الثلاثاء، 12 مارس 2019

"ما تكتبه يا فالح هاكتبه أنا" مقالي بجريدة المقال اليوم


"ما تكتبه يا فالح هاكتبه أنا"
حكاية ثورة... حكاية شعب
مقالي بجريدة المقال اليوم
عماد أبو غازي
 "ما تكتبه يا فالح هاكتبه أنا"... كانت هذه الكلمات رد سعد زغلول على الشاب محمد صبري الذي كان يدرس التاريخ في جامعة السوربون، وكان عضوًا بالجمعية المصرية بباريس، وتطوع للعمل سكرتيرًا للوفد المصري في باريس سنة 1919؛ قال الشاب الصغير لقائد الثورة: إذا كنت تريد للثورة أن تستمر فلابد قبل السلاح والحماسة، أن تكتب تاريخ مصر؛ فكانت هذه الكلمات رد سعد عليه؛ ولم يكذب الشاب خبرًا كما يقولوا، فأصدر كتاب "الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور ألتقطت أثناء الثورة"؛ والذي نُشر في باريس بالفرنسية قبل نهاية عام 1919، وكان الكتاب أول كتبه في التاريخ؛ كما كان أول كتاب يصدر عن ثورة 1919.

أصبح الشاب بعد سنوات قليلة واحدًا من أعمدة المدرسة القومية في التاريخ المصري، وكتب في التاريخ والأدب والاجتماع، واشتهر باسم صبري السوربوني، وصدرت له بعد هدا الكتاب كتب عديدة عن تاريخ مصر الحديث؛ وبالمثل صدرت بعد هذا الكتاب أيضًا عشرات الكتب عن ثورة 1919 كبرى الثورات المصرية في العصر الحديث، واليوم تمر أعوام مئة على بداية هذه الثورة وما زال المشتغلين بالتاريخ والمهمومين بقضايا الوطن يبحثون في هذه الثورة ويكتبون عنها؛ لقد ترك لنا سعد زغلول مذكراته التي تعد وثيقة حية لتاريخ مصر، وترك لعمدة المشتغلين بالتاريخ محمد صبري السوربوني وصيته بأن يكتب التاريخ، فكتب وما زلنا نكتب.
حكاية ثورة 1919 هي صفحة من كتاب الوطن؛ صفحة مضيئة من تاريخ مصر، قدم فيها المصريون 800 شهيد 1600 جريح خلال شهر واحد حسب بيانات سلطات الاحتلال؛ وقدموا نماذج ملهمة للعمل الثوري على مدى خمس سنوات هي عمر الثورة بجميع مراحلها؛ فقد كانت البداية الأولى يوم 13 نوفمبر سنة 1918، والنهاية مع نهاية عام 1923 بإجراء الانتخابات العامة وفقًا لدستور 1923 وتولي حكومة سعد زغلول، حكومة الشعب، السلطة في يناير 1924.
ثورة 1919 تتويج لنضال طويل متواصل للمصريين أخذت أهدافه تتبلور تدريجيًا منذ ثورة المصريين في يوليو سنة 1795 ضد طغيان أمراء المماليك، لقد سارت تلك الأهداف في اتجاه أساسي: انتزاع حقهم في إدارة أمور بلادهم بأنفسهم، أو ما عبرت عنه الحركة الوطنية المصرية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وصاغته في شعار "مصر للمصرين"، ذلك الشعار الذي تحول منذ مطلع القرن العشرين إلى مطلبين محددين: الاستقلال والدستور، وكان المطلبان هدفين كبيرين لثورة 1919.
 واتسم النضال من أجل تحقيق الاستقلال والدستور عبر عقود طويلة بالتدرج والمعارك الجزئية الصغيرة والمعارك الكبيرة التي تأخذ شكل الثورات؛ مثلما حدث في الثورة العرابية سنة 1881 وثورة 1919، تلك المعارك التي يتحقق من خلالها نصر هنا وآخر هناك، وانتكاسة هنا أو هناك في الطريق من أجل أن نصل إلى الهدف في النهاية... وكانت ثورة 1919 واحدة من هذه المعارك، بل أكبرها وأهمها، فماذا حقق الشعب فيها من خطوات في اتجاه تحقيق الهدفين الكبيرين لنضاله: الاستقلال والدستور؟
نبدأ الحكاية من أولها؛ في سنة 1914 قامت الحرب العالمية الأولى ودخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا ضد إنجلترا وفرنسا، فأعلنت إنجلترا الحماية على مصر وأنهت علاقتها بالدولة العثمانية التي استمرت 400 سنة تقريبا؛ استمرت الحرب لأربع سنوات عانت فيها مصر التي كانت خاضعة لسلطة الاحتلال البريطاني منذ عام 1882 شدائد جديدة فوق شدة الاحتلال.
فمع اشتعال الحرب سنة 1914 فرضت الأحكام العرفية على البلاد، وأعلنت الحماية البريطانية رسميا، كما جمع الإنجليز مئات من المصريين وحشدوهم حشدا ليشاركوا في الحرب، هذا فضلًا عن أن بعض المعارك بين الحلفاء وخصومهم دارت على أرضنا، وفي أواخر عام 1918 لاحت في الأفق بوادر انتهاء الحرب، وفي 11 نوفمبر عقدت الهدنة بين ألمانيا والحلفاء، لتنتهي أكبر حرب عرفتها البشرية حتى ذلك الوقت، ولتخرج إنجلترا وحلفاؤها منتصرون.
وبعد إعلان الهدنة بساعات تقدم سعد زغلول باشا الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية، وزميلاه في الجمعية عبد العزيز فهمي بك وعلى شعراوي باشا بطلب لمقابلة السير ريجنلد ونجت المندوب السامي البريطاني لطلب الترخيص لهم بالسفر إلى لندن لعرض مطالب الأمة المصرية؛ وتحدد للمقابلة يوم 13 نوفمبر سنة 1918، الذي صار منذ ذلك الحين عيدًا للجهاد الوطني، ورفع الزعماء الثلاثة مطالب الأمة في الاستقلال وإنهاء الأحكام العرفية وإلغاء الرقابة على الصحف إلى المندوب السامي البريطاني في مصر.
 وعقب المقابلة تألفت هيئة تسمى "الوفد المصري" إشارة إلى أنها وفد مصر للمطالبة باستقلالها، وقد تألف الوفد برئاسة سعد زغلول باشا ومعه في البداية ستة أعضاء؛ وحتى يثبت الوفد المصري نيابته عن الأمة تم الاتفاق على صياغة توكيل يوقع عليه أعضاء الهيئات النيابية القائمة في ذلك الحين، وأكبر عدد ممكن من أصحاب الرأي، ثم اتسع نطاق الحملة ليشمل الأمة جمعاء.
وإذا كانت حكومة حسين رشدي باشا قد سمحت للوفد بجمع التوقيعات على التوكيلات، فإن موقف السلطات البريطانية كان مختلفًا؛ لقد رأت السلطة العسكرية البريطانية أن حركة التوكيلات توشك أن تكون أساسًا لنهضة وطنية عامة تطالب بالاستقلال التام للبلاد فعملت على إحباطها في مهدها؛ فضرب المستشار البريطاني لوزارة الداخلية المصرية عرض الحائط بأوامر رئيس الوزراء بعدم التعرض لحركة جمع التوقيعات، وأصدر أوامر مباشرة إلى المديرين بمنع تداول التوكيلات أو التوقيع عليها بكل ما لديهم من قوة، وبالفعل صادرت وزارة الداخلية بعض التوكيلات التي تم التوقيع عليها، وبدأت في ملاحقة كل من يقوم بجمع التوقيعات.
وكان رد فعل الوفد المصري رسالة إلى حسين رشدي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية؛ وقد أكد حسين رشدي باشا في رده على الرسالة موقف حكومته المؤيد لحركة جمع التوقيعات على التوكيل؛ فاتسعت الحركة وازدادت نشاطًا، ومن ناحية أخرى ضم الوفد إليه أعضاءً جددًا وسعى سعيًا متواصلًا للحصول على ترخيص للسفر لحضور مؤتمر الصلح وعرض مطالب الأمة المصرية، الأمر الذي رفضته بإصرار سلطات الاحتلال البريطاني؛ وأمام تعنت السلطات البريطانية توجه سعد وصحبه بمذكره إلى مندوبي الدول الأجنبية في مصر يشرحون فيها مطالب الأمة، أما رئيس الحكومة حسين باشا رشدي فقد تقدم باستقالته احتجاجًا على رفض بريطانيا للتفاوض مع الحكومة المصرية.
وخلال شهري يناير وفبراير سنة 1919 تصاعدت حركة الوفد المصري واتسع نطاقها وتنوعت أشكال الحركة ما بين جمع التوقيعات، وعقد الاجتماعات العامة، وإلقاء الخطب في المحافل المختلفة، وإصدار النشرات التي تعرف الناس بنشاط الوفد وسعيه لتحقيق الاستقلال.
وفي عصر يوم 8 مارس 1919 وصلت الأمور إلى منتهاها عندما ألقت السلطات البريطانية القبض على سعد زغلول وثلاثة من صحبه هم محمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا ورحلتهم في اليوم التالي إلى بورسعيد ومن هناك أقلتهم إحدى السفن إلى المنفى في مالطة.
ولم يكن خبر القبض على سعد وصحبه يشيع بين الناس حتى انفجر غضبهم يوم 9 مارس 1919 لتبدأ بذلك الثورة؛ ثورة سنة 1919.
 لقد بدأت الثورة ردًا على نفي سعد ورفاقه إلى مالطة، فتحولت حركة الوفد من حركة سلمية هادئة إلى ثورة عارمة عنيفة، أنتجت أشكالًا نضالية متنوعة ومتعددة ومتغيرة بتغير الظروف، وكانت التوكيلات الشعبية للوفد أول هذه الأشكال النضالية وأهمها، لقد كانت التوكيلات وسيلة لحشد الجماهير والدعاية لأهداف الثورة ولتشكيل مجموعات منظمة نشطت لعدة شهور ونجحت في تفجير الثورة والاستمرار بها إلى أن أرغمت السلطات البريطانية على التراجع، كما كانت في نفس الوقت بمثابة عقد وكالة واتفاق بين الشعب وقيادته، تلزم هذه القيادة بعدم الخروج عن حدود الوكالة، وتحدد أهداف النضال وتقييد إمكانيات التنازل، وقد ظهر ذلك جليًا عندما قبل سعد زغلول تشكيل الوزارة بعد الانتخابات البرلمانية التي اكتسحها الوفد عقب صدور دستور 1923، لقد رد سعد على الملك فؤاد في خطاب قبوله تشكيل الوزارة معلنًا أنه يقبل تشكيل الوزارة في حدود الشروط التي تقبلها الأمة.
 وطوال مرحلة الثورة وما أعقبها استخدمت كل الأشكال النضالية وفقًا للظروف، لجأت إلى أشكال الاحتجاج السلمي كجمع التوقيعات على العرائض والخطابات المفتوحة للسلطات وللمجتمع الدولي والإضرابات والاعتصامات والتظاهر السلمي والمقاطعة بما فيها حملات مقاطعة البضائع الأجنبية، كما لجأ الثوار إلى الأشكال العنيفة كقطع السكك الحديدية وخطوط التلغراف والطرق البرية، والأعمال المسلحة المختلفة ضد قوات الاحتلال، وأبدعت الثورة سنة 1919 وفي ذروة الأحداث شكلًا نضاليًا جديدًا تمثل في إعلان استقلال بعض المدن وإدارتها إدارة ذاتية، وأشهرها جمهورية زفتى.
استمرت المرحلة الأولى من الثورة قرابة شهر؛ حتى رضخت سلطات الاحتلال وأفرجت عن الزعماء، وسمحت لهم بالسفر إلى باريس، وألغت القيود على سفر المصريين لخارج البلاد.

 وهكذا تحقق أول انتصار للثورة؛ أما الأهداف الأهم والأعمق والأبعد للثورة الاستقلال والدستور، التي هي أهداف الحراك الشعبي في مصر على مدى ما يزيد عن قرن، فقد استمرت المعارك من أجل تحقيقهما ولم تتوقف بنحقيق الهدف المباشر للثورة.
لقد نجحت الثورة في إلغاء الحماية رغم إقرار مؤتمر الصلح لها، فكان لاستمرار الثورة لأسابيع وشهور بعد الإفراج عن الزعماء أثره في إنهاء الحماية البريطانية على مصر وسعي بريطانيا للدخول في مفاوضات لتحديد شكل علاقتها بمصر، وفي هذا السياق تشكلت لجنة ملنر البريطانية لتضع تصورًا من خلال استطلاع رأي المصريين، ومرة أخرى كانت مقاطعة المصريين للجنة تعبيرًا عن استمرار الثورة ورفض المماطلة البريطانية؛ لقد انتجت الثورة بعد ثلاث سنوات الاعتراف باستقلال مصر من جانب واحد بصدور تصريح 28 فبراير سنة 1922، الذي اعترفت فيه بريطانيا بمصر مملكة مستقلة، مع التحفظات الأربعة التي شكلت انتقاصًا من هذا الاستقلال، وكان التصريح تعبيرًا عن التوازن الذي انتهى إليه الحال بعد ثورة 1919، فاستمرار الحماية مستحيل، لكن حركة الجماهير أضعف من أن تحقق الاستقلال التام في ضربة واحدة.

 وقد أفرز الواقع الجديد دستورًا للبلاد، دستور 1923 الذي يعد مكسبًا مهمًا رغم ما شابه من أوجه قصور، كذلك بدأت حياة نيابية تقوم على التعددية الحزبية؛ وكانت الحياة النيابية ومبدأ المواطنة المصرية الذي صاغته ثورة 1919 من خلال شعارها الملهم "الدين لله والوطن للجميع" من أهم المكاسب التي حققتها الثورة في طريق النضال من أجل الدستور والاستقلال، لقد حولت فكرة الاندماج الوطني وبناء دولة المواطنة التي بدأت خطواتها الأولى بتشريعات سعيد باشا في خمسينيات القرن التاسع عشر إلى واقع على الأرض، ورغم محاولات بريطانيا من ناحية، والتيارات الرجعية في المجتمع من ناحية أخرى، للعودة بالمجتمع إلى الانقسام الديني إلا أن هذه المحاولات بآت بالفشل.
كما أن الواقع الجديد بعد الثورة قد دفع تلقائيًا في اتجاه تطور الاقتصاد؛ فقد كانت الثورة دافعًا لحلم راود المصريين منذ عقود، حلم بناء اقتصاد وطني في مواجهة الامتيازات الأجنبية ورغمًا عن وجودها، فشهدت البلاد نهضة صناعية جديدة أثرت على المجتمع كله وعلى أفكاره، وكان ميلاد بنك مصر بشركاته ومؤسساته علامة على هذا التحول، وعلى مصر جديدة تولد.
 كذلك كانت الثورة إيذانًا بميلاد جديد للصناعات الإبداعية الحديثة؛ التي حرص على تطويرها طلعت حرب مؤسس بنك مصر، الذي يعد بحق الوليد الاقتصادي للثورة، فتطورت صناعة الكتاب والنشر وأنشأ بنك مصر مطبعة مصر لتطوير هذه الصناعة الثقافية المهمة، كما جاء ميلاد السينما المصرية تاليًا للثورة من خلال أفلام محمد بيومي الروائية القصيرة، وجريدته السينمائية الموثقة للأحداث جريدة آمون السينمائية، ثم كانت النقلة الثانية مع إنشاء طلعت حرب لإستوديو مصر الذي أسهم في إنتاج عشرات الأفلام الروائية.
 كما فتحت الثورة آفاق بعث جديد في الفنون تجلى في مجالات الفنون التشكيلية والموسيقى والغناء والمسرح؛ وتحول وضع هذه الفنون بعد الثورة والتحمت بالجماهير وقضاياها، وفي الآداب تطورت الكتابة الروائية والكتابة المسرحية بشكل لافت للنظر وارتبطتا بالتحولات الاجتماعية الجديدة وعبرت عنها؛ فبقدر ما ساهمت الأعمال الإبداعية في الحشد للثورة والتعبير عنها وإيصال رسالتها للجماهير، أو اتخذتها موضوعا لها في السنوات التالية، بقدر ما كانت التغير ات المجتمعية التي أحدثتها الثورة في مصر دافعا لتطور الإبداع الأدبي والفني...
 وقد اختلف التفاعل بين الفن والثورة من نوع فني أو أدبي إلى نوع آخر، فبينما كان تعبير بعض الأنواع عن الثورة ابن اللحظة التاريخية للثورة وحاشدا للجماهير حولها ووسيلة من وسائل حمل أهداف الثورة إلى الناس، أي أداة من أدوات الدعاية الثورية مثلها في ذلك مثل منشورات الثورة، كانت أنواع أخرى مُوثِقة للثورة ومسجلة لها من خلال النوع الأدبي أو الفني، عبر استخدام حدث الثورة موضوعا للإبداع بعد انتهاء الحدث.
 إذا كانت فنون الشعر والموسيقى والغناء قد واكبت الثورة وعبرت عنها وكانت أداة للتحريض الثوري في صفوف الجماهير، فإن الأعمال الروائية المهمة التي اتخذت ثورة 1919 موضوعا لها كانت في معظمها بعيدة زمنيًا عن الحدث، ولعل أجلى التعبيرات الأدبية عن الثورة جاءت من خلال "عودة الروح" للحكيم و"قنطرة الذي كفر" لمشرفة والجزء الأول من ثلاثية محفوظ "بين القصرين".
 أما الفن التشكيلي والذي كانت أجلى تعبيراته عن الثورة تمثال نهضة مصر لمختار فقد جمع بين الخاصيتين، ففكرة التمثال كانت وليدة اللحظة الثورية وتعبيرًا عنها، لكن تنفيذ العمل الذي استغرق ثمان سنوات حتى يستوي كتمثال ميدان في باب الحديد، جعل منه تخليدًا لها عبر الزمن، كذلك كان تمثالي سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية لمختار توثيقًا لحدث الثورة بعد سنوات على وقوعها.
  لقد واكب الثورة جيل من المبدعين ولد معظمهم في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، وقد تميز أبناء ذلك الجيل بأنهم نبغوا في مرحلة الشباب المبكر، فأغلبهم قدم إنجازًا مهمًا وهو بعد في العقد الثالث من عمره، كما أنهم عرفوا كيف يتمردون على الثوابت ويتجاوزوا الواقع متطلعين إلى المستقبل، فكانوا بذلك بناة نهضة حقيقية، ثم جاءت ثورة 1919 لتطلق أقصى طاقاتهم الإبداعية، حيث ارتبطوا بالثورة وبالحركة الوطنية المصرية وأصبحوا لسان حالها في الفن والأدب والثقافة، لقد حولتهم الثورة التي اندمجوا بمسيرتها إلى شموس في سماء الوطن، ومن بين هؤلاء كان سيد درويش الذي كان صوت الثورة وأغنيتها وكان في ذات الوقت ثورة في النغم والغناء، ومختار الذي عبر عن الثورة نحتا وشق للفن التشكيلي طريقا جديدا في مصر، وربما كان سيد درويش ومختار من بين أبناء جيلهما، هما الأكثر تعبيرا في مجال الفنون عن الثورة المصرية وقيمها، والأبلغ في التعبير عن أبناء الشعب البسطاء صانعي الحضارة من فلاحين وحرفيين وعمال، والأقدر على استلهام أعمالهما من روح هذا الشعب وتراثه، وعلى حل إشكالية الأصالة والمعاصرة.
  كما كانت الثورة دافعة للانطلاقة السياسية للمرأة المصرية ولسعيها بقوة من أجل انتزاع حقوقها؛ فقد أدت المشاركة الإيجابية الفعالة للمرأة المصرية في الثورة والتي بدأت بالمظاهرة النسائية يوم 16 مارس 1919 إلى تغير جوهري في نظرة المجتمع إلى المرأة، كما حققت هذه المشاركة مكاسب عديدة للمرأة في مصر، وكانت تلك المظاهرة نقطة انطلاق لحركة نسائية وطنية، وانبثق عنها تأسيس لجنة سيدات الوفد كأول تنظيم سياسي نسائي في مصر الحديثة، ثم الاتحاد النسائي المصري بعدها بأربع سنوات.
لقد نجحت ثورة 1919 في الانتقال بمصر إلى عصر جديد استمر على الأقل حتى عام 1952، وكانت له آثاره الممتدة في الحراك الثقافي والاجتماعي في العقدين الأولين من النصف الثاني من القرن العشرين؛ ورغم التراجع الذي شهدته بعض مكاسب الثورة فما زال حلم دولة المواطنة والقانون والمشاركة السياسية واستقلال القرار الوطني هدفًا واجب التحقيق.
  ونحن نحتفل هذا العام بالمئوية الأولى لثورة 1919 يتجدد السؤال المشروع ؛ المثار دوما في الأحداث الكبرى عن دور الفرد القائد ودور الجموع في صنع الحدث، وعند الحديث عن ثورة 1919؛ فإننا نقف أمام حراك شعبي واسع استمر على مدى سنوات خمس، وأمام زعامة نجحت في أن تلتقط اللحظة التاريخية وتقود حركة الجماهير.
   وإذا كانت زعامة سعد لم تبدأ إلا في عام 1918 فإن دوره في العمل العام وأنشطته الاجتماعية والسياسية سابقة على ذلك التاريخ بسنوات عديدة، منذ التقى بالشيخ محمد عبده أثناء دراسته، ثم أخذ يتردد على مجالس جمال الدين الأفغاني، وساهم الرجلان في تكوين ثقافة سعد وشخصيته في شبابه؛ وقد لفت ذكاء سعد نظر أستاذه محمد عبده فاختاره للعمل معه محررًا بالقسم الأدبي "بالوقائع المصرية" عندما تولى رئاسة تحريرها عام 1880، وفي أعقاب هزيمة الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، فصل سعد زغلول من وظيفته لاتهامه بمشايعة الثورة، ثم قامت السلطات باعتقاله مع آخرين بتهمة تشكيل جمعية سرية باسم "جماعة الانتقام"، ولم يثبت الاتهام ضده فأفرج عنه بعد عدة شهور.
 ثم اتجه سعد زغلول إلى العمل في المحاماة وبرع فيها، وأصبح من أشهر المحامين في مصر لما عرف عنه من قدرة على المرافعة وأمانة في العمل، ثم عين في سنة 1892 قاضيًا بمحكمة الاستئناف، وكانت أعلى المحاكم المصرية درجة في ذلك الوقت؛ وخلال عمله في القضاء درس سعد القانون دراسة نظامية وحصل على إجازة الحقوق من جامعة باريس بدرجة متفوقة، فأضاف إلى خبرته العملية دراسة قانونية.
 وفي سنة 1906، وفي إحدى محاولات سلطات الاحتلال البريطاني للتخفيف من الآثار السلبية لحادث دنشواي، ثم تعيين سعد زغلول وزيرًا للمعارف، وكانت المعارف من الوزارات الخاضعة لسلطة الاحتلال من خلال دنلوب المستشار البريطاني للتعليم؛ وقد لاقى هذا التعيين ارتياحًا من جانب الحركة الوطنية المصرية؛ وطوال ست سنوات شغل فيه سعد المناصب الوزارية اختلف الناس حول كثير من مواقفه، فأيده البعض وانتقده آخرون؛ لكن الأمر الذي يتفق عليه الجميع أن سعد زغلول أثناء توليه وزارتي المعارف ثم الحقانية حقق بعض الانجازات المهمة مثل استئناف إرسال البعثات إلى معاهد العلم في أوروبا، وإنشاء مدرسة القضاء الشرعي ووضع مشروع قانون المحاماة الذي أنشئت بموجبه بعد إقراره نقابة المحامين، كذلك اصطدم سعد زغلول غير مرة بالمستشار البريطاني دنلوب الذي كان يسيطر على وزارة المعارف، أما أهم المواقف التي تحسب لسعد زغلول خلال توليه الوزارة فاستقالته من وزارة محمد سعيد باشا؛ وقد كان السبب الرئيسي لاستقالة سعد زغلول من الوزارة في مارس سنة 1912، قرار تحريك الدعوى العمومية ضد محمد فريد بتهمة التحريض على كراهية الحكومة دون مشاورته أو أخذ رأيه.
 وعندما أنشئت الجمعية التشريعية في سنة 1913 لتكون مجلسًا شبه نيابي، تقدم سعد زغلول للانتخابات في دائرتي الخليفة وبولاق بالقاهرة وفاز فيهما بتأييد ودعم من الحزب الوطني؛ وأصبح سعد الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية، وخلال الفصل التشريعي الأول والأخير للجمعية التشريعية برز صوت سعد كخطيب مفوه يدافع عن حقوق الأمة، ونالت مواقفه تأييد ودعم كل القوى الوطنية في مصر...
 وخلال سنوات الحرب العظمى اختار سعد الصمت، ليعود صوته فور إعلان انتهائها مطالبًا بحقوق الأمة، وليصبح زعيمًا لمصر وقائدًا لثورتها؛ ثم لنضالها الوطني وسعيها من أجل الاستقلال والدستور طوال تسع سنوات حتى وفاته في 23 أغسطس سنة 1927.    
في حياة الأمم شخصيات تلتقي بطموحات الشعب وأحلامه، فتتصدى لقيادة البلاد في اللحظات العصيبة، وقد تنجح في تحقيق بعض ما تتطلع إليه الأمة، فتحفر لاسمها بذلك مكانة لا تهتز في الوجدان الشعبي؛ ومن هذه الشخصيات في تاريخنا المصري الحديث سعد زغلول الذي اعتلى مكانه كزعيم للأمة بلا منازع عندما تصدى لمواجهة الاحتلال البريطاني عقب إعلان انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ عندما أصبح قائدًا للثورة المصرية ورمزًا لها؛ والذي أوصى كبيرنا وشيخنا بأن يكتب التاريخ، ومازلنا نكتبه.

هناك تعليق واحد:

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...