السبت، 15 يوليو 2017

صورة اليابان في فكر النخبة السياسية والثقافية المصرية

الورقة اللي قلتها النهارده في مؤتمر "تجارب الحداثة والتحديث خارج العالم الغربي" اللي بينظمها مركز الدراسات اليابانية في كلية الآداب جامعة القاهرة...

صورة اليابان في فكر النخبة السياسية والثقافية المصرية

عماد أبو غازي
 في البداية لابد من أن أشير إلى أن من لفت انتباهي لهذا الموضوع كان استاذي الراحل الدكتور محمد أنيس منذ قرابة أربعين عامًا، عندما قدم ورقة بحثية بعنوان: "حول الخبرة المتبادلة بين بزوغ اليابان ومصر"، في المؤتمر الأول للعلاقات العربية اليابانية الذي عقد بطوكيو في ربيع 1979، تناول فيه بالمقارنة خبرة المصريين بالنهضة اليابانية مقابل خبرة اليابانيين بالنهضة المصرية، وكان يرى أن مصر قدمت لليابان تجربة لم تكلل بالنجاح لكنها صادقة، بينما قدمت اليابان لمصر تجربة ناجحة لكنها خادعة؛ وفي نفس العام وجهني أستاذي لتسجيل بحث استكمال متطلبات الحصول على دبلوم الدراسات العربية في التاريخ في موضوع يتعلق بالنهضة اليابانية، وقد كان، فأنجزت في عام 1980 بحثي بعنوان: "اليابان الحديثة – دراسة في تطور الاستعمار الياباني.

الدكتور محمد أنيس
 وبعد؛ فقد شهد القرن التاسع عشر عدة محاولات خارج العالم الغربي للانتقال إلى المجتمعات الحديثة، مجتمعات عصر الثورة الصناعية، بقول آخر شهدت بلدان عدة تجارب للتحديث، والدخول في زمن الحداثة.
 ومن التجارب المتقاربة زمنيًا للتحديث هناك تجربتان؛ الأولى التجربة المصرية التي بدأت حلقتها الأساسية في النصف الأول من القرن التاسع عشر في عهد محمد علي باشا.

محمد علي باشا
 والثانية التجربة اليابانية التي بدأت حلقتها الأساسية حول منتصف القرن التاسع عشر وانطلقت مع عصر ميجي.


 وإن كانت هناك ارهاصات سابقة لهذا التحول في كلا المجتمعين المصري والياباني ترجع إلى القرن الثامن عشر.
 وقد ارتبطت التجربتان بالاحتكاك بين مجتمعينا الشرقيين من ناحية والغرب الأوروبي من ناحية أخرى، وكان الاحتكاك يحمل جانبًا من القهر والإرغام من الطرف الأوروبي في مرحلة التوسع الاستعماري والتنافس الأوروبي على فتح أسواق العالم والاستيلاء على موارده الطبيعية، بعد الثورة الصناعية في أوروبا.
  كما كان لكل من اليابان ومصر تراث حضاري قديم، وتقاليد ثقافية تختلف عن قيم الثقافة الأوروبية الحديثة في عصر الثورة الصناعية، وكان لكل منهما تجربتها في التعامل مع الحضارة الصناعية الحديثة.
 وفي الوقت الذي حققت فيه تجربة الانتقال للحداثة في اليابان نجاحات مبكرة ومتواصلة واستطاعت أن تستعيد توازنها وتنطلق من جديد بعد مأساة الحرب العالمية الثانية؛ فإن التجربة المصرية أصيبت بانتكاسات متوالية، مثلها في ذلك مثل التجارب العربية الأخرى، ولم تنجح أي منها في الانتقال إلى حضارة العصر الصناعي وثقافته انتقالًا كاملًا.
 هذا وقد شهد القرن التاسع عشر كذلك بدايات التعارف بين المجتمعين المصري والياباني في العصر الحديث، ومحاولات استكشاف كل منهما للآخر. بدأت كل من مصر واليابان تنظر إلى الأخرى، وإلى تجربتها في النهضة، وقد كان انتباه اليابان إلى التجربة المصرية مبكرًا، في مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر عندما زارت مصر بعثة من الساموراي كانت في طريقها إلى أوروبا، ثم جاءت بعثة أخرى للوقوف على جوانب من تجربة التحديث والتعامل مع الغرب عندنا، بهدف الاستفادة منها في اليابان.



 وفي هذا البحث محاولة للتعرف على صورة اليابان في فكر النخبة السياسية والثقافية في مصر من خلال قراءة في بعض النصوص السياسية والإبداعية المبكرة التي ترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛
 لقد تمحورت صورة اليابان في الفكر المصري المعاصر حول ما يجمع بين مصر واليابان من سمات مشتركة، فكلاهما بلد له حضارة قديمة وتقاليد راسخة، وكلاهما اصطدم بالغرب، وكلاهما سعى للحاق بالعصر الصناعي؛ جاء انتباه مصر لليابان مع أواخر القرن التاسع عشر، ومراجعة فهارس الدوريات التي كانت تصدر في مصر أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مثل: المقتطف والمقطم والهلال والموسوعات، ثم السياسة الأسبوعية في مرحلة تالية، تكشف لنا عن اهتمام بالتعرف على ذلك البلد البعيد، حيث تحفل هذه الدوريات بالمواد المتنوعة عن تاريخ اليابان ونهضتها الحديثة، وعن أوجه الحياة المختلفة فيها.
 ومع انتصار اليابان على روسيا في الحرب الروسية اليابانية في سنتي 1904 - 1905، تحول الاهتمام إلى إعجاب وانبهار بالتجربة اليابانية المبكرة في الانتقال إلى المجتمع الصناعي الحديث، وفي انجاز مشروعها في الحداثة، ذلك الانتصار الذي رأى فيه الوطنيون المصريون وقتها بادرة أمل، وإشارة إلى إمكانية أن يتفوق الشرق على الغرب، ومن يومها استقرت التجربة اليابانية في العقل المصري والعربي، وكان لنجاح اليابان الفذ في الخروج من مأساة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية بسرعة، وانطلاقها لتصبح ضمن الثمانية الكبار في العالم، أثرًا إضافيًا في رسوخ صورة اليابان في الوجدان المصري، كحضارة شرقية قادرة على التحدي وإثبات الذات.
 إن تقديم التجربة اليابانية من قبل النخبة للمصريين كنموذج يمكن تكراره لتحقيق النهضة الحديثة أمر يعود إلى بدايات القرن الماضي ونجد هذه الفكرة واضحة لدى الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل في كتابه الشمس المشرقة الذي صدر سنة 1904 في أعقاب الانتصارات اليابانية الأولى في الحرب، وكذلك في رسائله لصديقته الفرنسية جوليت آدم، والتي يبدو فيها بوضوح أن هدف مصطفى كامل من تأليف كتابه الشمس المشرقة كان حس المصريين على النظر إلى الأمة اليابانية والتطلع إلى تحقيق مثل ما حققته، واحتذاء نموذجها وطريقها الأمر الذي ذكره بوضوح في إحدى رسائله إلى مدام آدم في 18 مارس سنة 1904، عندما قال: "إنني أبذل الآن جهدي في وضع سفر عربي عن اليابان ورقيها الحديث ووطنيتها لأنني أريد أبين للشعب كيف يرقى وأشجعه في مجهوداته الحاضرة".


 وقد عقد كامل في هذا الكتاب مقارنة بين الأمة المصرية والأمة اليابانية واستعرض فيه تاريخ اليابان ونهضتها الحديثة، وأفرد مساحة واضحة لتطور التعليم في اليابان باعتباره مدخلًا ضروريًا لتحقيق النهضة، وهي الفكرة التي كان يركز عليها قطاع أساسي من النخبة المصرية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
 وقد تكررت فكرة استلهام النموذج الياباني في النهضة في قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بعد عشرين عامًا على كتاب مصطفى كامل الشمس المشرقة؛ فقد كتب أحمد شوقي قصيدته التي تحمل عنوان "مصر تجدد مجدها بنسائها المتجددات"، وقد أُلقيت القصيدة في مسرح حديقة الأزبكية في حشد نسائي بمناسبة انطلاق النشاط الاجتماعي للمرأة، حيث تأسس في مارس من العام السابق، أي عام 1923 الاتحاد النسائي المصري.

شوقي
 ورغم أن القصيدة التي استهلها بقوله: "قم حيّ هذي النيرات" تركز على الهجوم على الحضارة الغربية، وتشيد بوضع المرأة في الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها، فإن شوقي اعتبر في بعض أبيات القصيدة تجربة اليابان مصدرًا لإلهام مصر في نهضتها، فيقول:
وإذا خطبت فلا تكن    خطبًا على مصر الفتاة 
اذكر لها اليابان لا         أمم الهوى المتهتكات 
ماذا لقيت من الحضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارة يا أخي الترهات 
لم تلق غير الرق من    عسر على الشرقي عات 
 لقد كان الانتصار الياباني على روسيا من وجهة نظر النخبة المصرية أول انتصار عسكري لدولة تنتمي لعالم الشرق على دولة أوروبية، ومن أبرز النماذج التي تعبر عن هذه الرؤية؛ هذا الاقتباس من مقدمة كتاب الشمس المشرقة:
 "كأن البعض منا معاشر الشرقيين يقول، ويلقن هذا القول للصغار والكبار، إننا أمم انقضى دورها، ودالت الأيام على مدنيتها، ومحا الزمان وجودها السياسي، وليس في وسعها التسلح بمدنية أوروبا ومقارنتها بها، وإنه لابد من الاستسلام للغرب وقبول حكمه وسلطانه بلا عمل للحاضر وبغير جهاد في سبيل المستقبل، فقامت أمة اليابان مكذبة لهذه الدعوة، منادية الشرقيين أجمعين بأن طريق الارتقاء ميسرة لقصاده، وأن من جد وجد وكل من سار على الدرب وصل، وتساءل الناس بدهشة وعجب: من هذا الشعب الذي خرج من القبور ليزعج الأحياء بأصوات مدافعه وقنابله وحركات جنوده في البحر والبر، ومطالب ساسته وتغلبه على الدولة التي ظنت وظن العالم معها أنها لا تغلب، وفوزه هذا الفوز الذي حارت فيه العقول وكادت الدنيا أن ترتاب فيه، وكيف أدرك هذا الشأو في سنوات قلائل، وجارى الغرب في أمور وسبقه في أخرى."
 وهي نفس الفكرة التي رددها شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدة له نشرها في نوفمبر من العام نفسه تحدث فيها عن عودة الشرق بقوة إلى التاريخ بفضل انتصار اليابان، وجاء فيها:
أتى على الشرق حينٌ           إذا ما ذُكر الأحياءُ لا يذكرُ
ومر بالشرق زمانٌ وما         يمرُ بالبال ولا يخطرُ
حتى أعاد الصفرُ أيامه    فانتصف الأسودُ والأسمرُ
فرحمة اللهِ على أمةٍ       يروي لها التاريخُ ما يؤثرُ


حافظ
 وكان حافظ إبراهيم فقد نظم قبلها بشهور قصيدته الشهيرة "غادة اليابان" ونشرها في 6 أبريل 1904، وقال في مطلعها:
  لا تلم كفي إذا السيف نبا   صح مني العزمُ والدهرُ أبى
وكانت القصيدة تروي في شكل حواري قصة فتاة يابانية ومحبوبها، حيث تقرر الفتاة العودة إلى الوطن لتتطوع في الحرب مشاركة لشعبها في معركته؛ وتقول القصيدة على لسان الفتاة:
 أنا يابانية لا أنثني   عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم     تستطع كفاي تقليب الظبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم   وأواسي في الوغا من نُكبا
هكذا الميكادو قد علمنا   أن نرى الأوطان أمًا وأبا
 ويبدو أن الانبهار بالتجربة اليابانية مع الانتصارات الأولى لليابان على روسيا في الحرب قد امتد إلى قطاعات واسعة من الجمهور، ففي مقال للكاتب المصري عباس محمود العقاد بعنوان "المشرق قبل 50 سنة وبعد 50 سنة" نشره في مقاله الذي كان يحمل عنوان اليوميات بجريدة الأخبار القاهرية بتاريخ 19 نوفمبر سنة 1955، قال: "كنا في نحو الخامسة عشرة يوم نشبت الحرب بين اليابان وروسيا، وكنا نتلقف الصحف لنقرأ فيها أخبار انتصارها في البر والبحر، وأخبار وقائعها الحاسمة حول المعاقل الكبرى في الشرق الأقصى، ولا نذكر أن الشرق من أقصاه إلى أقصاه شملته هزة من الفرح كتلك الهزة التي شملته أثناء الحرب اليابانية الروسية، لأنه اعتبرها حربًا شرقية غربية، وإن لم تكن روسيا مثلًا صحيحًا للغربيين أو الأوروبيين".

العقاد
 ويقول العقاد في موضع آخر من المقال نفسه: "وهاجرت من مصر طائفة من الشبان للتطوع في جيش اليابان، وبقي منهم شاب هناك تزوج من يابانية واسمه محمد فضلي على ما أذكر فثابر على الكتابة إلى الصحف المصرية زمنًا وبقي غيره ممن عاشوا هناك ولم يكتبوا إلى الصحف، وسمعنا أن بعضهم عاد بعد حين."
 ومن الجدير بالذكر أن هذا الاهتمام بالتجربة اليابانية ومقارنتها بتجارب التحديث المصرية ظل حاضرًا لسنوات في فكر النخبة المصرية، فنجده يظهر في مطلع الستينيات من القرن العشرين في الوثيقة السياسية الأساسية لنظام جمال عبد الناصر: "الميثاق الوطني"، فعندما تعرض الميثاق الوطني لجذور النضال المصري قارن بين تجربة اليابان في النمو وفشل التجربة المصرية في أيام محمد علي، واعتبر التجربة اليابانية تجربة ناجحة في النمو فشلت مصر في القيام بمثيل لها بسبب المغامرات الفردية؛ يقول الميثاق الوطني: "إن اليابان الحديثة بدأت تقدمها في نفس الوقت الذي بدأت فيه حركة اليقظة المصرية، وبينما استطاع التقدم الياباني أن يمضي ثابت الخطى، فإن المغامرات الفردية عرقلت حركة اليقظة المصرية وأصابتها بنكسة ألحقت بها أفدح الأضرار، إن هذه النكسة فتحت الباب للتدخل الأجنبي في مصر على مصرعيه، بينما كان الشعب قبلها قد رد بتصميم ونجاح محاولات غزو متوالية كان أقربها في ذلك الوقت حملة فريزر ضد رشيد".
وقد عاد المفكر والجغرافي المصري جمال حمدان إلى هذه المقارنة مرة أخرى في مقال له عن الدولة العصرية نشره في مجلة الفكر المعاصر في عدد يوليو 1968، ثم تكررت المقارنة مرارًا في كتابات مفكرين وساسة ومبدعين مصريين.
 وأصبحنا أمام ظاهرة واضحة، نجد فيها أن عددًا من المفكرين والساسة والمبدعين المصريين والعرب قد أصيبوا بما يمكن أن نسميه الاستلاب الفكري تجاه اليابان، ففي الوقت الذي كانت فيه بلدانهم تعاني من النهب الاستعماري والاحتلال العسكري والتبعية والتخلف الشديد بزغت في الشرق الأقصى دولة لا تنتمي إلى الدول الأوروبية، استطاعت أن تدخل في لعبة تقسيم العالم قبل الحرب العالمية الأولى، وأن تصبح طرفًا يحسب حسابه في التوازنات الدولية في منطقة الشرق الأقصى على الأقل. كما استطاعت اليابان قبل هذا كله أن تحقق نهضة شاملة انتقلت بها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، فأعجب بها مفكرونا وساستنا ومبدعونا إلا قليل.
السؤال الذي يسعى هذا البحث إلى الإجابة عليه: هل كانت قراءة النخبة المصرية للتجربة اليابانية قراءة تاريخية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...