ملخص بحثي في مؤتمر "السيرياليون المصريون
من منظور عالمي".
زمن
السريالية في مصر
خلفية
تاريخية
عماد ابو غازي
"يتجلى
العدوان على الفن في البلاد الشمولية بأكثر السبل دناءة، ضد فن يصفه بالإنحلال،
عسكريون شرسون تبوؤا مراتب السادة مطلقي السلطان، وهم أدعياء علم منحلون."
من اعمال فؤاد كامل في المرحلة السيريالية
من مقتنيات الدكتور محمد أبو الغار
هذه الكلمات مقتطعة من البيان الذي يعد بمعنى من
المعاني مانيفستو للحركة السيريالية المصرية، والذي حمل عنوان:
"يحيا الفن المنحط".
ظهرت الحركة السيريالية في مصر في أواخر ثلاثينيات
القرن الماضي، ويؤرخ لظهورها بشكل أساسي بتأسيس جماعة الفن والحرية في يناير 1939،
والتي كانت لها إرهاصاتها السابقة على تأسيسها.
وتتمثل هذه الإرهاصات في تمرد عدد من مؤسسيها
على التقاليد الفنية والأدبية السائدة آنذاك، وفي صدور بيانات تدعو لتحرير الإبداع
منها إعلان الشرقيين الجدد سنة 1937، وفي تأسيس جماعات فنية تحدت تلك التقاليد
أبرزها جماعة "الإسيست". وقد وقع الانشقاق في تلك الجماعة بسبب هجوم
الشاعر جورج حنين على تواطؤ بعض المبدعين الإيطاليين مع الفاشية.
وكان ظهور جماعات أدبية فنية يغلب عليها التوجه
السريالي كجماعة الفن والحرية تعبيرًا عن احتكاك الحركة الفكرية والفنية في مصر
بتيارات الثقافة العالمية، فإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر عصر الثورة
على الكلاسيكية والرومانتيكية معًا، وإذا كانت التأثيرية بمثابة الطلقة الأولى في
معركة الفن الحديث تمثل فيها تحرر الفنان
من قيود الأكاديمية التقليدية، فإن النصف الأول من القرن العشرين شهد موجة ثورية
ثانية بدأت مع التكعيبية والمستقبلية والدادية، ووصلت ذروتها مع السيريالية بصدور
(المانيفستو السريالي) سنة 1924.
وعندما أسس جورج حنين جماعة الفن
والحرية كانت تعبيرًا مصريًا عن الدعوة التي حملها بيان المكسيك عام 1938 "من
أجل فن ثوري حر".
وربما كانت جماعة الفن والحرية أجلى تعبير عن
السيريالية في مصر، وقد ضمت إلى جانب جورج حنين عددًا من المبدعين المصريين
والأجانب المقيمين في مصر كان من أبرزهم كامل التلمساني ورمسيس يونان وأنور وفؤاد
كامل وأنجلو دي ريز.
وقد نشرت جماعة الفن والحرية
بيانها الشهير "يحيا الفن المنحط" دفاعًا عن حرية الفنان ضد اتجاهات
الدول التسلطية لتوجيه الفن والعدوان عليه، وتقييد حرية المبدعين.
وكانت معارض الجماعة التي بدأت منذ عام 1940 ثورة
في مجال الفنون التشكيلية في مصر، وقد استمرت الجماعة حتى النصف الثاني من
الأربعينيات، لتحل محلها لفترة قصيرة "جانح الرمال". ورغم أن الجماعة لم
تستمر في الوجود إلا لسنوات قليلة، إلا أن الاتجاه السيريالي في الفن المصري تواصل
كتيار من تيارات الحركة الفنية المصرية لسنوات بعدها، رغم تحول بعض رواده الى
التجريد.
حديثي في هذا المؤتمر يأتي من زاوية تخصصي في
التاريخ، فلست ناقدا للفن التشكيلي، من هنا فاشتباكي مع موضوع السريالية عرض
للخلفية التاريخية التي نشأت فيها الحركة السريالية وتطورت في مصر.
لقد أعلنت الحركة السريالية المصرية عن نفسها في لحظة تاريخية فارقة ليس
فقط في تاريخ مصر، بل في تاريخ العالم كله؛ فقد كانت النظم الشمولية: الستالينية
في الاتحاد السوفيتي والنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا والاستبدادية العسكرية
في اليابان تزداد قوة.
كانت الستالينية تواصل قمعها لشعوب الاتحاد
السوفيتي بدعوى بناء الدولة الاشتراكية السوفيتية، في الوقت الذي كانت تشيد فيه
حقيقية سلطة دولة بيروقراطية استبدادية.
وكانت النظم الثلاثة، الأخيرة النازية الألمانية
والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، تصعد من عدوانيتها ضد شعوبها ومن نزعتها
التوسعية في محيطها الإقليمي الذي اعتبرته مجالا حيويا لتوسعها.
كانت تدفع العالم إلى حافة حرب عالمية جديدة،
حرب تصتدم فيها مع معسكر الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى قبلها
بعقدين، فرنسا وبريطانيا العظمى، في صراع متجدد بين جناحي المعسكر الرأسمالي من
أجل السيطرة على العالم.
كانت غيوم الحرب تتجمع في الأفق، وكانت الحروب
التمهيدية الصغيرة قد بدأت بالفعل في حرب إيطاليا والحبشة، والحرب الأهلية
الأسبانية، والتوسع الياباني في الشرق الأقصى، والاعتداءات الألمانية المستمرة على
دول الجوار.
وبالفعل اشتعلت الحرب قبل أن ينتهي العام الذي
تأسست فيه جماعة الفن والحرية.
في نفس الوقت كانت هذه النظم الشمولية تفرض
قيودًا متزايدة على حرية الإبداع الفني والأدبي، بدعاوى الالتزام بالقيم والأخلاق،
أو دعاوى الالتزام بالتعبير عن "مصالح" الطبقة العاملة ورؤها، وتسعى
لفرض أساليب فنية تعبوية على المبدعين.
كانت حرية الفنان في خطر.
كان المثقفون والمبدعون والفنانون التقدميون
والأحرار حول العالم يتكاتفون معا، يدافعون عن مساحة الخيال الحر، ويقفون ضد
العدوانية والعسكرة، وضد النظم الشمولية، وضد الحرب بوجه عام، يقفون مع حرية
الإنسان وحرية المبدع.
وكانت
حركة الفن والحرية المصرية ذات التوجه السيريالي جزءا من هذا الحراك للأحرار من
مثقفي العالم ومبدعيه.
هذا عن الوضع الدولي، فماذا عن مصر؟
في هذا الوقت، النصف الثاني من الثلاثينيات،
كانت مصر تبدأ مرحلة جديدة في تاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي، جيل جديد من
الساسة والمثقفين والمبدعين يدخل بقوة الى الساحة الى جانب الجيل الذي تصدر المشهد
عقب ثورة ١٩١٩، وفي مواجهته أحيانا.
كانت البلاد قد خرجت من الانقلاب الدستوري
الأطول في الحقبة الليبرالية والذي استمر من عام 1930 إلى عام 1935، انقلاب فؤاد/صدقي،
فقد الشعب دستوره الذي حصل عليه في أعقاب ثورة ١٩١٩، دستور ٢٣، ليحل محله دستور
٣٠، الذي وسع من سلطات الملك على حساب البرلمان، وصدرت في ظله أسوأ القوانين
المقيدة للحريات، واصابت نيران هذا الانقلاب الدستوري الثقافة والفن والابداع،
فتمت مصادرة الصحف وإغلاقها، وسجن العقاد، وفصل حافظ ابراهيم من عمله في دار
الكتب، ونقل طه حسين من الجامعة الى ديوان وزارة المعارف، وأوقفت الحكومة تعاقدها
مع المثال مختار لعمل التمثالين الميدانيين للزعيم سعد زغلول في القاهرة
والإسكندرية.
كانت سنوات النصف الاول من الثلاثينيات سنوات من
الحكم الاستبدادي صودرت فيها الحريات، لكنها كانت أيضا سنوات شهدت مقاومة مستمرة
من القوى الديمقراطية، وحركة جماهيرية متواصلة، لعب فيها جيل جديد من الشباب دورا
أساسيا، وظهرت من بين هذا الجيل أسماء تصدرت العمل السياسي والعمل العام او شاركت
فيه لسنوات طويلة تالية، ففي هذا الحراك السياسي الثوري ظهرت اسماء جمال عبد
الناصر وإبراهيم شكري وحكمت ابو زيد وسهير القلماوي ومحمد حسن الزيات ونور الدين
طراف والدمرداش التوني وطلبة صقر، وهي اسماء برزت في مجالات السياسة والثقافة
والبحث والرياضة لسنوات.
انتهت هذه السنوات بما يعرف تاريخيا بثورة
الشباب عام ١٩٣٥، انتهت باستعادة دستور 1923، وعودة الوفد إلى الحكم على رأس حكومة
أئتلافية تضم الأحزاب الرئيسية، وقعت هذه الحكومة تحت ضغط اجواء الحرب معاهدة حصلت
مصر بمقتضاها على استقلال منقوص في عام 1936، حقا كانت خطوة الى الامام قياسا
بتصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ الذي تأسست بمقتضاه المملكة المصرية، لكنها كانت اقل من
طموح المصريين، وقد استتبع توقيع المعاهدة طموح لبداية عصر جديد في مصر، خاصة مع
اتفاقية مونترو التي تم بمقتضاها إلغاء الامتيازات الأجنبية.
لقد وصلت النخب السياسية التي قادت الثورة وبرزت
في أعقابها الى غاية ما يمكنها الوصول اليه في ذلك الوقت، ولم يعد حلم الاستقلال
التام قابلا للتحقيق بيد هذه النخبة، على الأقل لعدة سنوات.
وفي هذا السياق جاء صدور كتاب طه حسين "مستقبل
الثقافة في مصر"، الذي قدم فيه رؤية للتعليم والثقافة، وبقدر ما كان في هذا
الكتاب من تصورات تقدمية متطلعة إلى التغيير، بقدر ما تكشف عن قدر من المحافظة
والتردد في رؤى بعض أبناء هذا الجيل الذي تصدر المشهد الثقافي في أعقاب الثورة
المصرية، ثورة 1919. الامر الذي نجده واضحا بدرجة أكبر في كتابات مفكر اخر من جيل
طه حسين هو عباس محمود العقاد، فبخلاف مواقفه الثورية في مجال السياسية، تميزت
مواقفه من الاتجاهات الجديدة في الفن والأدب بالمحافظة والجمود.
بات واضحا ان الساحة الثقافية والفكرية مثلها
مثل الساحة السياسية تحتاج إلى رؤى وأفكار مختلفة.
وكانت الجامعة المصرية قد خرجت حيناها أجيالًا
جديدة من أبنائها يشاركون في الحياة المصرية، لكنها منذ تأسيسها لم تنجح في تغيير
المجتمع المصري تغييرًا جذريًا. كانت تميل الى الحلول الوسط في كل مواقفها،
وتتحاشى الصدام مع المجتمع.
لقد كانت اللحظة بحق من اللحظات
الفارقة في التاريخ، اذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير. كانت لحظة محملة بالآمال
وإمكانيات التغيير، لكنها كانت كذلك لحظة ضبابية غائمة، فيها من مكبلات النجاح
بقدر ما فيها من عوامل الانطلاق.
فإذا كان النصف الثاني من ثلاثينيات القرن
العشرين كان محملًا بآمال واسعة لانطلاق مرحلة جديدة في بناء الوطن على أسس من
الديمقراطية واحترام الدستور، إلا أن هذه الفترة شهدت أيضًا ظهور الأفكار الشمولية
وانتشارها بين الشباب، فتأسست جماعة سياسية قومية متطرفة متأثره بالأفكار الفاشية
والنازية، هي جماعة مصر الفتاة، التي أسسها سياسي شاب مولع بالنموذج الفاشي في
مطلع الثلاثينيات هو احمد حسين، وشكلت الجماعة مليشياتها التي عرفت بالقمصان
الخضر، واتخذت لنفسها شعارا "الله. الوطن. الملك.".
أخذت الأفكار الفاشية تروج بين الشباب، ووصل
الأمر بحزب الأغلبية، حزب الوفد، أن يشكل ميلشيات من شبابه ترتدي القمصان الزرق في
مواجهة ميلشيات مصر الفتاة، القمصان الخضر. وفي نفس الوقت نمت جماعة الإخوان
المسلمين التي تأسست سنة 1928، بدعم مالي من شركة قناة السويس العالمية، وكانت
الجماعة تتبنى منذ لحظة تأسيسها أفكارا مضادة لمبدأ المواطنة المصرية الذي قامت
عليه ثورة ١٩١٩، وقد وجدت الجماعة في المناخ السائد فرصة للانتشار بين الشباب،
وشكلت الجماعة كتائبها هي الأخرى تحت مسمى الجوالة.
على المستوى الاجتماعي لم تحقق ثورة 1919 كما لم
يحقق انتصار تيار الحفاظ على الدستور تحسن كيفي في أوضاع الطبقات الفقيرة في
المجتمع، لم تتحسن كثيرًا أوضاع الفلاحين والعمال الزراعيين الذين كانوا يشكلون
غالبية السكان، كما ساءت أحوال الطبقة العاملة الناشئة خاصة مع تأثر مصر بالأزمة
الاقتصادية العالمية أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات.
في هذا المناخ السياسي بدأت الحلقة الثانية من
الحركة الشيوعية المصرية، فتشكلت حلقات من الماركسيين باتجاهتهم المختلفة، ضمت
مجموعات من الأجانب والمصريين، وكانت هذه الحلقات نواة للتنظيمات الشيوعية التي
تشكلت في بداية الأربعينيات وتواصل وجودها كتنظيمات سرية حتى منتصف الستينيات،
ولعبت هذه التنظيمات دورا سياسيا مهما في سنوات ما بعد الحرب، وشاركت في قيادة
الحراك الجماهيري الواسع الذي بدأ في أواخر عام ١٩٤٥ في الجامعات المصرية ووصل
ذروته في عام ١٩٤٦، وتواكب مع ظهور هذه التنظيمات نشأة تيار جديد في الوفد المصري
يميل ناحية اليسار ويتبنى قضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية بمفاهيم جديدة،
وكان على رأس هذا التيار الناقد والسياسي المجدد الدكتور محمد مندور.
اذن
كانت هذه لحظة الميلاد للسريالية المصرية، ولحظات تألقها، كانت الحركة السريالية
المصرية محاولة جريئة لتحدي التقاليد البالية والثورة عليها، محاولة للالتحام
بتيار عالمي يواجه الدولة الاستبدادية وتدخلها لتقييد حرية الإبداع وتنميط الفن
والآداب، كانت محاولة لتحرير الإنسان بالإبداع الحر، واستمر تيار السيريالية المصرية
متواصلًا حتى منتصف الستينيات رغم انتهاء جماعة الفن والحرية قبل أن تنقضي
الأربعينيات، لتخبو تدريجيًا في لحظة تاريخية مغايرة، دوليًا ومحليًا.
السؤال الملح هنا لماذا تراجعت السريالية
تدريجيا في الخمسينيات والستينيات؟ لماذا تحول بعض روادها الى التجريد، ولماذا لم
تتكرر محاولة انشاء كيان او جماعة جديدة مثل الفن والحريّة او جانح الرمال؟ هل يرجع
السبب الى طبيعة النظام الجديد الذي قبض على الحكم بعد ٢٣ يوليو ١٩٥٢؟
رغم أن السيريالية في مصر ظلت محصورة في إطار مجموعة
من المبدعين من الأدباء والفنانيين التشكيلين، إلا إنها شكلت بلا شك جزءًا مهمًا
من الحركة الفكرية والثقافية في مصر منذ أواخر الثلاثينيات حتى منتصف الستينيات من
القرن الماضي، كما ارتبطت بالحركات السياسية التقدمية في هذه الحقبة، وكانت أحد
أشكال التفاعل بين مفكرينا ومبدعينا والتيارات الفكرية في العالم.
شكرا على هذا العرض ... إضافة متواضعة: تعرضت جماعة الفن والحرية للـتأمر من قبل عناصر في الحركة الشيوعية (صاحبة التوجه الستاليني): " وأضاف مارسيل إسرائيل: في احدى المحاضرات أخذ زعيم الفن والحرية ينادي بتكوين لجان تلبي احتياجات الشعب المصري إلى الفن (الفن السريالي) وتدفعه إلى الحرية (الحرية الفوضوية)، وقد ثارت ثائرتي عندما سمعت هذا النداء الغريب، وقلت بأن الشعب المصري يحتاج بشكل اساسي إلى الخبز والحرية، وبدأنا منذ ذلك الصدام في خلق نواة داخل جماعة الفن والحرية ذات اتجاه شعبي واقعي
ردحذفوأضاف مارسيل إسرائيل: كانت جماعة الفن والحرية تضم عدداً كبيرا من المصريين ولذلك فقد دخلت الجماعة لاحتك بقواعدها بغرض التجنيد، وكان من الطبيعي أن يقع بيني وبين رئيس الجماعة صدام، إذ كنت انادي بتمصير الحركة بينما هو يدفع لتغريب المصريين
المصدر: شهادة المذكور امام رفعت السعيد في كتابه "هكذا تكلم الشيوعيون" .... ونفس التأمر امتد لينال من مجلة التطور
نستخلص من مقال مثل هذا ان لايجب علينا الاستغراب لما اصاب الحركة الفنية في هذه الايام
ردحذف