المولد
النبوي في مصر من عصر لعصر
عماد
أبو غازي
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف من الاحتفالات
التي ظهرت في مصر، ويجمع المؤرخون على أن بداية الاحتفال به كانت في العصر
الفاطمي، وعلى وجه التحديد عقب انتقال الخلافة الفاطمية إلى مصر، فقد التقط
الفاطميون روح الشعب المصري المحبة للفرح والبهجة؛ فأرسوا قواعد كثير من
الاحتفالات بمناسبات دينية ودنيوية، كما حولوا بعض احتفالات المصريين الشعبية إلى
احتفالات رسمية للدولة، ولم تفلح محاولات الأيوبيين في القضاء على هذه الأعياد
والمناسبات في سياق جهودهم لطمس معالم الدولة الفاطمية في مصر.
وعبر أكثر من ألف عام تطور احتفال المولد النبوي
الشريف في مصر وتغيرت أشكال الاحتفاء بهذه المناسبة؛ لقد أصبح الاحتفال الرسمي
قاصرًا على تلاوة القرآن الكريم وإلقاء بعض الخطب والمواعظ، وأحيانًا توزيع
الجوائز على الفائزين في المسابقات الدينية، أو المكرمين من جانب الدولة من بين
الدعاة ورجال الدين، ودائمًا تقديم بعض الوجوه الدينية المكررة، على قنوات
التلفزيون المختلفة، وربما فيلم "فجر الإسلام" أو "الشيماء"
أو غيرهما من الأفلام الدينية القديمة.
لكن الناس احتفظوا ببعض مظاهر الاحتفال الشعبي،
وحافظوا عليها، فظلت حلوى المولد وعرائسه أبرز مظاهر المولد إلى اليوم، كما استمر
الريف المصري في بعض مناطقه يقيم مهرجانات المولد مثلما كان يفعل الأجداد.
وأقدم اليوم لقطات متفرقة من الاحتفال بالمولد
عبر عصور تاريخنا الممتدة:
المشهد الأول: من العصر الفاطمي، حيث يصف المقريزي احتفالات الفاطميين
بالموالد وفي مقدمتها المولد النبوي الشريف، وذلك نقلًا عن مؤرخي العصر الفاطمي،
فيقول: "فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، تقدم الخليفة بأن يعمل في
دار الفطرة عشرون قنطارًا من السكر اليابس، حلواء يابسة، وتعبأ في ثلاثمائة صينية
من النحاس" ـ ودار الفطرة هي دار كانت تقع خارج قصر الخليفة، بناها العزيز
بالله ثاني الخلفاء الفاطميين بمصر لتعد فيها الولائم وتوزع الهدايا والهبات في
الأعياد ـ وكانت تلك الصواني تفرق على
الأمراء ورجال الدولة والقضاة والدعاة، ويستمر توزيع صواني الحلوى من أول النهار
إلى الظهر، وبعدها يتوجه القضاة والدعاة وقراء القرآن وخطباء جوامع القاهرة
والقائمون على مشاهد آل البيت بها إلى الجامع الأزهر ليختموا القرآن الكريم هناك،
ثم يتوجهوا إلى قصر الخليفة ويقفوا تحت المنظرة ـ وهي الشرفة التي يجلس فيها
الخليفة ـ في انتظار ظهوره من طاقة صغيرة ليؤدوا له التحية ويردها، ثم يبدأ الجزء
الأخير من الاحتفال بتلاوة القرآن الكريم، ثم يتناوب خطباء المساجد الرئيسية
بالقاهرة ليلقي كل منهم خطبته بحضرة الخليفة، ثم ينصرفون جميعًا، وفي ذلك اليوم
تكنس شوارع القاهرة وترش بالماء.
المشهد الثاني: من
عصر المماليك الجراكسة الذي يبدأ بتولي السلطان الظاهر برقوق لعرش مصر، وقد حرص برقوق على إحياء
الاحتفالات الشعبية التي كان كثير منها قد اندثر، ومن الاحتفالات التي اهتم بها
برقوق احتفال المولد النبوي، وتروي المصادر التاريخية وقائع الاحتفال بالمولد في
سنة 785هـ الموافقة لسنة 1383م، يقول أحد المعاصرين: "لقد حضرت ليلة مولد سنة
785 عند الظاهر برقوق بقلعة الجبل، فرأيت ما هالني، فكان ما أنفق في تلك الليلة
على القراء الحاضرين وغيرهم نحو عشرة آلاف مثقال من الذهب العين ما بين خلع ومطعوم ومشروب ومسموع وغير ذلك بحيث لم
ينزل واحد منهم إلا بنحو عشرين خلعة من السلطان والأمراء.
وفي عصر قايتباي أعظم سلاطين المماليك الجراكسة،
أمر السلطان بصناعة سرادق عظيم ينصب في الاحتفالات الرسمية، وأهمها احتفال المولد
النبوي الشريف، وقام لصناعة هذا السرادق أمهر صناع الخيام في مصر، وصنعوه من القطن
المزين بشرائح الأطلس الملون بالألوان الزاهية، والمحلى بالرسوم البديعة، وقد ظل
هذا السرادق مستخدمًا حتى عصر السلطان الأشرف قانصوه الغوري، وعندما احتل
العثمانيون مصر سنة 923هـ / 1517م باع سليم السرادق للتجار المغاربة، فقطعوه قطعًا
وباعوها للناس ستائر ومفارش، وكان الاحتفال بالمولد سنة 923هـ من أسوأ الاحتفالات
في تاريخ مصر، حيث يقول ابن إياس المصري مؤرخ ذلك الزمن: "فلم يشعر به أحد من
الناس، وبطل ما كان يعمل في ليلة المولد من اجتماع العلماء والقضاة الأربعة
والأمراء بالحوش السلطاني، كما بطلت الأسمطة التي كانت تمر في ذلك اليوم وألغي ما
كان يعطى للقراء والوعاظ والفقراء من الخلع وأنواع الإنعام في تلك الليلة".
المشهد الثالث: احتفال المولد في زمن الحملة
الفرنسية، عقب
نجاح جيوش بونابرت في احتلال مصر كان الناس في حالة من الغم والضيق فلم يعدوا
للاحتفال بالمولد النبوي الشريف كما هي العادة، ويقول عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ ذلك
العصر: إن بونابرت سأل عن سبب عدم عمل المولد كالعادة فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل
الأعمال وتوقف الأحوال، فلم يقبل بونابرت الاعتذار وأصر على عمل المولد، وأعطى
الشيخ البكري 300 ريال فرنسي معاونة من قيادة الحملة، وأمر بتعليق الزينات،
واجتمعت فرق من الجيش الفرنسي أمام بيت البكري بالأزبكية لضرب الطبول وإطلاق
الصواريخ، وفي ذلك اليوم تم تقليد الشيخ البكري نقيبًا للأشراف. وكان غرض بونابرت
من ذلك محاولة امتصاص الرفض الشعبي للحملة.
المشهد الرابع: المولد
في عصر محمد علي، يروي لنا إدوار وليم لين صاحب كتاب "المصريون
المحدثون" مشاهداته في المولد النبوي الشريف سنة 1834م، فيقول: "في أول
ربيع الأول يبدأ الاستعداد للاحتفال بمولد النبي، وأكبر ساحات هذا الاحتفال شأنًا
الجزء الجنوبي الغربي لذلك الفضاء الواسع المعروف ببركة الأزبكية، وفي هذه الساحة
أقيمت صيوانات كثيرة، جلها للدراويش، وفيها يجتمعون كل ليلة للقيام بحلقات الذكر،
ما دام الاحتفال بالمولد، وبين هذه الصيونات ينصب صاري يثبت بالحبال، ويعلق فيه من
القناديل أثنى عشر أو أكثر وحول هذا الصاري تقوم حلقة الذكر، وهي تتكون عادة من
نحو خمسين أو ستين درويشًا، وفي أثناء النهار يتسلى الناس في الساحة الكبرى
بالاستماع إلى الشعراء، وهم رواة قصة أبو زيد، وبالتفرج على الحواة والخلابيص
وغيرهم، أما الغواني فقد أكرهتهم الحكومة من عهد قريب على التوبة، وترك مهنتهن من
رقص ونحوه، فلا أثر لهن في احتفال هذه السنة، وكن في الموالد السابقة من أكثر
العاملات في الاحتفال اجتذابًا للمتفرجين، وفي عدة أماكن من الشوارع المجاورة
لساحة الاحتفال أقيمت مراجيح قليلة ومنصات لبيع الحلوى، أما في أثناء الليل فتضاء
الشوارع المحيطة بساحة المولد بقناديل كثيرة تعلق غالبًا في فوانيس من الخشب، ومن
دكاكين المأكولات ونصبات الحلوى ما يبيت مفتوحًا طوال الليل، وكذلك القهاوي التي
قد يكون في بعضها وفي غيرها من الأماكن شعراء ومحدثون ينصت إليهم كل من أراد من
المارة".
المشهد الخامس: من أربعينيات القرن العشرين، المشهد يرويه حسن السندوبي مؤلف كتاب "تاريخ
الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام الأول إلى عصر فاروق الأول"، حيث يصف
ليلة الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1364 هـ / 24 فبراير سنة 1945م، فيقول: "شهدت
في ساحة المولد بصحراء قايتباي المعروفة عند العامة بصحراء الخفير معالم الزينة تأخذ
بالألباب، ومظاهر الاحتفال التي بدت في شكل فخم ونظام جليل، وهناك في هذا الميدان المترامي
الأطراف أقيم السرادق الملكي البديع، وضعت في رحابه الأرائك المحلاة بالذهب، ورفعت
على سواريه الأعلام الملكية، وعلقت في مداخله المصابيح الباهرة الأنوار، الجاعلة الليل
فيه كوضح النهار، ووفد على هذا السرادق وزراء الدولة وشيخ الأزهر وطوائف العلماء ووكلاء
الوزارات ومديرو الإدارات ورؤساء المصالح وكبار الموظفين وقواد الجيوش وصفوف الضباط
وكبراء الأمة وأعيان الناس من ذوي المراتب والألقاب، وجميع هؤلاء قد وقفوا في جلال
ووقار انتظارًا لتشريف حضرة صاحب الجلالة". وبعد حضور الملك يبدأ الاحتفال بعرض
عسكري لفرق تمثل الجيش المصري، ثم يأتي موكب الفرق الصوفية حاملين أعلامهم وبيارقهم،
وبعد العرض تقدم صنوف الحلوى وأنواع المرطبات للحاضرين، وإلى جانب السرادق الملكي كانت
تقام سرادقات لمختلف الوزارات وهيئات الدولة.
وبعد فهذه صورة من احتفال المولد النبوي في مصر عبر
العصور والذي كان ومازال أحد أهم الاحتفالات الشعبية في مصر رغم الحرب التي يشنها التيار
السلفي ضد كل مظاهر البهجة في حياتنا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق