الأحد، 12 يناير 2020

إبراهيم فتحي – كبيرنا الذي علمنا


شهادة
إبراهيم فتحي – كبيرنا الذي علمنا .......

عماد أبو غازي

 عرفت عن إبراهيم فتحي قبل أن أعرفه؛ سمعت باسمه للمرة الأولى وأنا طالب في السنة الثانية في كلية الآداب بجامعة القاهرة خلال العام الدراسي 1973/1974 عندما كان مقبوضًا عليه مع عدد من رفاقه في القضية المعروفة بقضية الإسكندرية، وكنا وقتها في سياق أنشطتنا في الحركة الطلابية ننظم حملات للتضامن مع كل المعتقلين وسجناء الرأي.


بعدها بدأت أتعرف على كتابته النقدية؛ وكان أول ما قرأته له دراسته عن ديوان "مدخل إلى الحدائق الطاغورية" للشاعر عزت عامر، تلك الدراسة التي ذيلت الديوان الصادر في مطلع السبعينيات وكانت تحمل عنوان: "الخروج من الحدائق الطاغورية"، كنت قد استمعت لأشعار عزت عامر مرات عدة في الندوات الشعرية التي كانت تنظمها الأسر الطلابية في جامعة القاهرة وتستضيف فيها شعراء يعبرون عن تيار جديد في الشعر المصري وكان عزت واحدًا منهم؛ وقد اقتنيت الديوان إعجابًا بشعر عزت عامر؛ وعندها استمتعت بدراسة إبراهيم فتحي عن الديوان، فقد كانت معبرًا لفهم أكثر عمقًا للديوان، كما كانت دراسة كاشفة عن ناقد متحرر من القوالب الجامدة التي وقع في أسرها نقاد مدرسة الواقعية الاشتراكية، ثم كان لقائي الثاني بكتاباته النقدية من خلال كتابه الرائع عن نجيب محفوظ؛ "العالم الروائي عند نجيب محفوظ"، في طبعته التي صدرت عن دار الفكر المعاصر في عام 1978 على ما أذكر؛ وكان زميل دراستي في قسم التاريخ مجدي العليمي نصحني بقراءته، وقد أكدت الدراسة النقدية التي قدمها إبراهيم فتحي لعالم نجيب محفوظ الروائي في هذا الكتاب ما خرجت به من انطباع عن إبراهيم فتحي ناقدًا متحررًا من الجمود الفكري والعقائدي؛ حرصت بعد ذلك على متابعة ما يكتبه إبراهيم فتحي من دراسات نقدية؛ سواء تلك الدراسات النظرية، أو كتاباته في النقد التطبيقي التي قدم بها وذيل بها أيضًا عددًا من الأعمال الإبداعية لأصدقاء من جيلي.

 بين قراءتي لهذين النصين الأولين في النقد الأدبي: الخروج من الحدائق الطاغورية والعالم الروائي لنجيب محفوظ كنت قد قرأت كتابات إبراهيم فتحي السياسية المؤسسة لخط جديد في الحركة الشيوعية المصرية، والتي أثرت تأثيرًا كبيرًا في تحديد مواقف قطاع مهم من اليسار العربي، تلك النصوص التي قدم فيها تحليلًا نظريًا لطبيعة السلطة وقضية التحالف الطبقي في مصر، قدمت هذه الكتابات إجابات حددت اختيارات الكثيرين في حركة اليسار المصري، ووضعت أقدامنا على الطريق؛ بالنسبة لي كان هذا التحليل للطبيعة الطبقية للسلطة السياسية في الخمسينيات والستينيات حاسمًا في انتمائي لليسار؛ ولم أكن أعرف وقتها أن صاحب هذه النصوص هو إبراهيم فتحي الذي أحببته ناقدًا متميزًا بين أقرانه، فلم تكن الطبعة الأولى من هذه الكتابات تحمل اسم مؤلفها؛ وعندما عرفت بعد ذلك أنه كاتبها ازداد تقديري له وعلت مكانته عندي، وتعرفت على أفكاره وعلى دوره السياسي ومواقفه خلال سنوات نضاله الممتدة.


 رأيت إبراهيم فتحي لأول مرة في الثمانينيات، كان إبراهيم فتحي الحقيقي مختلفًا عن الصورة التي رسمتها له في ذهني، لا أعرف لماذا كنت دائمًا أتصوره أسمر طويل القامة له شعر مجعد وشارب كثيف وصوت جهوري به حدة، لكني رأيته هادئًا ودودًا لا علاقة له بالصورة التي رسمتها في ذهني، أحببت إبراهيم الحقيقي أكثر.


 رأيته مرات عدة في إطار مشاركته في ندوات ثقافية كنت أحضرها، واستمتعت بالاستماع إلى مداخلاته كما أشبعتني فكريًا كتاباته من قبل؛ لكن معرفتي المباشرة والوثيقة به جاءت مع عملي في المجلس الأعلى للثقافة في ربيع عام 1999، حيث كان حضوره الدائم مميزًا من خلال أنشطة لجنة القصة بالمجلس، وبالمشاركة الفعالة بأبحاثه في مؤتمرات المجلس وندواته المحلية والدولية، ثم ترجماته التي أثرت المشروع القومي للترجمة.


 سمحت لي هذه العلاقة أن أهديه أحد كتبي بعد تردد طويل، كنت أخشى من أن يكون تقيمه للكتاب سلبيًا، وكان انتظاري لحكمه على كتابي أصعب من انتظاري لرأي لجنة المناقشة والحكم لرسالتي للدكتوراه، والكتاب كان في الأصل فصل من فصول الرسالة يتضمن نتائجها حول تطور الحيازة الزراعية في عصر المماليك، ورغم أن الرسالة أجيزت قبلها بسنوات من لجنة علمية من أبرز المتخصصين، إلا أن حكم إبراهيم فتحي بالنسبة لي كان اختبارًا آخر وكان اجتيازه بنجاح يعني الكثير لي؛ وبعد بعد أن ألتقينا بعدها بسنة وشهور كانت كلماته في الثناء على الكتاب الشهادة التي أعتز بها فهي من الرجل الذي تعلمت من أفكاره منهج فهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع قبلها بسنوات.


مرة ثانية وقفت أمامه في موقف التلميذ أمام أستاذه عندما دعيت لإلقاء محاضرة عن الفن والتغيير في المركز الثقافي المصري في لندن في مارس 2014؛ كانت المفاجأة أنه كان بين الحضور مع زوجته ورفيقة رحلته الدكتورة هناء سليمان.


 يومها انتابني شعور نسيته منذ سنوات طويلة، أن ألقي محاضرة أمام أستاذي لأول مرة، نفس الإحساس الذي عانيته عام 1984 عندما ألقيت أول محاضرة في الجامعة أمام الطلاب في حضور أستاذي الدكتور عبد اللطيف إبراهيم أستاذ الوثائق العربية بجامعة القاهرة، أصبح تركيزي كله على وجه إبراهيم فتحي في محاولة لاستشفاف انطباعاته عن حديثي، وكلما لاحظت ملامح الرضا والتشجيع على وجهه كلما انطلقت بثقة في مواصلة محاضرتي.



 وقد كان هذا ما ذكرته من قبل في احتفاء المجلس الأعلى للثقافة به عام 2018.


 كان إبراهيم فتحي أستاذي ومعلمي الأكبر الذي أنار عقلي، كان أستاذًا لأجيال وراء أجيال من اليسار المصري، ورغم غياب الجسد سيظل دوره الكبير في تطوير الفكر السياسي في مصر، ودوره في الحركة الاشتراكية المصرية والعربية، ودوره في الحركة النقدية، وفي ترجمة الفكر الإنساني علامة لن تغيب، وسيظل تاريخه النضالي ودفاعه عن قيم الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية حاضرًا دائمًا.


نشر في أخبار الأدب عدد 12 يناير 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...