الأربعاء، 28 مارس 2018

القناة في عيون المصريين


 مقالي في كتالوج معرض 150 سنة على افتتاح قناة السويس في معهد العالم العربي في باريس

القناة في عيون المصريين
عماد أبو غازي

  في 30 نوفمبر 1854 أصدر سعيد باشا والي مصر فرمان امتياز مشروع حفر قناة السويس لمسيو فرديناند دلسيبس، منذ ذلك الوقت أصبحت القناة ضمن اهتمامات المصريين؛ وترجع علاقة مصر بمشروعات ربط البحرين الأحمر والمتوسط والكتابة عنها إلى عصور حضارتهم القديمة، وقد كانت هذه المشروعات تقوم على أرض الواقع بربط النيل بالبحر الأحمر، وإن كانت مشروعات ربط البحرين مباشرة قد ترددت في العصور الوسطى أكثر من مرة دون أن تنفذ على أرض الواقع؛ لكن ما حدث في منتصف القرن التاسع عشر واستمر لأكثر من مئة عام، ما بين فرمان الامتياز في 30 نوفمبر 1854 وقرار التأميم في 26 يوليو 1956 كان أمرًا مختلفًا؛ فقد كان المصريون أمام مشروع عملاق يتم على أرضهم ويقومون بحفره ولا يمتلكونه، مشروع وضع بلدهم في بؤرة الصراعات العالمية مجددًا؛ فبعد أن كانت أمور البلاد قد استقرت في أعقاب معاهدة 1840، عادت مصر مرة أخرى مسرحًا للتنافس الاستعماري وصراع المصالح بين الدول الكبرى، وقد دفع هذا الوضع كثيرًا من الساسة والمؤرخين المصريين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى القول بأن مشروع القناة كان نقمة على البلاد، وأنه كان المسئول الأول عن أزمة الديون التي انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر.
 ويغلب على رؤية الكتاب المصريين نظرة التوجس من المشروع، أو على الأقل مما ترتب عليه من نتائج سياسية خاصة في أعقاب الاحتلال البريطاني لمصر، فيميل أغلب من أرخوا لموافقة سعيد باشا على مشروع دلسيبس إلى أن الموافقة كانت متعجلة ولم تسبقها دراسة كافية وأن الصداقة القديمة بين سعيد ودلسيبس كانت وراء هذه الموافقة، وأن رجال الدولة أيدوا المشروع عندما شعروا برغبة سعيد باشا في الموافقة، كما يرون أن فرمان منح الامتياز كان مجحفًا بحقوق مصر، بينما يذهب الدكتور لويس عوض إلى أن قرار سعيد باشا كان ناتجًا عن رغبته في تغيير اتجاه السياسة المصرية إلى التحالف مع فرنسا بدلًا من إنجلترا، وأن الامتياز كان متوازنًا ويحقق مكاسب واضحة لمصر، لكن ضعف مصر السياسي وضعف الدولة العثمانية أديا إلى تأويل نصوص العقد في غير صالح مصر، وإلى ضياع حقوق مصر مع استحكام أزمة الديون.
 ومن الكتابات المبكرة التي تعرضت لقناة السويس من وجهة نظر مصرية ما كتبه علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية، حيث أشار إلى قناة السويس في أكثر من موضع، ففي الجزء الأول، تحت عنوان تولية سعيد باشا، قال: "ومن مهمات الأعمال التي حدثت في عهده اتصال البحرين الأحمر والأبيض بالترعة المالحة المارة في برزخ السويس، وأمرها من أهم المسائل السياسية الشاغلة لأفكار جميع الدول".
 كما تحدث عن القناة في مواضع أخرى عند حديثه عن عصر إسماعيل وعن مدينة الإسماعيلية وبور سعيد والسويس، لكن حديثه المسهب عن "ترعة البرزخ" أو "الترعة المالحة" كما كان يسمي القناة، فشغل قرابة أربعين صفحة في الجزء الثامن عشر المخصص لمقياس النيل، وكان الخليج المصري مدخله للحديث عن القناة؛ حيث يستعرض الروايات التاريخية عن الخليج والمراحل التي حقق فيها الربط بين النيل والبحر الأحمر مرورًا بمنطقة البحيرات، كما يعرض الروايات التي تتحدث عن خليج آخر كان ينطلق من الفرما حتى منطقة البحيرات فتحقق بذلك ربط البحرين في أزمنة سابقة.
 وينتقل للحديث عن القناة فيؤكد أنه: "لا يخفى أن ترعة البرزخ هي أهم وسائل الوقت؛ لكونها صارت الطريق العام لجميع تجارة العالم، ومعلوم أن التجارة هي أساس السعادة عند الأمم، فدرجة أهميتها عند كل أمة تكون بالنسبة لدرجة تجارة تلك الأمة"؛ الأمر الذي يؤكده راشد البراوي أستاذ الاقتصاد بالتفصيل في كتابه: "مجموعة الوثائق السياسية – المركز الدولي لمصر والسودان وقناة السويس" الصادر عام 1952، والذي حلل فيه عقد امتياز حفر القناة ونصوص معاهدة القسطنطينية لسنة 1888.
 ويرى مبارك أن فتح "ترعة البرزخ" فتح على مصر أبوابًا لم يكن في قدرتها إقفالها، ما لم تحفها العناية الربانية بإقفالها، وتحفظها من غوائلها." ويلوم على سعيد باشا تسرعه في الموافقة على المشروع وتساهله مع دلسيبس، ويقول: "ونشأ عن هذا التساهل ما نحن فيه، وما تصير إليه بلادنا وتراه أولادنا في مستقبل الأيام".
 ثم يستعرض تطور المشروع منذ عرضه دلسيبس على سعيد باشا حتى احتفالات افتتح القناة، ويتحدث عن الخلافات التي وقعت بين الحكومة المصرية والشركة في مراحل مختلفة من العمل، وتفاصيل العمل وتكلفته المالية، ويحدد الأضرار والخسائر التي لحقت بمصر بسببه، ويوجه الانتقاد إلى المبالغة في الانفاق على حفل الاحتفال الذي بلغ سدس الإيراد السنوي لمصر.
 طوال سنوات الاحتلال التي جاوزت السبعين سنة، وخلال كل المفاوضات التي دارت بين الحكومات المصرية المتعاقبة والحكومة البريطانية كانت قناة السويس وحماية الملاحة الدولية فيها من القضايا الشائكة المعقدة التي تؤدي دوما بالمفاوضات إلى طريق مسدود؛ إلى جانب قضية السودان، الأمر الذي عبر عنه رسم كاريكاتيري يعود لعام 1930 نشرته مجلة فرعون، يمثل جون بول يساوم امرأة مصرية على طرحتها وجلبابها اللذين يمثلان السودان والقناة مقابل أن يمنحها استقلالها وشرفها.
 ويبدو أنه كان هناك إدراكًا مبكرًا لدى الحركة الوطنية لتأثير القناة على قضية الجلاء؛ ففي وثيقة سرية في أوراق الإمام محمد عبده ترجع إلى عام 1883 تتضمن مشروع برنامج للحزب الوطني للتفاوض به من أجل جلاء قوات الاحتلال، يسعى البرنامج إلى التخلص من عبء القناة؛ حيث ينص على:
 "لما كان اتصال قنال السويس بالقطر المصري باعثًا مداومًا على حدوث قلاقل سياسية بمصر، إرتأى زعماء الحزب الأهلي أن تبادر الدول إلى الاتفاق مع الباب العالي على فصل ترعة السويس من ممالك الدولة العلية وجعلها دومًا تحت سلطة أية دولة كانت أو تحت سلطة الدول إجمالًا، لأن مصر لا تحتاج إلى الترعة البتة، بل وجودها في حيز حكمها ثقلًا عليها وخطر على دوام الأمن فيها، وبناء على ذلك يشير الحزب الأهلي إلى إما حق الاستيلاء على الترعة المذكورة لذي ثمن يجب الالتفات إليه  متى جرت المفاوضة بينهم وبين الدول في وضع ترتيب جديد لمالية مصر."
 وترصد الدراسات الأكاديمية حول تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية من أجل استقلال مصر وأهمها دراسة محمد شفيق غربال عن "تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية"، ودراسة محمد مصطفى صفوت مصطفى عن "إنجلترا وقناة السويس" الصادرتين عام 1952، الظهور المتكرر لمسألة قناة السويس على طاولة المفاوضات، ووقف هذا الموضوع ضمن موضوعات أخرى في طريق النجاح في الوصول إلى اتفاق.
 كما كتب المؤرخ المصري محمد صبري السوربوني أكثر من مرة عن قضية حياد القناة وعلاقته بحياد مصر منذ عشرينيات القرن الماضي؛ وفي عام 1950 عاد للكتابة في هذا الموضوع مرة أخرى في جريدة المصري واستعرض تاريخ القناة وأكد على أهمية تدويل القضية المصرية والحفاظ على حياد مصر في الصراعات الدولية وعلى حياد قناة السويس.
  أما عبد الرحمن الرافعي القانوني والمؤرخ الذي ينتمي إلى الحزب الوطني فقد تعرض لقناة السويس في أكثر من موضع من كتبه التي تناول فيها تاريخ مصر القومي منذ السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر حتى عام 1958؛ ففي تقييمه لشخصية محمد علي في كتابه الذي صدرت طبعته الأولى عام 1930، يقول في سياق الإشادة بحكمة محمد علي وحذره في مشروع بناء الدولة الحديثة، "ويكفيك برهانًا على بعد نظره في السياسة، إنه لما عرض عليه مشروع حفر قناة السويس أعرض عنه رغم إلحاح بعض الماليين والسياسيين الإفرنج، إذ رأى أنه سيؤدي إلى تدخل الدول في شؤون مصر واتجاه الأطماع إليها وجعلها هدفًا للدسائس الاستعمارية مما يفضي إلى ضياع استقلالها، ومما يؤثر عنه أنه قال في هذا الصدد: "إذا أنا فتحت قناة السويس فسأنشئ بوسفورًا ثانيًا، والبسفور سيؤدي إلى ضياع السلطنة العثمانية، وبفتح قناة السويس تُستهدف مصر للأطماع أكثر مما هي الآن، ويحيق الخطر بالعمل الذي قمت به وبخلفائي من بعدي"؛ ويستطرد الرافعي قائلًا: ولقد حققت الأيام صدق نظره، وما كان أجدر خلفاءه أن يعملوا برأيه فلا يغامروا بمستقبل البلاد وينشئوا بسفورًا ثانيًا أفضى إلى ضياع استقلالها، ولكن هكذا شاء جَدُّ مصر العاثر أن يتنكبوا سبيله ويفتحوا تلك القناة التي كانت شؤمًا على البلاد؛ إن كفاءة محمد علي كرجل سياسي بعيد النظر ظهرت في تأسيس الدولة المصرية المستقلة وفي إبعاد اليد الأجنبية عن التدخل في شؤونها، ومن هنا جاءته فكرة المعارضة في فتح قناة السويس.
 وفي كتابه عصر إسماعيل الصادر عام 1932 يعود لينتقد مشروع القناة بشدة، فيقول: "يعد مؤرخو أوروبا والفرنسيون منهم خاصة، مشروع قناة السويس مفخرة سعيد باشا، ويقولون أنه بهذا العمل قد أدى أعظم خدمة للإنسانية والحضارة، وهم فيما يقولون إنما ينظرون إلى هذا العمل من وجهة النظر الأوروبية، فلا شك أن قناة السويس قد أفادت التجارة الأوروبية فوائد كبرى، بتقريبها طريق المواصلات بين أوروبا والشرق، وأفادت أيضًا الاستعمار الأوروبي، لأنها مكنت الدول الاستعمارية من إرسال الحملات والتجاريد الحربية عن طريق القناة إلى آسيا وأفريقية لإخضاع ممالك الشرق وشعوبه... أما من وجهة النظر المصرية، فالقناة كانت شؤمًا على البلاد واستقلالها، لأنها أطمعت فيها دول الاستعمار، وجعلتها تسعى سعيًا حثيثًا للاستيلاء على مصر... وإذا كان المؤرخون الإفرنج يعدون مشروع القناة أكبر مفخرة لسعيد باشا، فإننا نعده بالعكس أكبر غلطة له في تاريخه، لأنه بعمله هذا قد فتح باب التدخل الاستعماري في مصر على مصراعيه، وجعلها هدفًا للمطامع الأوروبية." كما يلوم الخديوي إسماعيل لاستمراره في المشروع.
 ويناقش الرافعي في كتابه عن محمد فريد الرئيس الثاني للحزب الوطني مشروع مد امتياز شركة قناة السويس ويفرد له صفحات من الكتاب يعرض فيها للمشروع الذي تبنته حكومة بطرس باشا غالي، ومقاومة الحزب الوطني بزعامة فريد للمشروع، وتطورات الصراع السياسي حول المشروع والتي انتهت برفضه في الجمعية العمومية، ثم جريمة اغتيال بطرس باشا غالي على يد أحد أنصار الحزب الوطني.
 وقد كان مشروع مد امتياز القناة من المشروعات التي قابلتها الحركة الوطنية بمعارضة شديدة ونجحت في وقفها، وقد امتلأت صحف الحركة الوطنية بالمقالات الرافضة للمشروع، كما شارك الشعراء والأدباء في المعركة، ومن أشهر القصائد التي ارتبطت بهذه القضية قصيدة حافظ إبراهيم التي أيد فيها مطالب الحركة الوطنية بإلغاء المشروع.
 وقد ظلت أصداء قضية مد امتياز القناة تتجدد بين حين وآخر، فعاد للكتابة فيها عباس محمود العقاد أكثر من مرة، ففي كتابه عن سعد زغلول الصادر عام 1936 أكد على رفض سعد للمشروع رغم أنه كان عضوًا في الحكومة، كما أكد على أنه كان صاحب اقتراح عرض المشروع على الجمعية العمومية، وهو الذي رتب وحشد لرفضه، كما عاد لطرح القضية في يومياته مرة أخرى عام 1956.  
 أما الكتب المدرسية في الأربعينيات ومثالها كتاب تاريخ مصر السياسي للصف الرابع الثانوي، فتعرض لفكرة المشروع في عهد محمد علي ورفض الباشا لها، وتوجه انتقادات صريحة لأسلوب سعيد باشا في قبول عرض دلسيبس، وكيف تورطت مصر في الديون بسبب مشروع القناة، كما يعرض لخديعة دلسيبس لعرابي أثناء المعارك مع قوات الاحتلال، عندما أقنعه بأن القناة ممر ملاحي دولي محايد، وأن الأساطيل البريطانية لن تدخل مصر من خلالها، فأثناه عن قرار إغلاق القناة؛ وينتهي الكتاب إلى أن فتح القناة كان خسارة كبيرة على مصر من الناحيتين السياسية والمالية.
 أما الكتب المرجعية الجامعية ومنها كتاب أحمد الحتة الذي كان يُدرّس في مطلع الخمسينيات وعنوانه تاريخ مصر الاقتصادي، فعند حديثه عن قناة السويس عرض لتاريخ مشروعات ربط النيل بالبحر الأحمر منذ أقدم العصور، لينتقل إلى مشروعات ربط البحرين في العصر الحديث، ثم يناقش الموضوع بالتفصيل بمزاياه وعيوبه.
 هذه بعض نماذج تكشف عن رؤية المصريين لمشروع القناة التي كانت في مجملها سلبية.


المصادر
·         أحمد أحمد الحتة: تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، مطبعة المصري، القاهرة، 1950.
·         إلياس الأيوبي: تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا، المجلد الأول، القاهرة، 1923.
·         إيمان عامر: قناة السويس في الوجدان المصري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2009.
·         راشد البراوي: مجموعة الوثائق السياسية، الجزء الأول – المركز الدولي لمصر والسودان وقناة السويس، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1952.
·         عباس محمود العقاد: سعد زغلول سيرة وتحية، مطبعة حجازي، القاهرة، 1936؛ ويوميات، دار المعارف، القاهرة، 2005.
·         عبد الرحمن الرافعي: عصر محمد علي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1930؛ وعصر إسماعيل، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1932؛ ومحمد فريد رمز الإخلاص والتضحية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1941.
·         علي مبارك: الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، مطبعة بولاق، 1305ه.
·         محمد رفعت: تاريخ مصر السياسي في الأزمنة الحديثة، وزارة المعارف العمومية، القاهرة، 1943.
·         محمد شفيق غربال: تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1952.
·         محمد صبري: أدب وتاريخ واجتماع، مطبعة مصر، القاهرة، 1950.
·         محمد مصطفى صفوت: إنجلترا وقناة السويس 1854 – 1951، الجمعية الملكية المصرية للدراسات التاريخية، القاهرة، 1952.
·         مصطفى الحفناوي: قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة، القاهرة، 1952.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...