة الوزارة العدلية، لكن سعد تمسك بموقفة وأصر على ضرورة سحب الثقة من الحكومة، خصوصًا بعد المضايقات التي تعرض لها هو وأعضاء الوفد في جولتهم بأقاليم مصر من قبل الحكومة، فاستقال علي باشا من الوفد، ووجه كل من محمد باشا محمود وحمد الباسل وعبد اللطيف المكباتي وأحمد لطفي السيد ومحمد علي علوبة رسالة مفتوحة إلى سعد زغلول نشروها في الصحف، فرد سعد في اليوم التالي ببيان للأمة أعلن فيه فصل الأعضاء المخالفين دون تردد لأنهم بادروا بنشر الخلاف الحزبي الداخلي على الرأي العام، رغم أن من بينهم علي باشا شعراوي أحد رفيقي سعد في لقاء المعتمد البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918.
 سرعان ما انضم إلى المنشقين المفصولين في موقفهم كل من: عبد العزيز فهمي وحافظ عفيفي وعبد الخالق مدكور، ثم استقال جورج بك خياط في يونيو، وكان هؤلاء المنشقون النواة التي ألتف حولها خصوم سعد ليشكلوا في أكتوبر 1922 حزب الأحرار الدستوريين، ورغم أن الحزب ضم أبرز قادة الوفد المصري وغيرهم من الساسة البارزين إلا أن حزب الأحرار الدستوريين حصل في انتخابات أول برلمان عقب دستور 23 على ستة مقاعد فقط من 214 مقعدًا، وفاز حزب الوفد بتسعين في المئة من المقاعد.  لقد خرج في هذا الانشقاق الكبير معظم أعضاء الوفد المصري، ولم يبق مع سعد سوى مصطفى النحاس وواصف بطرس غالي وسينوت حنا وويصا واصف وعلي ماهر، وكما يقول عبد الرحمن الرافعي: "إن كانوا من جهة العدد أقلية في الوفد بالنسبة للأعضاء المنشقين إلا أن شخصية سعد اجتذبت إلى جانبه الغالبية العظمى من الأمة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...