الخميس، 21 يوليو 2022

كيف تحول الحلم إلى حقيقة

 

كيف تحول الحلم إلى حقيقة

(جابر عصفور والمشروع القومي للترجمة)

عماد أبو غازي




 ربما كان المشروع القومي للترجمة من أهم إنجازات جابر عصفور في مجال العمل العام على المستوى الإداري والثقافي والعلمي، ولهذا المشروع قصة طويلة منذ بدأ همًا وفكرة إلى أن صار مؤسسة قائمة بذاتها ضمن مؤسسات وزارة الثقافة المصرية تحمل اسم المركز القومي للترجمة.

كان التعرف على ثقافة الآخر ومنجزه العلمي والحضاري همًا من الهموم التي شغلت جابر عصفور دومًا، وربما لو أردنا أن نؤصل هذا الاهتمام عنده يمكن أن نرجعه إلى أساتذته، أستاذته المباشرة سهير القلماوي وأستاذه الأكبر طه حسين؛ فهناك حكاية كان جابر عصفور يرويه دومًا وكتبها أكثر من مرة عن أستاذته سهير القلماوي وكيف دفعته في بداية مسيرته الأكاديمية باحثًا للماجستير إلى التعرف على المنجز النقدي الغربي واستيعابه قبل أن يخط كلمه في بحثه، يومها أدرك أهمية التفاعل الحي مع ثقافة الآخر.

 أما أستاذه الأكبر طه حسين فكانت الترجمة أحد انشغالاته الأساسية، ففي كتاب مستقبل الثقافة في مصر (1938) اختص الترجمة بجزء مهم من الكتاب، مؤكدًا على دورها في التعرف على ثقافة الآخر، وفي اللحاق بركب التقدم، ووضع مقترحًا بمشروع متكامل للترجمة تتضلع الدولة فيه بدور أساسي، وأظن أن هذا التصور الذي طرحه طه حسين كان مرشدًا وملهمًا لجابر عصفور في مشروعه الكبير، وإذا كان طه حسين لم يتمكن من تحقيق مشروعه على أرض الواقع، إذ لم يستمر طويلًا في منصبه التنفيذي وزيرًا للمعارف في أخر حكومات الوفد التي أطاح بها الملك بعد حريق القاهرة، ففي المقابل نجح تلميذه في تحويل الحلم إلى حقيقة، خلال فترة توليه أمانة المجلس الأعلى للثقافة والتي امتدت لقرابة خمسة عشر عامًا.

  وقد استمر اهتمام جابر عصفور بالترجمة وقضاياها وإشكالياتها بعد أن ترك العمل التنفيذي، فقد خصص واحدًا من كتبه الأخيرة (2019) للترجمة، واختار لكتابه عنوانًا كاشفًا عن قناعاته بالترجمة وأهميتها، فجاء العنوان الرئيسي "قاطرة التقدم" ووضع عنوانًا فرعيًا "الترجمة ومجتمع المعرفة"، فقد كان يرى دومًا أن الترجمة هي القاطرة الرئيسية للتقدم في مجتمعاتنا، وكانت لديه قناعة ثابته من قرأته للتاريخ، أن كل مشروعات النهوض في تاريخنا على مدى قرون طويلة، كانت الترجمة مقدمة دافعة لها، ويستشهد في هذا السياق بتراث الحضارة العربية الإسلامية، فقد ازدهرت حركة الترجمة ونشطت في القرون الأولى للهجرة، ولعبت دورًا مهمًا في تطور الثقافة العربية وازدهارها، فبدأت جهودها الأولى في العصر الأموي مع خالد بن يزيد بن معاوية، ثم في عهد الخليفة العباسي المأمون، كذلك في زمن الدولة الفاطمية في مصر، عندما ترجمت إلى العربية - في تلك العصور  - معارف الإغريق والفرس والهنود والسريان وعلومهم، فنهضت الثقافة العربية الإسلامية، وأضحت اللغة العربية لغة الثقافة والعلم في العالم؛ حيث امتلأت دور الحكمة ومكتبات القصور ومعاهد العلم بهذه الترجمات جنبًا إلى جنب مع مؤلفات الكُتَّاب العرب، ومع انكسار الدولة العربية الإسلامية وتراجعها السياسي والحضاري تراجعت حركة الترجمة إلى العربية، إلى أن جاء مشروع محمد علي التحديثي في القرن التاسع عشر متضمنًا في القلب منه مشروعًا للترجمة، كذلك واكب موجات النهضة في النصف الأول من القرن العشرين مشروعات للترجمة نهض بها مجموعات من أبناء النخب الثقافية، مثل مشروعات لجنة التأليف والترجمة والنشر (1914)، ولجنة الجامعيين لنشر العلم (1935)، ولجنة النشر للجامعيين (1934)، وتكررت محاولات الدولة للقيام بعبء الترجمة في الخمسينيات والستينيات مع مشروع الألف كتاب؛ خلاصة القول أن جابر عصفور كان يمتلك قناعة راسخة بأن أي مشروع للتقدم والنهوض بالمجتمع قاطرته الترجمة، ومن هنا جاء اختياره لعنوان الكتاب الرئيسي.

 أما العنوان الفرعي فيشير إلى خصوصية اللحظة الراهنة التي انتقل فيها البشر إلى عصر مجتمع المعرفة، وهنا تحتل الترجمة مكانًا بارزًا لتحقيق التواصل بين الثقافات، فإذا كانت الترجمة قد ظلت عبر العصور ضرورة لازمة لتحقيق النهضة في كل المجتمعات الساعية إلى التطور، فقد تزايدت ضرورتها في عصر مجتمع المعرفة وثورة المعلومات والاتصالات، وصارت شرطًا من شروط سد الفجوة المعرفية بين المجتمعات.

  يأتي كتاب قاطرة التقدم كاشفًا لأهمية الترجمة في مشروع جابر عصفور الثقافي، فقد جمع فيه ما كتبه عن الترجمة على مدى 22 عامًا ما بين 1996 و2018، ترك مقالات الكتاب كما نشرت في أصلها بين مجلة العربي وجريدتي الأهرام والحياة، طرح في المقالات الإشكاليات المرتبطة بالترجمة، ما بين إشكاليات نظرية، وإشكاليات عملية، ومعارك دارت حول الترجمة، كما يكشف الكتاب من خلال المناقشات التطبيقية لبعض التجارب رؤية جابر عصفور للترجمة، وخلال مقالات الكتاب روى جابر عصفور قصة المشروع القومي للترجمة، الذي بدأ فكرة انتهت إلى كيان مؤسسي راسخ.



 تولى جابر عصفور أمانة المجلس الأعلى للثقافة في مطلع عام 1993، ولم تمض سنتان على توليه المنصب إلا وكان قد وضع اللبنة الأولى في المشروع القومي للترجمة بصدور الترجمة العربية لكتاب اللغة العليا لجون كوين التي أنجزها الدكتور أحمد درويش في سنة 1995، ثم توالت الإصدارات، وقد بدأ المشروع على استحياء بإصدار آحاد من الكتب في العام الواحد، لكنه أخذ ينضج ويتطور بسرعة بفضل جهود عشرات من المترجمين المخلصين وإصرار جابر عصفور ومثابرته ووقوفه خلف هذا المشروع بكل قوة؛ وقدرته على تذليل العقبات البيروقراطية التي واجهته، ولا شك في أن دعم فاروق حسني وزير الثقافة وقتها لجابر عصفور وللمشروع كان عاملًا مهمًا وراء نجاحه واستمراره، كما تلقى المشروع في بدايته دعمًا ماليًا من بعض الشخصيات، قبل أن تخصص له موازنات مستقلة في ميزانية وزارة الثقافة، فقد تبرع محمد حسنين هيكل بخمسة وعشرين ألف جنيه دعمًا للمشروع، وظل جابر عصفور ممتنًا لهذا الدعم المبكر دومًا.

 كان جابر عصفور فخورًا بالمشروع منذ أيامه الأولى، وأذكر جيدًا في تلك السنوات عندما كنت أزوره في مكتبه بالمقر القديم للمجلس الأعلى للثقافة بالزمالك، قبل انتدابي للعمل معه بالمجلس، أن حديثه الأول في كل زيارة كان يدور حول كتاب جديد صدر في المشروع القومي للترجمة، واستشعر في الحديث مدى فخره بالإنجاز الذي تحقق، ومن الكتب التي صدرت في السنوات الأولى وكانت موضعًا لاعتزازه: تقرير اليونسكو المعنون التنوع البشري الخلاق، وديانة الساميين لسميث، وعالم ماك لبارير، وما بعد المركزية الأوروبية للمؤرخ الأمريكي بيتر جران، والطريق الثالث لأنتوني جيدينز، والجماعات المتخيلة لأندرسن، والتراث المسروق لجورج جيمس، ومصادر دراسة التاريخ الإسلامي لكلود كاين، والعلوم الإنسانية والفلسفة للوسيان جولدمان، والجزء الأول من أثينا السوداء لبرنال، ومعظمها كانت كتب حديثة الصدور في طبعتها الأصلية، وفي أحدى الزيارات قال لي في بهجة شديدة: "شفت ثريا في غيبوبة"، وأصابني الذهول، ولم أفهم بالضبط ما يقول؟ فقد ذهب ذهني أن زوجته ثريا الجندي رحمها الله في غيبوبة! فما سر ابتهاجه؟ ويبدو أنه لمح حالة الذهول التي أصابتني فتدارك بسرعة، ترجمنا رواية ثريا في غيبوبة عن الفارسية، وكان سعيدًا باقتحام المشروع القومي للترجمة للغة جديدة.

 لقد ظهر "المشروع القومي للترجمة" الذي بدأ اصداره من المجلس الأعلى للثقافة عام 1995، مستهدفا نقل أهم ما يصدر من إنتاج فكري في كل مجالات المعرفة من مختلف اللغات إلى القارئ العربي سعيًا إلى تحقيق التواصل الثقافي والحوار الحضاري الإنساني، ثم تحول المشروع في 2006 إلى كيان قائم بذاته ضمن هيئات وزارة الثقافة باسم المركز القومي للترجمة؛ وقد صدر عن المشروع خلال وجوده في المجلس الأعلى للثقافة 1000 عنوان في عشرة أعوام، وتجاوز عدد الإصدارات الآن بعد انتقال المشروع إلى المركز ثلاثة آلاف عنوان؛ نقلت من أكثر من ثلاثين لغة بعضها لغات يترجم عنها إلى العربية مباشرة للمرة الأولى، فأحد الخصائص المميزة لهذا المشروع، أن الأعمال التي تصدر فيه، تنقل إلى العربية عن لغاتها الأصلية مباشرة، وقد حرص المشروع على كسر احتكار الترجمة عن اللغات الأوروبية الرئيسية الإنجليزية والفرنسية ثم الألمانية، وإذا استعرضنا الأعمال الصادرة في هذا المشروع فسوف نجد أن منها قسمًا مترجمًا عن الإنجليزية والباقي عن لغات غربية وشرقية متنوعة منها: الإسبانية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية والبولندية والفنلندية والأرمينية واليونانية والصربية من اللغات الأوروبية، والفارسية والعبرية والأردية والتركية واليابانية والصينية من اللغات الشرقية والأسيوية، ولغات الهوسا والكوسا والسواحيلي والأمهرية والتجرينية من اللغات الإفريقية، هذا فضلًا عن بعض اللغات القديمة مثل المصرية القديمة والسريانية واليونانية القديمة واللاتينية والتركية العثمانية، وهكذا اقتحم المشروع أسوار لغات يترجم عنها إلى العربية مباشرة للمرة الأولى في العالم العربي.

 والمراجعة الأولية لعناوين الإصدارات تكشف عن تنوع في موضوعاتها، ما بين أعمال إبداعية، من روايات ومجموعات قصصية، ودواوين شعر ومسرحيات ونصوص من الآداب القديمة، ودراسات نقدية ولغوية، وأعمال تندرج تحت مختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيات، بالإضافة إلى بعض المؤلفات في مجال الثقافة العلمية والعلوم البحتة والتطبيقية، وأخيرًا كتب للأطفال، وما حدث في كتب الأطفال يمثل نموذجًا للتعلم من الأخطاء الذي أشار إليه جابر عصفور في مقدمة كتابه قاطرة التقدم باعتباره أحد أسباب نجاح المشروع، فالإصدارات الأولى للأطفال لم يراع إخراجها ككتاب للطفل، جاءت خالية من الرسوم، وبنفس الخط الذي تجمع به كتب الكبار، وبالطبع لم تنجح هذه الكتب الأولى بأي حال، وفي الإصدارات التالية جرى تلافي هذا الخطأ.

 ومن استعراض قائمة الإصدارات أيضًا - خاصة في المرحلة الأولى من المشروع - يتضح التركيز على بعض الموضوعات مثل قضايا المرأة، وعلى وجه الخصوص قضايا المرأة في مصر والعالم العربي، ومثل العولمة وأثارها وتتناول هذه المجموعة الموضوع من زواياه المختلفة المؤيدة للعولمة والمعارضة لها، محللة لآثارها الإيجابية والسلبية باعتبارها واقعًا معاشًا، كذلك كان تاريخ مصر بعصوره المختلفة وما زال يحتل حيزًا واضحًا في إصدارات المشروع القومي للترجمة.

 كذلك اهتم جابر عصفور بالسلاسل التي تصدر في إطار المشروع القومي للترجمة، ومنها سلسلة أقدم لك التي أشرف عليها الدكتور إمام عبد الله إمام، وهي ترجمة لسلسلة إنجليزية من الكتب المبسطة للنشأ والشباب حول مختلف الموضوعات الفلسفية والعلمية والسياسية، وسلسلة ميراث الترجمة التي أشرف عليها الدكتور مصطفى لبيب، وكانت تقدم إعادة نشر للترجمات القديمة من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مع تقديم جديد لكل ترجمة يكتبه متخصص في مجال موضوع الكتاب، وقد زادت هذه السلاسل وتنوعت بعد انتقال المشروع إلى المركز القومي للترجمة.

واهتم المشروع القومي للترجمة بترجمة الموسوعات ودوائر المعارف والمعاجم الكبيرة، فدعم المركز الثقافي الفرنسي ترجمة موسوعة جامعة كل المعارف من الفرنسية إلى العربية، وصدرت في ستة أجزاء، كذلك نجح الدكتور جابر عصفور في التعاقد مع دار نشر جامعة كمبردج لترجمة موسوعة كمبردج للنقد الأدبي، التي قام على ترجمتها فريق كبير من المترجمين، وكان قد نجح كذلك في الاتفاق على ترجمة طبعة كاملة لدائرة المعارف الإسلامية تصدر بالتزامن مع انتهاء الطبعة الجديدة التي كانت تصدرها دار بريل في ليدن في مطلع الألفية، لكن للأسف أحبط بعض أعضاء المجلس الأعلى للثقافة تنفيذ المشروع، لأغراض في نفوسهم، ولا أعرف إلى الآن لماذا قرر جابر عصفور عرض اتفاقه على اجتماع المجلس، فلم يكن في حاجة إلى ذلك!

 وحرص جابر عصفور دومًا على أن يوازن المشروع القومي للترجمة بين نقل أحدث ما يصدر في الغرب والشرق من أعمال ونقل الأعمال الكلاسيكية أو التأسيسية التي لم تترجم من قبل، فما يميز هذا المشروع أن كثيرًا مما نشر فيه يعد من الإعمال التي صدر ت بلغاتها الأصلية حديثًا، ومن أمثلة هذه الكتب كتاب الفيلسوف الفرنسي الكبير جاك دريدا عن أحداث 11 سبتمبر 2001، فقد منح دريدا المجلس الأعلى للثقافة حق ترجمة الكتاب إلى العربية أثناء زيارته لمصر، والطريف أن الترجمة العربية التي قامت بها الشاعرة صفاء فتحي صدرت قبل صدور الكتاب بالفرنسية بعدة أسابيع.

 ولم يؤد الاهتمام بأحداث الإصدارات إلى إغفال الأعمال الرائدة التي مضى على صدورها سنوات طوال، ومن اللافت للنظر أيضًا أن المشروع عني بترجمة أعمال لبعض المصريين والعرب المغتربين كتبوها بلغات أجنبية، مثل كتابات المؤرخ المصري محمد صبري (السوربوني) التي نشرها في الأصل بالفرنسية.



 وفي مجال الأعمال الإبداعية حرص المشروع القومي للترجمة على تقديم آداب لغات أهملت لسنوات طويلة، فقد صدر في المشروع عدة أعمال أدبية مترجمة عن اليابانية والصينية مباشرة، وكذلك أعمال من الأدب الفارسي حديثه وقديمه، ولعل أبرز ما صدر في هذا المجال مثنوي جلال الدين الرومي الذي ترجمه الراحل الأستاذ الدكتور إبراهيم شتا في ستة مجلدات عن الفارسية، وهذا العمل يعد من أروع كلاسيكيات الآداب الإسلامية، وقد كتب في القرن السابع الهجري، وكان الدكتور جابر عصفور يروي دائمًا قصة التعاقد مع الدكتور شتا بمكافأة غير مسبوقة في تاريخ عقود الترجمة في المؤسسات الحكومية، الأمر الذي سبب صدمة للعاملين في الجهاز المالي والإداري في أمانة المجلس الأعلى للثقافة.

 وقضية مكافآت المترجمين من المعارك التي خاضها جابر عصفور مع البيروقراطية المصرية منذ اللحظة الأولى لبدء المشروع، فقد كان أجر المترجم محددًا بستة مليمات للكلمة بمقتضى قرار جمهوري قديم، لم يتغير رغم مرور الزمن! فخاض جابر عصفور أولى معاركه من أجل رفع القيمة إلى خمسة قروش، سرعان ما تضاعفت مرات ومرات خلال سنوات المشروع في المجلس الأعلى للثقافة، كما أصبحت هناك فئات للمكافأة تتغير وفقًا ندرة اللغة وصعوبة الموضوع وقيمة المترجم، وحقق جابر عصفور أول انتصاراته على البيروقراطية المتكلسة.

 وإذا كانت الغالبية العظمى من المترجمين في المشروع القومي للترجمة من مصر، فقد شارك في أعمال المشروع مترجمون من عشر دول عربية، المغرب والجزائر والعراق والسعودية والأردن ولبنان وسوريا وفلسطين والسعودية والإمارات، فقد حرص اجابر عصفور على الانفتاح على مختلف مدارس الترجمة العربية، دون الاقتصار على المدرسة المصرية، إثراء للمشروع وتدعيمًا للتفاعل بين المترجمين العرب، وتأكيدًا على قناعته بفكرة القومية العربية، كذلك حرص جابر عصفور على الاستفادة من كل الطاقات وفتح المجال أمام أجيال جديدة من المترجمين والمترجمات الشبان.

ومن الملاحظ أن بعض الأعمال الكبرى الصادرة في إطار المشروع القومي للترجمة شارك في ترجمتها أكثر من مترجم، مثل ترجمة أثينا السوداء التي شارك في ترجمتها فريق من المتخصصين وراجعها وقدم لها الدكتور أحمد عتمان، وفي بعض الأحيان كان الدكتور جابر عصفور يلجأ لتكليف فريق عمل للكتاب الواحد في حالة الاحتياج لسرعة الإنجاز أو لتعدد موضوعات الكتاب ومجالاته المعرفية، ومن الأمثلة على ذلك الفريق الذي تكون لترجمة كتاب ما بعد المركزية الأوروبية من ثلاثة من المترجمين الكبار  هم إبراهيم فتحي وعاطف أحمد ومحمود ماجد، وتولى التحرير الدكتور رؤوف عباس ، وكذلك الكتب التي صدرت بمناسبة مؤتمر المرأة الأول: مئة عام من تحرير المرأة العربية (1999).

ومن الكتب التي شارك في نقلها للعربية أكثر من مترجم، كتاب الناقد المصري إيميه آذار "التصوير الحديث في مصر حتى 1961" والصادر بالفرنسية في مطلع الستينات، وحمل رقم 1000 في إصدارات المشروع القومي للترجمة، وللكتاب قصة؛ فعندما اقتربت إصدارات المشروع القومي للترجمة من الرقم ألف، وفي نفس الوقت اقترب موعد انتقال المشروع من المجلس الأعلى للثقافة إلى المركز القومي للترجمة فكرنا في الإعداد لاحتفال يليق بهذه المناسبة، وفي اختيار عمل مهم ليحمل الرقم ألف، وبعد مشاورات طويلة بين الفنان فاروق حسني والدكتور جابر عصفور استقر الرأي على ترجمة هذا الكتاب المهم الذي كانت نسخه نادرة للغاية، وكان صاحب الاقتراح الناقد والفنان وجيه وهبة، وقام بترجمته إدوارد الخراط ونعيم عطية، وتقرر إضافة صور ملونة للأعمال التي يتناولها الكتاب، وتولى الناقد صبحي الشاروني جمعها، وأشرف على الإخراج الفني للكتاب الفنان ناجي شاكر، وأقيم ملتقى دولي كبير للاحتفال باكتمال الألف كتاب الأولى في المشروع القومي للترجمة استمر لعدة أيام في شهر فبراير عام 2006، وكرمت فيها وزارة الثقافة مجموعة من الأسماء البارزة في مجال الترجمة من العربية وإليها، وكان هذا ثالث الملتقيات الدولية التي ينظمها المجلس الأعلى للثقافة على هامش المشروع القومي للترجمة.

 عقد الملتقى الأول بمناسبة صدور 250 كتابًا في المشروع القومي للترجمة في عام 2000، وكان للملتقى قصة فعندما رأى الدكتور جابر عصفور رقم 250 كتاب في أحد التقارير المقدمة لاجتماع المجلس الأعلى للثقافة كعدد لما سيصدر قبل منتصف عام 2000، تشكك في صحة الرقم وعاتب الأستاذ سعيد عباس مدير مكتبه والذي كان مسئولًا عن متابعة أعمال المطابع وعقود المترجمين، وعاتبني باعتبار أننا نبالغ في الأعداد، فأكدنا له أن الرقم يعكس بالفعل الواقع، فطلب منا عرض نسخة من الكتب جميعها يوم اجتماع المجلس الأعلى للثقافة في نهاية يونيو 2000، ووضعنا أمام تحدي لتحقيق الهدف بالفعل، وقد تحقق قبل الموعد بفترة، ومن هنا جاءت فكرة الملتقى، وبدأنا في الإعداد للملتقى الأول ليكون احتفالنا بما وصل إليه المشروع في خمس سنوات.

أما الملتقى الثاني الذي عقد في عام 2004 تحت عنوان الترجمة وتفاعل الثقافات، فكان بمناسبة صدور الكتاب رقم 750، وكان عملًا يستحق احتفاءً خاص، فقد كانت الترجمة الكاملة لإلياذة هوميروس عن اليونانية القديمة للمرة الأولى، وهي الترجمة التي قام بها فريق من المترجمين تحت إشراف الدكتور أحمد عتمان، وقد صدرت في مجلد ضخم مزود بالصور، لذلك نظمنا حلقة بحثية عن ترجمة الإلياذة على هامش الملتقى.

كان المشروع القومي كذلك حقلًا مهمًا لتطوير تصميم أغلفة الكتب في إصدارات وزارة الثقافة، وقد كان جابر عصفور حريصًا على خروج الكتب بأغلفة فنية متميزة، واهتم اختيار بعض كبار الفنانين ومصممي الأغلفة للمشاركة في المشروع، منهم على سبيل المثال: عدلي رزق الله وناجي شاكر وعماد حليم ومحمد بغدادي ومحمود بقشيش وغيرهم، كما فتح المجال أمام أجيال جديدة من المبدعين والمبدعات.

 وقد اتبع الدكتور جابر عصفور أكثر من أسلوب في اختيار الكتب للترجمة في مرحلة المشروع القومي للترجمة عندما كان يصدر عن المجلس الأعلى للثقافة، في البداية كانت هناك مجموعة مصغرة تضم الدكتورة فاطمة موسى والأستاذ لمعي المطيعي تتعاون في اختيار الكتب، ومع مرور الوقت تم تكوين فريق العمل الخاص بالمشروع تدريجيًا، وقد أشار إليهم الدكتور جابر عصفور في مقدمة كتابه قاطرة التقدم،  ومع اتساع المشروع بدأت مرحلة طلب مقترحات للترجمة من اللجان الدائمة بالمجلس الأعلى للثقافة كلٍ في مجال تخصصها، كذلك كان جابر عصفور يرحب بالاقتراحات التي يتقدم بها المترجمين، بالإضافة إلى التعاون مع المراكز الثقافية الأجنبية في مصر التي كان لدى بعضها مثل المركز الثقافي الفرنسي والمركز الثقافي الإسباني مشروعات لدعم الترجمة إلى العربية، ومع التزام المشروع بشراء حقوق نشر الترجمة من دور النشر الأجنبية بدأت هذه الدور تقدم مقترحاتها بكتب من إصدارها لتترجم إلى العربية.

  لقد بدأ المشروع في سنواته الخمس الأولى يترجم ما يراه القائمون عليه دون التزام بشراء الحقوق من دور النشر الأجنبية، لكن مع دخول مصر إلى عصر تطبيق اتفاقيات الجات التي تفرض علينا ضرورة شراء حقوق الترجمة إلى العربية من الناشرين الأصليين بدأت الصورة تتغير، خاصة وأن المجلس الأعلى للثقافة الجهة المنوط بها حماية حقوق الملكية الفكرية في مصر، ورغم ما كان يشكله هذا الالتزام من أعباء مالية على مثل هذا المشروع المبتدأ غير الهادف إلى الربح، فقد كان علينا الانصياع للقانون وللاتفاقيات الدولية، ووافقت وزارة الاقتصاد وقتها على توفير المطلوب من العملات الأجنبية، لكن وقع عبء تدبير المقابل بالعملة المحلية على الأمانات الفنية بالمجلس الأعلى للثقافة التي كنت أتولاها، وكانت تمتلك موازنة لشراء حقوق التأليف، وقد أثر هذا الوضع بلا شك سلبًا على خطط نشر أعمال لجان المجلس الأعلى للثقافة وسلاسله الأخرى، وكان علينا أن نوازن بين الأمرين لمدة ست سنوات إلى أن انتقل المشروع القومي للترجمة إلى المركز الجديد.

 وقد دفع المجلس للاهتمام بشراء حقوق الترجمة موقفان بالإضافة لاتفاقيات الجات بالطبع، الموقف الأول في عام 1999، عندما كان المهندس إبراهيم المعلم في زيارة للدكتور جابر عصفور في مكتبه، وتطرق الحديث للمشروع القومي للترجمة، وقال الدكتور جابر إن المشروع على وشك إصدار ترجمة لكتاب"الفجر الكاذب – أوهام الرأسمالية العالمية" لجون جراي الصادر عام 1998، بترجمة أحمد فؤاد بلبع، عندها قال المعلم إن دار الشروق قد اشترت حقوق الترجمة بالفعل، وبيسر تم الاتفاق على صدور الكتاب في طبعه مشتركة بين المجلس ودار الشروق، وصدر بالفعل عام 1999، بعد عام واحد من صدوره بالإنجليزية، وكانت هذه التجربة ناقوس يدق حول أهمية شراء الحقوق، كذلك كان فاتحة لتجربة في النشر المشترك بين المجلس الأعلى ودور النشر الخاصة، امتدت بعد ذلك إلى المركز القومي للترجمة.

 أما الموقف الثاني فحدث في عام 2000 أثناء انعقاد الملتقى الأول للترجمة، كنا نجلس في مكتب الدكتور جابر بين الجلسات عندما دخل علينا ناشر عربي ثائر لأن المجلس نشر ترجمة كتاب أسفار العهد القديم في التاريخ – اختلاق الماضي لتوماس تومسون، رغم أنه حصل على حقوق الترجمة إلى العربية حصريًا، اضطرنا إلى رفع الكتاب من العرض، وتعهدنا بسحب جميع نسخه المتبقية من السوق، وكان كثير منها قد تم بيعه بالفعل، وظل وقف توزيع الكتاب لغز غير مفهوم لدى الزملاء العاملين في التسويق والمخازن، حيث اقتصر توزيع الكتاب على الإهداءات للمكتبات العامة.

 كان الملتقى الثالث للترجمة ختام رحلة المشروع القومي للترجمة مع المجلس الأعلى للثقافة، فقد انتقل بعدها إلى الكيان الجديد الذي تأسس في عام 2006، وبدأ نشاطه الفعلي في 2007 عندما ترك جابر عصفور المجلس الأعلى للثقافة وتولى منصب مدير المركز القومي للترجمة، وظل يشغل هذا المنصب حتى توليه وزارة الثقافة للمرة الأولى أثناء ثورة 25 يناير 2011، وقد استمرت علاقتي بالمركز كمنسق للندوات التي تناقش إصدارات المركز الجديد، والتي كانت تعقد في مقر المجلس الأعلى للثقافة، وكعضو في بعض لجانه الاستشارية.

 إن قصة جابر عصفور والترجمة تضعنا أمام قصة نجاح قائمة على الإصرار والتخطيط ووضوح الرؤية، بدأت بحلم وانتهت ببناء مؤسسة تحافظ على استمرار المشروع/الحلم حتى بعد غياب صاحبه.

مقالي المنشور في الملف الخاص عن الدكتور جابر عصفور بمجلة نزوى عدد يوليو 2022

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...