نص
مداخلتي في ندوة: "نحو نموذج ثقافي عربي جديد في عالم متحول" التي نظمها
مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي، يوم الأحد
30 سبتمبر 2018
محددات الحوار حول نموذج ثقافي عربي وأهدافه
عماد
أبو غازي
طرحت مؤسسة الفكر العربي كتاب أفق السنوي
الأخير؛ وجاء موضوعه "نحو نموذج ثقافي عربي جديد في عالم متحول"، وقد تضمن
الكتاب مجموعة من الرؤى والإسهامات المتنوعة التي تناولت الموضوع من جوانب عدة،
قدم بعضها دراسات مركزة حول مفهوم النموذج وانتقاله من العلوم الطبيعية إلى حقل
الدراسات الأدبية، ومنه إلى الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، بينما حاول بعضها
الآخر أن يقدم تحليلات مختلفة لواقعنا العربي الراهن، واشتبك بعضها الثالث مع
الطرح نفسه، مقدمًا تساؤلات مهمة.
لقد كان لدي بعض الريبة في البداية عندما
طُلب مني تقديم هذه المداخلة، الريبة من موضوع النموذج، ومن فكرة النمذجة عمومًا؛
وبعد أن قرأت هذا العمل الممتع والثري في آن واحد - الممتع بما فيه من أفكار مثيرة
للذهن، والثري بتنوع الرؤى التي يطرحها - كادت الريبة أن تتحول إلى يقين؛ فقررت
الانسحاب، لكنني تراجعت وجئت إليكم بهمومي وأسئلتي.
فهل نحن في حاجة فعلًا إلى وضع نماذج للثقافة
والفكر؟ ومن نحن كي نضع هذا النموذج المقترح؟ أو نمهد الطريق له إذا أخذنا في
الاعتبار لفظ "نحو" في عنوان الكتاب على أنه يعني أن المهمة مجرد إنارة
الطريق؟
لو
تحدثنا كباحثين فمهمتنا اكتشاف النموذج/النماذج السائدة البائسة في مجتمعاتنا
العربية؛ هذا إذا جاز لنا أصلًا أن نعتبرها نماذج، ودراستها، وفهم مساراتها
التاريخية، واستشراف آفاقها المستقبلية، إذا كان لها آفاق.
أما لو زعمنا أننا نخبة مفكرة ومثقفة؛ فلا أظن
أننا نمتلك القدرة التي تمكننا من صياغة النموذج - هذا إذا قبلنا أصلًا – أننا في
حاجة لنموذج ثقافي، وأن النماذج الثقافية يمكن أن تصاغ، كما لو كنا في مجال تشييد
بناء مادي، فأظن أن الثقافة لا "تهندس".
غاية أمانينا أن نؤثر في بضعة مئات أو بضعة آلاف
من متابعينا على وسائل التواصل الاجتماعي، أو بضع عشرات ممن يقرأون ما نكتب في
الصحف، أو ممن نحتك بهم في قاعات الدرس أو الندوات العامة.
غاية قدرتنا أن نلقي ببذرة قد تثمر بعد عقود،
وقد لا تثمر وتموت في تربتنا العفنة مخنوقة بالاستبداد السياسي والتعصب الديني
والصراع الطائفي المقيت حول إشكاليات وصراعات بعيدة، مضى عليها أكثر من 1400 عام.
ولعل لنا في أسلافنا ممن حملوا على أكتافهم مهام
بناء الدولة الحديثة عبرة؛ إذا كان من نسميهم بالنخب العربية قد فشلوا على مدار
أكثر من قرنين في إنجاز متطلبات الحداثة أو حتى التحديث، فما الذي يدعونا إلى
الاعتقاد بأن نخب اليوم قادرة؟ أو ليس الكثيرين منا قد حاولوا على مدى نصف قرن أن
يفعلوا ذلك، فانتهينا إلى ما نحن فيه الآن؛ فكانت مسارات حياتنا انتقال من فشل إلى
فشل!
ألم تكن ثورات الربيع العربي نداءً واضحًا
لأجيال من الفاشلين بأن يرحلوا ويفتحوا المجال أمام مستقبل مغاير، تقوده أجيال
جديدة مختلفة عنا، تمتلك أدوات غير أدواتنا؟ لكننا نجحنا في الالتفاف على حلم
المستقبل ووأده في مهده.
لقد فشلت الأجيال الأولى من أسلافنا التنويريين
في تحقيق مهمات التنوير، وفشل الجيل التالي في المحافظة على القدر الضئيل الذي
تحقق في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، وأتت "دول الاستقلال
الوطني" بالاستبداد السياسي، وفشلت في الحفاظ على ما ادعت أنها حققته من
عدالة اجتماعية أو استقلال وطني ناجز، وانتهينا إلى حروب أهلية طاحنة، بدأت منذ
منتصف سبعينيات القرن الماضي، وما تكاد حرب منها تنتهي حتى تبدأ حرب جديدة.
فهل تكون الحروب الطاحنة الدائرة على الساحة
العربية، أعني الحروب العربية/العربية؛ منبئة بميلاد عصر جديد مثلما كانت حرب
الثلاثين في أوروبا؟
لكن هل القرون التي مرت تسمح بإعادة التجربة كما
حدثت من قبل؟ أم أننا أمام حروب تفتح الباب لانقراضنا ماديًا بعد أن انقرضنا
معنويًا وخرجنا من دائرة الزمن؟
وإذا أخذنا بنظرية توفلر حول الموجات الحضارية
الثلاث، أو الثورات الثلاث الكبرى في مسيرة البشرية؛ فكيف سنرى حال منطقتنا التي
نسميها اليوم بالعربية؟ وكيف كان حالنا في كل موجة من الموجات الحضارية الكبرى؟
لقد كنا في المقدمة في حضارة الموجة الأولى، فهل كان حتما ولزاما على مجتمعاتنا
الشرقية أن تتحول إلى حضارة الموجة الثانية؟ أو بمعنى آخر هل كان علينا أن نخوض
تجربة التحديث، وأن نتحول إلى مجتمعات صناعية؟
لقد كان الرأي السائد منذ القرن
قبل الماضي أن إعادة صياغة العالم على شاكلة الغرب الأوروبي الطريق الوحيد إلى
التقدم، إلا أن بعض مدارس نقد الاستشراق حاولت أن تجيب على هذا السؤال إجابة
مغايرة، أن تجيب عليه بالنفي، وأن تبرز فكرة الطريق الخاص لتطور كل مجتمع بغض
النظر عن النموذج الأوروبي أو الغربي للتطور، وظهرت مقولات ترفض فكرة التقدم
المستمر للبشرية، أو على الأقل فكرة الارتباط الحتمي بين التقدم والتحديث على
النمط الغربي.
لكن استقراء أحداث التاريخ
الإنساني – للأسف – ليس في صالح هذا الاتجاه، فبقدر ما في الاتجاه الأول من سعى
لفرض قوالب خارجية وافدة من الغرب الأوروبي على أرجاء العالم المختلفة، بقدر ما في
الاتجاه الثاني من تأييد للتخلف في مجتمعاتنا.
فلكل عصر "كلمة سره"
والمجتمعات التي تملك كلمة سر عصر من العصور هي التي يكون لها السبق والريادة، وهي
التي تسود في ذلك العصر، لقد كان لمجتمعاتنا في شرق وجنوب المتوسط السبق والريادة
في حضارة الموجة الأولى – حضارة الثورة الزراعية – فمعظم إنجازات هذه الثورة قد
تحققت في مصر وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى للمرة الأولى (الزراعة – استئناس
الحيوان – ابتكار الكتابة والأبجدية- الدولة) ومن هنا انتقلت تلك المنجزات إلى
أنحاء العالم المعروف حينذاك، ومن هنا أيضا كان لمجتمعاتنا السيادة على ذلك العالم
لبضع آلاف من السنين، وكان نموذجنا الحضاري يشكل المثل الأعلى في تلك الحقبة.
واستمر الحال على ذلك حتى بعد أن
انتقلت منجزاتنا الحضارية إلى "الآخر" في الشمال والغرب، ما تغير فقط هو
التنافس والصراع الذي وصل إلى الصدام العنيف في أحيان كثيرة، لكنه صدام بين أنداد،
وقد ترجح الكفة هنا مرة وترجح هناك مرة أخرى، لكن الأطراف متقاربة في القوة والقدرة.
وعندما بدأت حضارة الموجة
الثانية- حضارة الثورة الصناعية – تغيرت كلمة سر العصر، وفاتنا – للأسف – الإمساك
بمقدرات تلك المرحلة الجديدة.
وعندما أفقنا على تلك الحقيقة
وقفنا نتساءل؛ في البداية كان السؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟
ثم تبدل السؤال وأصبح: وهل كان من
الضروري أن نسير وفقًا لنمط التطور الأوروبي؟
القضية في تقديري ليست نمطًا
أوروبيًا أم نمطًا شرقيًا، ولكنها قضية إنجاز حضاري متمثل في الثورة
الصناعية وفى مجموعة من القيم والمبادئ والأفكار التي واكبت عصرها، وشكلت في
مجملها مقدرات القوة في تلك الحقبة؛ وقد أنجز الغرب هذه الثورة ولم ننجزها نحن.
لقد حدث هذا الإنجاز في الغرب
انطلاقًا من تطور ذاتي، وكانت الإمكانية الوحيدة لتحقق هذا الإنجاز في الشرق أن
نمر به – نحن كذلك – انطلاقًا من تطورنا الذاتي؛ لكن هذا لم يحدث، كما لم يتحقق
لنا كذلك النجاح في إنجاز هذا التطور اقتباسًا من الغرب بإرادتنا، أو بالإقحام
والفرض علينا.
لماذا إذن كان نصيبنا الفشل؟
منذ عشرين عامًا كنت أتساءل قائلًا: إننا اليوم نقف في لحظة مفترق طرق جديد
يخطو فيها العالم نحو عصر جديد، وإذا كان لنا السبق والريادة في حضارة الموجة
الأولى - حضارة الثورة الزراعية، وإذا كان قطار حضارة الموجة الثانية - حضارة
الثورة الصناعية قد فاتنا، فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح نفسه علينا بإلحاح،
والهاجس الذي يفترض أن يؤرقنا، هل سنحلق بحضارة الموجة الثالثة - حضارة ثورة
المعلومات؟ وهل لنا مكان على خارطتها الآخذة في التشكل بسرعة أم لا؟
وأظن أنني ما زلت لم أبارح مكاني من وقتها! وأظن
أن السنوات العشرين أكدت أن علينا أن نفسح المجال أمام جيل جديد، بعقل جديد.
لكني سأحاول مع ذلك أن أقدم المطلوب مني عن
محددات الحوار حول نموذج ثقافي عربي وأهدافه؛ أظن أن أول المحددات أن نمتلك القدرة
على التواصل مع الناس والتفاعل معهم؛ ثم علينا أن نجيب على بعض الأسئلة ونصل إلى
إدراك بعض الأمور:
·
أن نحدد
أولًا من نحن؟
·
أن ندرك
واقعنا وما نحن فيه كي نستطيع تجاوزه.
·
أن نتفق حول
الحاجة لنموذج ثقافي عربي جديد؟ هل نتحدث عن نموذج أم عن نماذج؟ وألا تشكل النمذجة
الثقافية قيدًا على حركة العقول؟
·
أن نتفق
قبل ذلك على المقصود بالنموذج؛ فالنموذج في بنية الثورات العلمية لم يتكون بشكل
قصدي مسبق بل قاد إليه تطور العلم.
·
أليست
فكرة النموذج عند كوهن تقوم على نموذج يتولد بناء على كشف علمي جديد يحدث ثورة
معرفية تؤدي إلى ظهور نموذج جديد، ولا تقوم على خلق نموذج بشكل فوقي قبلي!
·
هل
النموذج يصنع أم ينشأ نتاج تطور طبيعي في المجتمع؟
·
هل هناك
نماذج ثقافية قومية؟ ألم يكون النموذج الثقافي الوسطوي عالميًا؟
·
هل هناك
نموذج عابر للطبقات؟ وهل هناك نموذج عابر للزمان؟
·
هل ما
نسعى إليه مجرد خلق تيار من الوعي في مجتمعاتنا، قد يسفر عن نموذج أو لا يسفر بقدر
التفاف الناس حوله؟
·
ثم علينا
أن نحدد عناصر النموذج الثقافي العربي القديم الذي نحتاج أن نستبدل به نموذج جديد،
إذا اتفقنا على هذه الحاجة.
·
أخرًا؛
هل ما نحتاج إليه نموذج ثقافي عربي جديد أم الإسهام في بناء المعرفة الإنسانية؟
أظن
أننا نحتاج لأن يكون لنا وجود أولًا، أن يكون لنا إسهام أولًا في بناء عالم اليوم،
ثم نبدأ في التفكير في أن يكون لنا نموذج أو نماذج.
الأمر الآخر الذي أثار قلقي، ربط عملنا هذه
بفكرة القمة الثقافية، تلك الفكرة التي طرحت قبل ثورات الربيع العربي ولم تر
النور، ويعاد طرحها اليوم، فهل حقًا نحتاج إلى قمة ثقافية عربية، أم إلى تحرير
الثقافي في منطقتنا العربية من سطوة السياسي، وإلى تحرير العمل الثقافي من قيود السياسة.
كلمة أخيرة واعتذار:
ربما يكون الإيجابي في وجودنا هنا؛ أمران: الأول
هذا العمل الذي بين أيدينا الذي يثير الذهن، ويدفع إلى التساؤل والتفكير؛ والثاني
أن نلتقي بأحبة وأصدقاء.
ثم أعتذر عن هذه الروح الكلبية؛ لكنها السبيل
الوحيد في ظني للتعايش مع واقعنا الراهن في المنطقة العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق