مقالي
بمجلة ذاكرة مصر عدد يناير 2019
ثورة 1919
وميلاد مصر جديدة
عماد أبو غازي
ما الذي نجحت
ثورة 1919 في تحقيقه؟ أو بصيغة أخرى؛ هل نجحت الثورة في تحقيق أهدافها؟ هل غيرت
ثورة 1919 مصر إلى الأفضل؟
أسئلة ترددت كثيرًا
منذ انتهاء المرحلة الأولى من الثورة، بدأت بسؤال: هل نجحت الثورة؟ وبمرور الزمن
تولدت من السؤال أسئلة؛ واليوم ومع الاحتفال بالمئوية الأولى للثورة المصرية، لابد
أن تتجدد الأسئلة، وتتعدد الإجابات.
كان السؤال هل
نجحت الثورة أم فشلت؟ يتردد بقوة منذ الأشهر الأخيرة لعام 1919، تردد بين الساسة
المصريين وبين الجماهير التي شاركت في الثورة، كانت الصورة الأولى للسؤال: هل كان
هناك مقابل للتضحيات التي قدمها الشعب من شهداء وجرحى ومعتقلين ومحكوم عليهم
بالإعدام والسجن والحبس والجلد والغرامة؟
الإجابة على
السؤال تقتضي طرح سؤالًا آخر؛ ماذا كانت أهداف الثورة؟
لقد بدأت أحداث
الثورة يوم 9 مارس 1919 ردًا على نفي الزعماء، سعد وزملاؤه إلى مالطة، إذن كان
المفجر المباشر للثورة الذي حولها من حركة سلمية هادئة إلى ثورة عارمة عنيفة القبض
على زعماء الوفد ونفيهم، كان هذا التصرف الذي قامت به سلطات الاحتلال البريطاني قد
حول حركة جمع التوكيلات للوفد المصري وسعي الوفد للسفر لمؤتمر الصلح، تلك الحركة
التي ولدت يوم 13 نوفمبر 1918، من حركة سلمية إلى ثورة عنيفة.
ومن هنا فقد كان
الهدف الأول للثورة عودة الزعماء المنفيين والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح،
وقد رضخت سلطات الاحتلال قبل مرور شهر على الثورة وأفرجت عن الزعماء، وسمحت لهم
بالسفر إلى باريس، وألغت القيود على سفر المصريين لخارج البلاد، استجابة لمطلب ألح
عليه المصريون منذ انتهاء الحرب العظمى في نوفمبر سنة 1918.
وهكذا تحقق أول
انتصار للثورة بالإفراج عن الزعماء المنفيين وسفرهم لباريس وإقرار مبدأ حق
المصريين في السفر للخارج، وقياسًا على ما حدث لأحمد عرابي وزملائه من زعماء
الثورة العرابية الذين طال نفيهم لسنوات فقد كان هذا نجاحًا لثورة 1919 لا شك فيه
وتحقيقًا للهدف المباشر الذي انفجرت الثورة من أجله.
أما الأهداف
الأهم والأعمق والأبعد للثورة فهي نفس أهداف النضال الشعبي المصري التي أخذت
تتبلور تدريجيًا منذ ثورة المصريين في يوليو سنة 1795 ضد طغيان أمراء المماليك،
لقد أخذت أهداف المصريين تسير في اتجاه أساسي: انتزاع حقهم في إدارة أمور بلادهم
بأنفسهم، أو ما عبرت عنه الحركة الوطنية المصرية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر
وصاغته في شعار "مصر للمصرين"، ذلك الشعار الذي تحول منذ مطلع القرن
العشرين إلى مطلبين محددين: الاستقلال والدستور، وكان المطلبان هدفين كبيرين لثورة
1919.
واتسم النضال من
أجل تحقيق الاستقلال والدستور عبر عقود طويلة بالتدرج والمعارك الجزئية الصغيرة
والمعارك الكبيرة التي تأخذ شكل الثورات مثلما حدث في الثورة العرابية، وطوال
الحقبة الليبرالية استمرت الروح الثورية وتجددت في مواجهة استمرار الوجود العسكري
البريطاني والامتيازات الأجنبية، كما تصاعدت الحركات الجماهيرية في مواجهة
الانقلابات الدستورية وفي مقدمتها انقلاب إسماعيل صدقي سنة 1930، الذي أنهته ثورة
الشباب أو انتفاضة 1935، تلك المعارك التي يتحقق من خلالها نصر هنا وآخر هناك،
وانتكاسة هنا أو هناك في الطريق من أجل أن نصل إلى الهدف في النهاية.
وكانت ثورة 1919
واحدة من هذه المعارك، بل أكبرها وأهمها، فماذا حقق الشعب فيها من خطوات في اتجاه
تحقيق الهدفين الكبيرين لنضاله: الاستقلال والدستور؟
بعد أن هدأت
الأمور واستقرت الأحوال، عادت الأمور للاحتقان مرة أخرى بنفي سعد ومجموعة من رفاقه
إلى سيشيل، عام 1921، واعتقال مجموعات أخرى من قادة الوفد ومحاكمتهم وإصدار أحكام
بالسجن لمدد طويلة ضدهم، فعادت الأحداث للتصاعد مرة أخرى، وردت بريطانيا بإصدار
تصريح 28 فبراير 1922، وصدر دستور 1923.
عندها تجددت
التساؤلات، وتعددت الإجابات باختلاف مواقف من يجيبون على السؤال، خاصة أن
الانقسامات والانشقاقات كانت قد تسربت إلى صفوف الوفد، ودارت في معظمها حول أسلوب
التفاوض مع الإنجليز، والموقف من العروض البريطانية.
وهنا كان
التساؤل هل تصريح 28 فبراير يحقق آمال المصريين وأهداف ثورتهم، وهل دستور 1923
الذي وضعته لجنة "الأشقياء" كما أطلق عليها الوفد ما كان يحلم به
المصريون؟
لقد نجحت الثورة
في إلغاء الحماية رغم إقرار مؤتمر الصلح لها، فكان لاستمرار الثورة لأسابيع وشهور
بعد الإفراج عن الزعماء أثره في إنهاء الحماية البريطانية على مصر وسعي بريطانيا
للدخول في مفاوضات لتحديد شكل علاقتها بمصر، وفي هذا السياق تشكلت لجنة ملنر
البريطانية لتضع تصورًا من خلال استطلاع رأي المصريين، ومرة أخرى كانت مقاطعة
المصريين للجنة تعبيرًا عن استمرار الثورة ورفض المماطلة البريطانية، حتى أضحى هذا
الموقف مثلًا في الثقافة المصرية يشير إلى حدة المقاطعة والخصام، عندما توصف
مقاطعة إنسان لآخر بأنها "ولا مقاطعة لجنة ملنر"، أو عندما يقول شخص
مبينًا موقفه من شخص آخر "هأأطعة مأطعة لجنة ملنر".
لقد انتجت
الثورة بعد ثلاث سنوات الاعتراف باستقلال مصر من جانب واحد بصدور تصريح 28 فبراير
سنة 1922، الذي اعترفت فيه بريطانيا بمصر مملكة مستقلة، مع التحفظات الأربعة التي
شكلت انتقاصًا من هذا الاستقلال، وكان التصريح تعبيرًا عن التوازن الذي انتهى إليه
الحال بعد ثورة 1919، فاستمرار الحماية مستحيل، لكن حركة الجماهير أضعف من أن تحقق
الاستقلال التام في ضربة واحدة، وقد أفرز الواقع الجديد دستورًا للبلاد، دستور
1923 الذي يعد من أفضل الدساتير في تاريخ مصر، رغم ما شابه من أوجه قصور، كذلك
بدأت حياة نيابية تقوم على التعددية الحزبية.
وكانت الحياة
النيابية ومبدأ المواطنة المصرية الذي صاغته ثورة 1919 من خلال شعارها الملهم
"الدين لله والوطن للجميع" من أهم المكاسب التي حققتها ثورة 1919 في
طريق النضال من أجل الدستور والاستقلال، لقد حولت فكرة الاندماج الوطني وبناء دولة
المواطنة التي بدأت خطواتها الأولى بتشريعات سعيد باشا في خمسينيات القرن التاسع
عشر إلى واقع على الأرض، وعاشت مصر فيما بين 1919 و1952 أزهى فترات احترام
المواطنة والتعددية الدينية والثقافية، ورغم محاولات بريطانيا من ناحية، والتيارات
الرجعية في المجتمع من ناحية أخرى، للعودة بالمجتمع إلى الانقسام الديني إلا أن
هذه المحاولات بآت بالفشل، وهنا أشير إلى موقفين هما من نواتج ثورة 1919، عندما
حاول الملك فاروق أن يؤدي اليمين الدستورية في الجامع الأزهر رفض مصطفى النحاس
رئيس الوزراء إضفاء الطابع الديني على الدولة المصرية، وأصر أن يتم أداء اليمين في
البرلمان، الموقف الثاني أيضًا لمصطفى النحاس في وزارته الأخيرة عندما أتى محمد
علي جناح مؤسس باكستان التي قامت كانشقاق ديني عن الهند العلمانية لزيارة مصر،
فتعمد أن يرسل له إبراهيم باشا فرج لاستقباله، وفي محادثتهما الثنائية عاب عليه
هدم وحدة الهند من أجل بناء دولة دينية، محققًا بذلك الأهداف الاستعمارية بتمزيق
وحدة الدول على أسس دينية وعرقية.
وفي منتصف
الأربعينات أعاد مؤرخ الحركة الوطنية عبد الرحمن الرافعي طرح السؤال مجددًا في
ختام كتابه عن ثورة 1919، ورغم انتمائه للحزب الوطني الذي كان على خلاف مع الوفد
فقد اتسم حكمه بالحياد والموضوعية ووضع معايير ليقيس عليها مدى نجاح الثورة، وكان
معياره "تعرف الحالة التي كانت عليها البلاد قبل الثورة، والحالة التي وصلت
إليها بعد الثورة، وهل تقدمت أم تأخرت، وما علاقة الثورة بهذا التقدم أو
التأخر؟"
وفي ضوء هذا
المعيار انتهى الرافعي إلى نجاح الثورة بشكل عام، وكان مأخذه الأساسي إغفال قيادة
الثورة للجانب الاقتصادي وإن كان قد أشار إلى أن الواقع الجديد بعد الثورة قد دفع
تلقائيًا في اتجاه تطور الاقتصاد؛ فقد كانت الثورة دافعًا لحلم راود المصريين منذ
عقود، حلم بناء اقتصاد وطني في مواجهة الامتيازات الأجنبية ورغمًا عن وجودها،
فشهدت البلاد نهضة صناعية جديدة أثرت على المجتمع كله وعلى أفكاره، وكان ميلاد بنك
مصر بشركاته ومؤسساته علامة على هذا التحول، وعلى مصر جديدة تولد.
كذلك كانت
الثورة إيذانًا بميلاد جديد للصناعات الإبداعية الحديثة؛ التي حرص على تطويرها
طلعت حرب مؤسس بنك مصر، الذي يعد بحق الوليد الاقتصادي للثورة، فتطورت صناعة
الكتاب والنشر وأنشأ بنك مصر مطبعة مصر لتطوير هذه الصناعة الثقافية المهمة، كما جاء ميلاد السينما المصرية
تاليًا للثورة من خلال أفلام محمد بيومي الروائية القصيرة، وجريدته السينمائية
الموثقة للأحداث جريدة آمون السينمائية، ثم كانت النقلة الثانية مع إنشاء طلعت حرب
لإستوديو مصر الذي استوعب داخله جريدة آمون وحولها إلى جريدة مصر السينمائية،
وأسهم في إنتاج عشرات الأفلام الروائية.
كما فتحت الثورة
آفاق بعث جديد في الفنون تجلى في مجالات الفنون التشكيلية والموسيقى والغناء
والمسرح؛ وتحول وضع هذه الفنون بعد الثورة والتحمت بالجماهير وقضاياها، وفي الآداب
تطورت الكتابة الروائية والكتابة المسرحية بشكل لافت للنظر وارتبطتا بالتحولات
الاجتماعية الجديدة وعبرت عنها؛ فبقدر ما ساهمت الأعمال الإبداعية في الحشد للثورة
والتعبير عنها وإيصال رسالتها للجماهير، أو اتخذتها موضوعا لها في السنوات
التالية، بقدر ما كانت التغير ات المجتمعية التي أحدثتها الثورة في مصر دافعا
لتطور الإبداع الأدبي والفني.
وقد اختلف
التفاعل بين الفن والثورة من نوع فني أو أدبي إلى نوع آخر، فبينما كان تعبير بعض
الأنواع عن الثورة ابن اللحظة التاريخية للثورة وحاشدا للجماهير حولها ووسيلة من
وسائل حمل أهداف الثورة إلى الناس، أي أداة من أدوات الدعاية الثورية مثلها في ذلك
مثل منشورات الثورة، كانت أنواع أخرى مُوثِقة للثورة ومسجلة لها من خلال النوع
الأدبي أو الفني، عبر استخدام حدث الثورة موضوعا للإبداع بعد انتهاء الحدث.
إذا كانت فنون
الشعر والموسيقى والغناء قد واكبت الثورة وعبرت عنها وكانت أداة للتحريض الثوري في
صفوف الجماهير، فإن الأعمال الروائية المهمة التي اتخذت ثورة 1919 موضوعا لها كانت
في معظمها بعيدة زمنيا عن الحدث، ولعل أجلى التعبيرات الأدبية عن الثورة جاءت من
خلال "عودة الروح" للحكيم و"قنطرة الذي كفر" لمشرفة والجزء
الأول من ثلاثية محفوظ "بين القصرين".
أما الفن
التشكيلي والذي كانت أجلى تعبيراته عن الثورة تمثال نهضة مصر لمختار فقد جمع بين
الخاصيتين، ففكرة التمثال كانت وليدة اللحظة الثورية وتعبيرا عنها، لكن تنفيذ
العمل الذي استغرق ثمان سنوات حتى يستوي كتمثال ميدان في باب الحديد، جعل منه
تخليدا لها عبر الزمن، كذلك كان تمثالي سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية لمختار
توثيقا لحدث الثورة بعد سنوات على وقوعها.
لقد واكب الثورة جيل من المبدعين ولد معظمهم في
السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، وقد تميز
أبناء ذلك الجيل بأنهم نبغوا في مرحلة الشباب المبكر، فأغلبهم قدم إنجازا مهما وهو
بعد في العقد الثالث من عمره، كما أنهم عرفوا كيف يتمردون على الثوابت ويتجاوزوا
الواقع متطلعين إلى المستقبل، فكانوا بذلك بناة نهضة حقيقية، ثم جاءت ثورة 1919
لتطلق أقصى طاقاتهم الإبداعية، حيث ارتبطوا بالثورة وبالحركة الوطنية المصرية
وأصبحوا لسان حالها في الفن والأدب والثقافة، لقد حولتهم الثورة التي اندمجوا
بمسيرتها إلى شموس في سماء الوطن، ومن بين هؤلاء كان سيد درويش الذي كان صوت
الثورة وأغنيتها وكان في ذات الوقت ثورة في النغم والغناء، ومختار الذي عبر عن
الثورة نحتا وشق للفن التشكيلي طريقا جديدا في مصر، وربما كان سيد درويش ومختار من
بين أبناء جيلهما، هما الأكثر تعبيرا في مجال الفنون عن الثورة المصرية وقيمها،
والأبلغ في التعبير عن أبناء الشعب البسطاء صانعي الحضارة من فلاحين وحرفيين
وعمال، والأقدر على استلهام أعمالهما من روح هذا الشعب وتراثه، وعلى حل إشكالية
الأصالة والمعاصرة.
كما كانت الثورة دافعة للانطلاقة
السياسية للمرأة المصرية ولسعيها بقوة من أجل انتزاع حقوقها. فقد أدت المشاركة الإيجابية
الفعالة للمرأة المصرية في الثورة والتي بدأت بالمظاهرة النسائية يوم 16 مارس 1919
إلى تغير جوهري في نظرة المجتمع إلى المرأة، كما حققت هذه المشاركة مكاسب عديدة
للمرأة في مصر، وكانت تلك المظاهرة نقطة انطلاق لحركة نسائية وطنية، وانبثق عنها
تأسيس لجنة سيدات الوفد كأول تنظيم سياسي نسائي في مصر الحديثة، ثم الاتحاد
النسائي المصري بعدها بأربع سنوات.
وبعد وصول
الضباط الأحرار إلى الحكم في يوليو 1952، وفي محاولات النظام الجديد لإعادة النظر
في تاريخ مصر السابق على يوم 23 يوليو 1952 أهيل التراب على ثورة 1919 وقيادتها
التاريخية، ورددت مناهج التعليم ما ورد في الميثاق الوطني من أقوال حول فشل ثورة
1919.
واستند الميثاق
الوطني إلى عدة أسباب اعتبارها مسئولة عن فشل ثورة 1919، يقول الميثاق: "إن ثورة الشعب المصري سنة 1919
تستحق الدراسة الطويلة؛
فإن الأسباب التي أدت إلى فشلها هي نفس الأسباب التي حركت حوافز الثورة في سنة 1952، إن هناك ثلاثة أسباب
واضحة أدت إلى فشل هذه الثورة:
أولًا: إن القيادات الثورية أغفلت إغفالًا يكاد
أن يكون تامًا مطالب التغيير الاجتماعي.
ثانيًا: إن القيادات الثورية في ذلك الوقت لم تستطع أن تمد بصرها عبر
سيناء، وعجزت عن تحديد الشخصية
المصرية، ولم تستطع أن تستشف ـ من خلال التاريخ ـ أنه ليس هناك صدام على الإطلاق بين الوطنية المصرية
وبين القومية العربية.
ثالثًا: إن القيادات الثورية لم تستطع أن تلائم
بين أساليب نضالها وبين الأساليب
التي واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب في ذلك الوقت.
وهكذا انتهت الثورة بإعلان استقلال لا مضمون له،
وبحرية جريحة تحت حراب
الاحتلال، وزادت المضاعفات خطورة بسبب الحكم الذاتي الذي منحه الاستعمار، والذي
أوقع الوطن باسم الدستور في محنة الخلاف على الغنائم دون نصر؛ وكانت النتيجة أن أصبح الصراع الحزبي
في مصر ملهاة تشغل الناس، وتحرق الطاقة الثورية في هباء لا نتيجة له. وكانت معاهدة
سنة 1936 التي عقدت بين مصر وبريطانيا، والتي اشتركت في توقيعها جبهة وطنية تضم كل
الأحزاب السياسية العاملة في ذلك الوقت؛ بمثابة صك الاستسلام للخديعة الكبرى الذي وقعت فيها ثورة سنة
1919، فقد كانت مقدمتها
تنص على استقلال مصر؛ بينما صلبها في كل عبارة من عباراته يسلب هذا الاستقلال كل قيمة له وكل
معنى."
كان هذا تحليل الميثاق الذي سيطر على مناهج
التعليم لسنوات رغم التراجع الجزئي للنظام عنه بعد هزيمة يونيو 1967، فهل حقًا
فشلت ثورة 1919؟
السبب الأول من
وجهة نظر الميثاق الوطني يكمن في إن القيادات الثورية أغفلت إغفالًا يكاد أن يكون تامًا مطالب
التغيير الاجتماعي.
لا توجد ثورة في التاريخ تغفل البعد الاجتماعي، فلكل ثورة
مطالبها الاجتماعية لكن هذه المطالب تختلف باختلاف طبيعة القيادة الثورية وموقعها
الطبقي، الذي تتحدد على أساسه أهداف الثورة، ويبدو أن الميثاق كان يقصد بالبعد
الاجتماعي تبني مطالب العمال والفلاحين والطبقات الشعبية في التغيير، ولم تدع
قيادة ثورة 1919 في أي لحظة أنها تقود ثورة من أجل التغيير
الاجتماعي أو إنها تحرك الجماهير من أجل الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية حتى
نقول إنها فشلت بسبب غياب هذا البعد عنها، لقد أعلنت قيادة الثورة أهدافها منذ
البداية كثورة وطنية ديمقراطية تسعى لتحقيق الاستقلال والدستور، وبعدها الطبقي كان
واضحًا في حدود المطالبة بنصيب أكبر في السوق المحلي على حساب الامتيازات التي
يتمتع بها الأجانب، الأمر الذي تحقق جزئيًا وعلى مراحل متوالية طوال الحقبة
الليبرالية.
أما السبب
الثاني للفشل ـ
وفقا للميثاق ـ فكان غياب البعد العربي، "فالقيادات الثورية في ذلك الوقت
لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء، وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستطع أن تستشف - من خلال التاريخ - أنه
ليس هناك صدام على الإطلاق
بين الوطنية المصرية وبين القومية العربية".
لكن هل يمكن أن نأخذ هذا على القيادة الثورية
سنة 1919، إن نضال الشعب المصري منذ أواخر القرن الثامن عشر كان نضالًا مصريًا
خالصًا، وكان مفهوم النضال القومي لدى المصريين يعني النضال القومي المصري، ولم
يكن هناك هدف مشترك يجمع بين نضال الشعب المصري والنضال الوطني في سوريا موطن
الدعوة القومية العربية، بل كان هناك عدوًا مختلفًا لسنوات طويلة، فبينما كان
المصريون يناضلون ضد الاستعمار الأوروبي المباشر (الإنجليزي) منذ 1882، وضد التدخل
الأجنبي عمومًا قبل 1882، كان السوريون يناضلون ضد الاستعمار العثماني الذي ظهرت
الحركة القومية العربية في مواجهته، وكانت الحركة العربية تتلقى الدعم من القوى
الأوروبية في مواجهة العثمانيين، ولم يبدأ النضال الوطني في دول المشرق العربي ضد
الاستعمار الأوروبي (البريطاني والفرنسي) إلا في مطلع العشرينيات بعد انتهاء مؤتمر
الصلح وفرض الانتداب على الأملاك العثمانية السابقة في العالم العربي، ولم تكن
الرابطة الثقافية بين المتكلمين بالعربية تعني أن هناك أمة عربية واحدة، ومع ذلك
لم تغب فكرة التضامن النضالي أبدا عن قادة الحركات الوطنية في مختلف بلدان العالم
العربي طوال تلك المرحلة.
أما السبب
الثالث فكان عدم
قدرة القيادات الثورية أن تلائم بين أساليب نضالها وبين الأساليب التي واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب في ذلك الوقت.
والحقيقة أن
ثورة 1919 أنتجت أشكالًا نضالية متنوعة ومتعددة ومتغيرة بتغير الظروف طوال الحقبة
الليبرالية، وكانت التوكيلات الشعبية للوفد أول هذه الأشكال النضالية وأهمها، لقد
كانت التوكيلات وسيلة لحشد الجماهير والدعاية لأهداف الثورة ولتشكيل مجموعات منظمة
نشطت لعدة شهور ونجحت في تفجير الثورة والاستمرار بها إلى أن أرغمت السلطات
البريطانية على التراجع، كما كانت في نفس الوقت بمثابة عقد وكالة واتفاق بين الشعب
وقيادته، تلزم هذه القيادة بعدم الخروج عن حدود الوكالة، وتحدد أهداف النضال
وتقييد إمكانيات التنازل، وقد ظهر ذلك جليًا عندما قبل سعد زغلول تشكيل الوزارة
بعد الانتخابات البرلمانية التي اكتسحها الوفد عقب صدور دستور 1923، لقد رد سعد
على الملك فؤاد في خطاب قبوله تشكيل الوزارة معلنًا أنه يقبل تشكيل الوزارة في
حدود الشروط التي تقبلها الأمة.
وطوال مرحلة
الثورة وما أعقبها استخدمت كل الأشكال النضالية وفقًا للظروف، لجأت إلى أشكال
الاحتجاج السلمي كجمع التوقيعات على العرائض والخطابات المفتوحة للسلطات وللمجتمع
الدولي والإضرابات والاعتصامات والتظاهر السلمي والمقاطعة بما فيها حملات مقاطعة
البضائع الأجنبية، كما لجأ الثوار إلى الأشكال العنيفة كقطع السكك الحديدية وخطوط
التلغراف والطرق البرية، والأعمال المسلحة المختلفة ضد قوات الاحتلال، ووصل الأمر
في نهاية الحقبة الليبرالية إلى إتباع أسلوب الكفاح المسلح المنظم ضد الوجود
البريطاني في منطقة القناة، وأبدعت الثورة سنة 1919 وفي ذروة الأحداث شكلًا
نضاليًا جديدًا تمثل في إعلان استقلال بعض المدن وإدارتها إدارة ذاتية، وأشهرها
جمهورية زفتى.
كان المصريون
يبتكرون الأشكال النضالية الملائمة لكل مرحلة، حقًا لم يحققوا نصرًا بالضربة
القاضية لكنهم نجحوا في انتزاع مكاسب تدريجية.
أما الصراع الحزبي الذي يعتبره الميثاق الوطني
"ملهاة تشغل الناس، وتحرق الطاقة الثورية في هباء لا نتيجة له"، فأمر طبيعي في النظم الديمقراطية
وأظن أنه ميزة أساسية من مميزات الحقبة الليبرالية في تاريخنا وليست عيبًا، لقد
تشكل الوفد المصري وفي البلاد حزبًا واحدًا متبقيًا من مرحلة ما قبل الثورة أعني
الحزب الوطني، وكان الوفد مجمعًا للتيارات السائدة في الساحة السياسية المصرية
وقتها، وسرعان بدأت الانقسامات داخل الوفد المصري حول المواقف السياسية، كان
الانقسام الأكبر بخروج المجموعة التي شكلت حزب الأحرار الدستوريين، وتوالت
الانقسامات داخل الوفد حتى أن معظم الأحزاب المؤثرة خلال الحقبة الليبرالية أو
قيادتها على الأقل خرجت من جعبته، ما عدا الحزب الوطني والحزب الديمقراطي الذي
تأسس من مجموعة من الشباب انضم أبرزهم إلى حزب الأحرار الدستوريين فيما بعد، ثم
الأحزاب العقائدية: الحزب الاشتراكي ثم الحزب الشيوعي وحزب مصر الفتاة المتأثر
بالفاشية، أما جماعة الإخوان فقد نشأت في أحضان شركة قناة السويس وسعت لضرب قيم
الوطنية المصرية وشق وحدة الأمة مسخرة نفسها كأداة في يد القصر والحكومات المعادية
للشعب، إلى أن وضع نظام يوليو أسس الحكم الشمولي مصادرًا الحق في التعددية
والتنظيم المستقل، فكان طبيعيًا أن يرى الميثاق في الحزبية شيئًا معيبًا.
بعد كل هذا
فالإجابة على السؤال في ضوء ما تحقق من أهداف:
لقد نجحت ثورة
1919 في الانتقال بمصر إلى عصر جديد استمر على الأقل حتى عام 1952، وكانت له آثاره
الممتدة في الحراك الثقافي والاجتماعي في العقدين الأولين من النصف الثاني من
القرن العشرين؛ ورغم التراجع الذي شهدته بعض مكاسب الثورة فما زال حلم دولة
المواطنة والقانون والمشاركة السياسية واستقلال القرار الوطني هدفًا واجب التحقيق.
مقال رفيع المستوى، وقراءة تحليلية دقيقة، وكم تمنيت شخصيا أن تكون حياتي في هذه المرحلة (وإن كان اهتمامي الأكبر فيها بتطور الفنون والآداب وتطور حركة الدوريات على نحو غير مسبوق أو متبوع*. تحياتي... محمود الضبع
ردحذفتحياتي وشكري
ردحذف