الجمعة، 13 ديسمبر 2019

الترجمة إلى العربية في مصر - نظرة تاريخية



الترجمة إلى العربية في مصر

نظرة تاريخية
(كلمتي في احتفال مركز دراسات الترجمة بعشر سنوات على تأسيسه 10 ديسمبر 2019)




 منذ مطلع القرن التاسع عشر صاحبت كل محاولات التحديث في مصر مشروعات طموحة للترجمة، كانت تهدف بشكل أساسي إلى نقل أحدث ما صدر في الغرب من إنتاج فكري، باعتبار أن الغرب أضحى مركزًا لحضارة عصر الثورة الصناعية.
 وقد ارتبط المشروع الأول للترجمة بمحاولة محمد علي لبناء أسس الدولة الحديثة، وكان مشروعًا تأسيسيًا رائدًا، ساهم فيه المبعوثون الذين أوفدهم إلى أوروبا لتلقي المعارف الحديثة، وحمل عبء التخطيط لهذا المشروع وإرساء قواعده رائد الفكر المصري الحديث رفاعة الطهطاوي، الذي أنشأ مدرسة الألسن لتكون أول مؤسسة تعليمية حديثة متخصصة في إعداد المترجمين وتأهيلهم لنقل معارف الغرب الحديثة إلى العربية، وسرعان ما انضم خريجو المدرسة (مدرسة الألسن) إلى المبعوثين الأوائل في القيام بمهام الترجمة.
 لكن المشروع لم يقم على أكتاف المبعوثين وخريجي الألسن وغيرها من مدارس محمد علي العليا فحسب بل شارك فيه كذلك بعض موظفي الدولة ممن يجيدون اللغات الأجنبية خاصة التركية التي ترجمت عنها بعض الكتب، بالإضافة إلى بعض المترجمين الشوام.
 لقد شهد عصر محمد علي تحولًا لوظيفة المترجمين من ترجمة المراسلات والوثائق في دواوين الدولة المختلفة ومحاكمها، إلى ترجمة الإنتاج الفكري في مختلف مجالات المعارف الإنسانية، وهو الأمر الذي يعد وصلًا لما انقطع من تراث في الحضارة العربية، فقد ازدهرت حركة الترجمة ونشطت في القرون الأولى للهجرة، ولا جدال في أن الترجمة لعبت دورًا مهمًا في تطور الثقافة العربية وازدهارها، وقد بدأت جهودها الأولى في العصر الأموي بجهود خالد بن يزيد بن معاوية الذي استعان بمترجمين من السريان والأقباط والفرس لنقل التراث العلمي إلى العربية، ثم في عهد الخليفة العباسي المأمون، كذلك في زمن الدولة الفاطمية في مصر، عندما ترجمت إلى العربية معارف الإغريق والفرس والهنود والسريان وعلومهم، فنهضت الثقافة العربية الإسلامية، وأضحت اللغة العربية لغة الثقافة والعلم في العالم القديم؛ حيث امتلأت دور الحكمة ومكتبات القصور ومعاهد العلم بهذه الترجمات جنبًا إلى جنب مع مؤلفات الكُتَّاب العرب، ومع انكسار الدولة العربية الإسلامية وتراجعها السياسي والحضاري تراجعت حركة الترجمة إلى العربية، إلى أن جاء مشروع محمد علي التحديثي متضمنًا في القلب منه مشروعًا للترجمة.
 وإذا عدنا للدراسة القيمة التي أنجزها سنة 1946 المؤرخ المصري الدكتور جمال الدين الشيال حول تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي سوف يتبين لنا من خلال الجداول الإحصائية والرسوم البيانية التي قام بإعدادها عدة حقائق، أولها: إن مجموع ما ترجم خلال عصر محمد علي كان مئة وواحدًا وتسعين كتابًا، تسعة كتب منها ترجمت نقلاً عن العربية إلى اللغة التركية، وواحد وستون كتابًا نقلت عن الفرنسية إلى التركية معظمها في الفنون الحربية والبحرية، والباقي وعدده مئة وواحد وعشرون كتابًا نقلت إلى العربية، وثانيها: أن اللغة التركية تحتل المرتبة الثانية بفارق كبير حيث ترجم عنها إلى العربية ستة كتب نصفها في الفنون الحربية والبحرية، وتأتى اللغة الإيطالية في المرتبة الثالثة برصيد ثلاثة كتب ثم الترجمة عن الفارسية كتاب واحد، ثالث هذه الحقائق: أن المؤلفات التي تتناول فنون حرب تأتي في المرتبة الأولى في الترجمة حيث ترجم في هذا المجال 64 كتابًا يليها الطب 34 كتابًا ثم الطب البيطري 22 كتابًا فالتاريخ 14 كتابًا والهندسة عشرة كتب، أما باقي ما ترجم في فروع المعارف الإنسانية المختلفة فيتراوح ما بين كتاب وخمسة كتب في كل فرع، وهذا يوضح مدى ارتباط مشروع الترجمة في عصر محمد علي بمشروعه العسكري.
 وقد بلغت حركة نشر الأعمال المترجمة ذروتها في مطلع الأربعينيات من القرن التاسع عشر، وأخذت بعد ذلك في التراجع، وقد طبع من الأعمال المترجمة 187 كتابًا وظلت أربعة منها كتبًا مخطوطة، وكان النصيب الأكبر في طبع الكتب المترجمة لمطبعة بولاق التي طبعت وحدها 171 كتابًا من الأعمال المترجمة.
 وإذا كان مشروع محمد على للترجمة قد تراجع بانهيار مشروعه السياسي وهزيمته العسكرية، ثم كاد أن يتوقف بعد وفاته فتراجعت حركة الترجمة كحركة منظمة وأصبحت قائمة على الجهود الفردية، لكن مع الصحوة الوطنية في بداية القرن العشرين ظهرت إلى الوجود مشروعات جديدة للترجمة نهضت بها مجموعات من المفكرين والكتاب فقد عرفت مصر مشروعات متعددة للترجمة كانت تبدأ وتختفي مع كل محاولات التحديث.
 ولعل من أبرز مشروعات الترجمة في القرن العشرين جهود لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي أسسها مجموعة من خريجي مدرسة المعلمين العليا ومدرسة الحقوق وانتخبت أحمد أمين رئيسًا لها، وكانت أقرب في تشكيلها إلى تعاونية لنشر الأعمال المؤلفة والمترجمة، وقد واصلت جهودها في الترجمة على مدى عشرات السنوات وأصدرت أعمالًا مهمة.
 وفي عام 1935 تأسست لجنة الجامعيين لنشر العلم، التي تبنت هي الأخرى مشروعًا للترجمة، كانت باكورة انتاجه ترجمة كتاب تراث الإسلام في مجلدين صدرا عام 1936، وقد وضعت اللجنة هدفًا لها نشر الثقافة العليا بين الناطقين بالضاد، ثم محاولة تعريب الثقافة الغربية، والتعريف بمنتجات العقل الحديث للاستفادة منها والإضافة إليها بقدر الإمكان؛ وحددت اللجنة من بين أهدافها محاولة تتبع الفكر الإنساني في تطوره واشتراكها مع الباحثين في جميع الأقطار للوصول إلى الحقيقة المجردة، ولم تكن للجنة خطة محددة في الترجمة كما يقول بيانها الأول فهي تسعى إلى تقديم عصارة الفكر الإنساني بغير تحديد؛ ومما يميز لجنة الجامعيين للنشر العلمي سعي أعضائها للتأليف باللغات الأوروبية لتقديم الفكر المصري للعالم.
 وفي عام 1938 أصدر طه حسين كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، وخصص فصلًا طويلًا من فصوله للترجمة ومشكلاتها، ويلوم الدولة على تقصيرها الشديد في العناية بالترجمة، ويقدم بعض المقترحات التي يدعو الحكومة لتبنيها تشجيعًا للإبداع والتأليف والترجمة، من بينها أن تؤسس وزارة المعارف مكتبًا للترجمة، ويقترح خطة لعمل هذا المكتب، ويعتبر أن إهمالنا للترجمة يعد مظهرًا من مظاهر التقصير المخزي، ويشير إلى أننا نتحدث عن مجد العرب الأقدمين في الترجمة ولا نحذو حذوهم، ويتساءل: "إننا لا نترجم؛ وكيف نترجم إذا كنا لا نقرأ؟ وكيف نقرأ إذا كنا لم نتثقف الثقافة التي تجعل القراءة مقومًا لحياتنا اليومية؟
 وفي عام 1943 أسس عبد الحميد جودة السحار ومجموعة من الشباب "لجنة النشر للجامعيين"، التي نشرت روايته ورواية نجيب محفوظ الأولى، وكان من بين إصداراتها بعض الأعمال المترجمة، من أولاها مسرحية الأب للأديب السويدي سترندبرج التي ترجمها وديع فلسطين وظهرت في عام 1945.
 إلا أن أيًا من هذه المشروعات لم يقدر له الاستمرار طويلًا باستثناء لجنة التأليف والترجمة والنشر.
 وفي الخمسينيات والستينيات ظهر إلى الوجود مشروع «الألف كتاب» الذي قام بإشراف وزارة التعليم وشاركت فيه دور نشر متعددة، وكانت فكرته قريبة من بعض ما طرحه طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر؛ حيث يستخدم المشروع ميزانية التزويد بوزارة التربية والتعليم في تكليف دور النشر الخاصة بنشر مؤلفات ومترجمات في مختلف مجالات المعرفة، وقد ترجم المشروع بالفعل مئات الكتب المهمة في مختلف مجالات المعرفة؛ لكنه لم يكتمل ولم يحقق طموح مؤسسيه في الوصول إلى الرقم 1000، فضلًا عن أنه ضم أعمالًا مترجمة وأخرى مؤلفة.
 وقد تباطأت حركة الترجمة في مصر في السبعينيات والثمانيات لتعود مرة أخرى للانتعاش منذ تسعينيات القرن الماضي؛ ففي السنوات الأخيرة من القرن العشرين والسنوات الأولى من هذا القرن ظهرت على الساحة الثقافية في مصر عدة سلاسل للترجمة، تصدر عن هيئات مختلفة في وزارة الثقافة، مثل سلسلة الألف كتاب الثاني التي صدرت عن هيئة الكتاب، وسلسلة آفاق التي تصدرها هيئة قصور الثقافة وسلسلة أكاديمية الفنون للترجمة، كما تبنت بعض المراكز الثقافية الأجنبية مشروعات لدعم الترجمة من لغات بلادها إلى اللغة العربية تشارك فيها العديد من دور النشر الخاصة والحكومية.
 وفي سنة 1995 ظهر "المشروع القومي للترجمة" الذي بدأ اصداره من المجلس الأعلى للثقافة، مستهدفا نقل أهم ما يصدر من إنتاج فكري في مختلف مجالات المعرفة من مختلف اللغات إلى القارئ العربي سعيًا إلى تحقيق التواصل الثقافي والحوار الحضاري الإنساني، وقد بدأ المشروع على استحياء بإصدار آحاد من الكتب في العام الواحد، لكنه أخذ ينضج ويتطور بسرعة بفضل جهود عشرات من المترجمين المخلصين وإصرار الأمين العام للمجلس وقتها د. جابر عصفور ومثابرته ووقوفه خلف هذا المشروع بكل قوة؛ ثم تحول المشروع إلى مركز قومي للترجمة؛ وقد صدر عن المشروع خلال وجوده في المجلس الأعلى للثقافة 1000 كتاب في عشرة أعوام، وتجاوز عدد الإصدارات الآن بعد انتقال المشروع إلى المركز ثلاثة آلاف عنوان؛ نقلت من ثلاثين لغة بعضها لغات يترجم عنها إلى العربية مباشرة للمرة الأولى، فأحد الخصائص المميزة لهذا المشروع، أن الأعمال التي تصدر فيه، تنقل إلى العربية عن لغاتها الأصلية مباشرة، وقد حرص القائمون على المشروع على كسر احتكار الترجمة عن اللغات الأوروبية الرئيسية الإنجليزية والفرنسية ثم الألمانية، وإذا استعرضنا الأعمال الصادرة في هذا المشروع فسوف نجد أن حوالي ثلثها مترجمًا عن الإنجليزية والباقي عن لغات غربية وشرقية متنوعة منها: الإسبانية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية والبولندية والفنلندية والأرمينية واليونانية من اللغات الأوروبية، والفارسية والعبرية والأردية والتركية واليابانية والصينية من اللغات الشرقية، ولغات الهوسا والكوسا والسواحيلي والأمهرية من اللغات الإفريقية، هذا فضلًا عن بعض اللغات القديمة مثل المصرية القديمة والسريانية واليونانية القديمة اللاتينية والتركية العثمانية، وهكذا اقتحم المشروع أسوار لغات يترجم عنها إلى العربية مباشرة للمرة الأولى في العالم العربي.
 وإذا كانت الغالبية العظمى من المترجمين في المشروع القومي للترجمة من مصر، فقد شارك في أعمال المشروع مترجمون من سبع دول عربية، المغرب والعراق والسعودية والأردن ولبنان وسوريا وفلسطين، فقد حرص القائمون على المشروع على الانفتاح على مختلف مدارس الترجمة العربية، دون الاقتصار على المدرسة المصرية، إثراء للمشروع وتدعيمًا للتفاعل بين المترجمين العرب، ومن الملاحظ أن بعض الأعمال الكبرى الصادرة في إطار المشروع القومي للترجمة شارك في ترجمتها أكثر من مترجم.
 والمراجعة الأولية لعناوين الإصدارات تكشف عن تنوع في موضوعاتها، ما بين أعمال إبداعية، من روايات ومجموعات قصصية، ودواوين ومسرحيات ونصوص من الآداب القديمة، ودراسات نقدية ولغوية، وأعمال تندرج تحت مختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيات، بالإضافة إلى بعض المؤلفات في مجال العلوم البحتة والتطبيقية، ويحرص المشروع القومي للترجمة على الموازنة بين نقل أحدث ما يصدر في الغرب والشرق من أعمال ونقل الأعمال الكلاسيكية أو التأسيسية التي لم تترجم من قبل.
 هذا عن مصر؛ لكن العالم العربي شهد في السنوات العشرين الأخيرة بزوغ عدد من مشروعات الترجمة ومؤسساتها ومراكزها؛ فهل تنجح مثل هذه المشروعات في تغير الصورة الكئيبة لوضع الترجمة إلى العربية؟ وهل تسهم في زيادة نصيب العالم العربي من الترجمة؟ وهل يمكن أن تلعب الترجمة دورًا في تجاوز الأزمة المعرفية العربية الراهنة؟  
 إذا كانت الترجمة قد ظلت عبر العصور ضرورة لازمة لتحقيق النهضة في كل المجتمعات الساعية إلى التطور، فقد تزايدت ضرورتها في عصر مجتمع المعرفة وثورة المعلومات والاتصالات، وصارت شرطًا من شروط سد الفجوة المعرفية بين المجتمعات.

هناك تعليقان (2):

  1. دراسة منهجية جادة ورصينة ؛ راصيدة لمحطات الترجمة في مصر بداية من جهود مصرية مرورا بجهود شامية مصرية مارست مراحلها ترجمة داروينية ووثائقية رسمية وارتقت مصاف الترجمة الفكرية لأعمال أجنبية أوروبية وريت عند محطة المجلس الأعلي للثقافة في مرحلة التألق الإداري المستهزئ ببرنامج ورؤية ثقافية تنويرية لتسلم راية المشروع الطموح الي المركز القومي الترجمة بالوزارة
    كنا نأمل في بعض النتائج المفصلة عما حققته هذه المراحل في مسرة الترجمة في مصر ونماذج من أعلام كل مرحلة ووإطارا تقويميا لجهود أبرز المترجمين ومدي توافق الترجمة مع الثقافة العربية في مصر

    ردحذف
  2. مساء الخير يا دكتور أبو الحسن
    شكرا على تعليقك
    ربما في دراسة مطولة اتناول هذه الأمور يالتفصيل
    لكن المطلوب هنا كان كلمة في حدود خمس دقائق في اطار الاحتفال بمرور عشر سنوات على تأإسيس مركز دراسات الترجمة فلم يكن هناك مجال للاستفاضة
    تحياتي

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...