زي النهار ده من 500 سنة اتشنق طومان باي أخر
سلاطين مصر على باب زويلة
السلطان
الشهيد على باب زويلة
عماد
أبو غازي
"على باب
زويلة" عنوان لرواية للروائي الراحل سعيد العريان، تناول فيها أحداث سقوط
دولة المماليك وشنق أخر سلاطينهم الأشرف طومان باي، وباب زويلة كان أحد الأبواب الرئيسية
لمدينة القاهرة التي شيدها الفاطميون في منتصف القرن العاشر الميلادي لتكون دارًا
لحكمهم، وباب زويلة الباب الجنوبي الكبير للمدينة، الذي كان المدخل الرئيسي لسكان
الفسطاط والمناطق السكنية التي امتدت إلى الجنوب من القاهرة بينها وبين العاصمة
القديمة للبلاد، وقد اتخذ الباب موقعا لشنق المجرمين والمعارضين للدولة وتعليق
جثثهم.
باب زويلة
وعندما وقع
السلطان طومان باي في يد عدو البلاد وعدوه سليم الأول العثماني بعد ثلاثة أشهر من
الهروب والمقاومة، وقرر سليم إعدامه، تم تنفيذ الحكم عند باب زويلة، وكانت المرة
الأولى والأخيرة التي يعدم فيها سلطان البلاد ويعلق على باب زويلة.
شنق طومان باي من مخطوطة تركية
وقد احتل طومان
باي مكانة كبيرة في وجدان الناس في مصر، واستمرت تلك المكانة لأجيال عدة بعد
استشهاده، أو إعدامه على باب زويلة، فقد ظل الناس يقرأون الفاتحة عند مرورهم تحت
باب زويلة في الموقع الذي شنق فيه طومان باي حتى سنوات قليلة مضت ترحمًا على
الرجل، وكانوا يشيرون إلى بقايا حبل في الخطاف الموجود بسقف الممر الذي يتوسط
الباب باعتباره الحبل الذي شنق به طومان باي.
صورة متخيلة لموكب طومان باي لرحالة أوروبي ق 16
فيقول ابن زنبل
الرمال: "وكان ذلك اليوم على أهل المملكة أشأم الأيام، وبكت عليه الأرامل
والأيتام"، أما المؤرخ محمد بن أحمد بين إياس المصري فيقول: "فلما شنق
وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف، فإنه كان شابًا
حسن الشكل سنه نحو أربع وأربعين سنة، وكان شجاعًا بطلًا تصدى لقتال ابن عثمان وثبت
وقت الحرب وحده بنفسه، وفتك في عسكر ابن عثمان وقتل منهم ما لا يحصى، وكسرهم ثلاث
مرات في نفر قليل من عسكره، ووقع منه في الحرب أمور لا تقع إلا من الأبطال... وقد
مضت أخباره كأنه لم يكن". قال في رثائه أبياتا منها:
لهفي على سلطان مصر كيف قد ولى وزال كأنه لن يذكرا
شنقوه ظلما فوق باب زويلة ولقد أذاقوه الوبال الأكبرا
يا رب فاصفح عن عظائم جرمه واجعل جنات النعيم له قرا
لقد تولى طومان
باي عرش السلطنة عقب التأكد من مصرع عمه السلطان قانصوه الغوري في مرج دابق، وكان
العصر يحمل كل ملامح النهاية: انهيار للأوضاع الاقتصادية، ترتب عليه اضطراب
اجتماعي، صراع سياسي بين الأمراء، ضعف عسكري واضح، وأخيرا عدو خارجي متربص
بالبلاد، وفي ضوء هذا الإطار التاريخي نستطيع أن نتفهم المصاعب التي تواجه أميرًا
يتولى زمام الأمور في عصر مضطرب، يرث فيه جيشا مهزوما، ووضعا داخليا منهارا بينما
عدو زاحف يدق الأبواب.
ورغم صعوبة
الظروف فإن الصورة التي رسمتها المصادر التاريخية المعاصرة لطومان باي عندما تتحدث
عنه أميرًا، ثم سلطانًا حاكمًا، ثم سلطانًا مخلوعًا يقاوم العثمانيين تكشف عن
ملامح شخصية متميزة ومختلفة تمامًا عن غيرها من أمراء ذلك العصر وسلاطينه، فالصورة
التي أمامنا صورة لشخصية محببة إلى قلوب الشعب قريبة منه إلى حد بعيد، بل وملتحمة
معه في اللحظات الحرجة، كما حدث عندما استعان طومان باي بالمصريين في مواجهة
العثمانيين بعد أن دخلوا القاهرة ونجح في استردادها منهم بعدة أيام.
وقد ساعدت
مقاومة طومان باي الباسلة للعثمانيين والنهاية المأساوية لهذه الشخصية في حفر صورة
مضيئة لطومان باي في الوجدان الشعبي المصري باعتباره واحدا من الأبطال القوميين في
تاريخنا رغم أنه جركسي الأصل.
لقد أصبحت وقائع
الغزو العثماني لمصر ـ التي سجلها الشيخ أحمد ابن زنبل الرمال وأبرز فيها دور
طومان باي في التصدي لهذا الغزو، ومعاركه ضد سليم الأول وجيوشه، ثم وقوعه في الأسر
وشنقه ـ واحدة من السير التي تروي في مقاهي القاهرة في العصر العثماني، كما أن
روايات الرحالة الأوروبيين لواقعة أسر طومان باي وشنقه، التي استمرت تتردد في
مدوناتهم عن رحلاتهم إلى مصر طوال أكثر من مائة عام تالية للغزو العثماني للبلاد،
تكشف عن المكانة التي احتلها طومان باي في وجدان الشعب المصري، فلا شك في أن مصدر
هذه الروايات هم المصريون الذين التقى بهم هؤلاء الرحالة.
وإذا كانت تلك
الروايات قد امتلأت بالمبالغات عن بطولات طومان باي وشجاعته وصلابته في مواجهة
تعذيب تعرض له لانتزاع الاعترافات منه عن أماكن وجود كنوزه، فإن هذه المبالغات
التي ولدها الخيال الشعبي تعكس مقدار الإعزاز الذي كان المصريون يحملونه لطومان
باي.
وحسب ما تذكره
المصادر العربية فإن إعدام طومان باي أحدث صدىً واسعَا بين المصريين الذين حزنوا
عليه حزنًا شديدًا، فقد ظل لعدة شهور بعد الغزو العثماني لمصر يمثل أمل المصريين
في التخلص من هذا الاحتلال الجديد، وبإعدامه خبا هذا الأمل.
وقد كان حزن
الناس على طومان باي أمرًا مفهومًا، فقد كان حسب معاصريه أميرًا وسلطانًا
"لين الجانب قليل الأذى كثير الخير غير متكبر ولا متجبر، كما كان دينًا صالحًا
خيرًا فاضلًا زائد الأدب والسكون والخشوع والخضوع..."، كما تشير تلك المصادر
إلى أنه كان زاهدًا في جمع المال بخلاف غيره من أمراء العصر وسلاطينه.
إلا أن دعته
وهدوءه لم يمنعاه من أن يكون محاربًا شجاعًا مقدامًا خبيرًا بالحرب، وقد بدت
مهارته الحربية في معاركه التي تصدى فيها لسليم الأول بدءًا من الريدانية وانتهاء
بمعركة الجيزة عبر ما يقارب الأشهر الثلاثة، وقد أذهلت شجاعته وقدراته الحربية
معاصريه حتى الأعداء منهم، وقد سجل طومان باي بنفسه ـ وفقا لرواية ابن زنبل الرمال
ـ ملحمته وحربه مع سليم وذلك بعد هزيمته الأخيرة في موقعة الجيزة من خلال قصيدة
طويلة أنشدها أمام الأهرام لأحد أمراء جيشه الذين صمدوا معه حتى النهاية وهو الأمير
قيت الرجبي، وعلقها على الهرم مثلما كانت المعلقات تعلق على أستار الكعبة، وقال في
مطلعها:
دموع العين فاضت من مآق
|
وقلبي ذاب من
كثر احتراق
|
فلا ناري طفاها دمع عيني
|
ولا دمعي يفيض
من اختناق
|
وشمس السعد في شرق المعالي
|
وبدر الضد في
درج المحاق
|
فلما أن أراد الله هذا
|
أتانا الروم
من جهة العراق
|
وسلطان الجميع سليم شاه
|
عظيم الملتقى
مر المذاق
|
وكان الماجد الغوري منا
|
مليكا شبه بحر
في اندفاق
|
وكان الحرب يوم الحد لكن
|
تولى جيشنا
والحرب باق
|
وسلطان لنا أضحى قتيلا
|
طريحا والدماء
لفي انهراق
|
وكان الخائن الكلب الغزالي
|
وخاير بك
مبوطن في النفاق
|
هما أصل الهزيمة عن حقيق
|
لدى حلب كخيل
في سباق
|
وساروا بعدها سيرا حثيثا
|
لغزة ثم مصر
في لحاقي
|
ولما استجمعوا في مصر قالوا
|
نسلطن أيكم
والضد باق
|
وجاءتنا رجال الروم مصرا
|
وقد حازوا
البلاد مع الآفاق
|
وأخرجت الجموع لنلتقيهم
|
وكان الشر يوم
الحرب راقي
|
وفي خط المدافع قام قومي
|
وزادوا في
الخصام وفي الشقاق
|
وقد جاءت علينا الروم حقا
|
كبحر هائج في
الاندفاق
|
قتلنا من ملوكهم ثلاثا
|
وأسقيناهم كأس
الرهاق
|
ولما قد رأوا ذا العقل مني
|
أتونا كالجبال
بانطباق
|
وأسقيناهم كأس المنايا
|
فخروا للذي مذ
كنت ساقي
|
ولما أن رأيت الحرب دارت
|
علي ولم
تتابعني رفاقي
|
فوليت الجواد لنحو مصر
|
وأيقنت الفناء
والله باق
|
ثلاثة أيام كان القتل فيهم
|
وفينا
والعساكر في محاق
|
وبعد الظهر جاءتنا جيوش
|
عداد الرمل
جمعا في انطباق
|
وزلزلت البلاد بهم إلى أن
|
حسبت الحشر
قام مع التلاقي
|
فقلت لرفقتي خلوا وفلوا
|
وولينا جميعا
بافتراق
|
وعدنا عن قتال الروم قهرا
|
لقينا قيث
رجبى من بلاق
|
وعلقنا على الأهرام شعرا
|
كنظم الدر في
حسن السياق
|
لمن يقرأه معبرا ليدري
|
بأن الله بعد
الخلق باق
|
وتجزي كل نفس يوم عرض
|
بما فعلته في
يوم التلاقي
|
ولم يكن
حب الناس لطومان باي مرتبطًا بتوليه للسلطنة ومقاومته للعثمانيين، فمنذ كان أميرًا
دوادارًا كبيرًا في عصر عمه السلطان الغوري كان محببًا لعامة الناس لاختلافه عن
غيره من الأمراء، هذا وقد أمتد الإعجاب بطومان باي إلى الأوروبيين المعاصرين فبعد
أكثر من مائة عام على شنقه نجد صورة هذا المشهد حاضرة في كتابات الرحالة
الأوروبيين الذين زاروا مصر، وقد دفع هذا الإعجاب مؤرخًا إيطاليا معاصرًا لطومان
باي هو باولو جيوفو إلى وضع طومان باي ضمن الشخصيات التاريخية الكبرى في العالم،
وإلى إفراد قسم من تاريخه لطومان باي.
طومان كما تخيله باولو جيوفو
لكن هل هذه
الصورة المثالية التي رسمها المؤرخون والرحالة لطومان باي دقيقة تمامًا؟
لقد كان طومان
باي أميرًا ثم سلطانًا محبوبًا من الناس وذلك كما تذكر المصادر لقلة الأذى والضرر
الذي كان يسببه للعامة إلا أن مناقبه ينبغي ألا تدفعنا إلى رسم صورة مثالية خيالية
له، فمحاسنه تلك تقاس إلى أمراء عصره وسلاطينه وما كانوا يرتكبونه من مظالم فادحه
بحق الرعايا، أم هو فكانت مظالمه قليلة ومحدودة، كما أن تصويره بصورة الزاهد
الفقير أمر مبالغ فيه، فقد كانت له ثروة ضخمه وقفها على نفسه وعلى ذريته من بعده
أثناء حياته، ووقف جزء منها على بعض المساجد والأعمال الخيرية، خاصة تلك المساجد
التي شيدها عمه السلطان الغوري، لكن الشعوب تصنع لأبطالها الصورة التي تحبها بغض
النظر عن الحقيقة التاريخية.
عموما لقد استشهد طومان باي في مثل هذا اليوم من خمسمئة
سنة في 13 أبريل سنة 1517 لكنه ظل حيًا في وجدان المصريين لسنوات وسنوات تشهد على
ذلك المعتقدات التي نسجها خيال الشعب حول باب زويلة والمنطقة المحيطة به حيث شنق
طومان باي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق