الأحد، 21 أغسطس 2016

التاريخ للناس

عماد أبو غازي

 في صيف ١٩٦٧ وفي أعقاب هزيمة يونيو وجهني أبي في محاولة منه لإخراجي من  حالة أكتئاب ما بعد الهزيمة لقراءة ثلاثة كتب على التوالي: سندباد مصري لحسين فوزي، وشخصية مصر لجمال حمدان، وأيام لها تاريخ لأحمد بهاء الدين، علّي أجد في دروس التاريخ سلوى، كانت هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها لثلاثتهم، لكني كنت أعرف من بينهم أحمد بهاء الدين، فقد كان بالنسبة لي صديق أبي الذي رأيته عدة مرات بالمصادفة في الإسكندرية في كابينتهم بسيدي بشر مع أسرته، استمتعت بالكتاب وبأسلوبه السلس الذي يصل إلى القارئ ببساطة، لم يكن الكتاب حديث الصدور، لكنه بالنسبة لي كان كشفًا. 


صدرت الطبعة الأولى من كتاب "أيام لها تاريخ" في شهر مارس من عام ١٩٥٤، في سلسلة كتاب روزاليوسف، في لحظة فارقة من تاريخ مصر الحديث؛ فقد صدر في ظل ما يعرف في التاريخ المصري بأزمة مارس، تلك الأزمة التي انتهت بإغلاق الأبواب أمام إمكانيات التحول الديمقراطي في مصر لأكثر من ستين عامًا، ووأدت تمامًا الحقبة شبه الليبرالية التي عاشتها مصر بعد ثورة ١٩١٩، والتي كانت وليدة موجات متوالية من الحراك الشعبي المتواصل على مدى ما يقارب القرن والربع قرن، وأظن أن إصدار الكتاب في هذا التوقيت لم يكن من قبيل المصادفة؛ فحكايات الكتاب كلها عن أيام من صراع المصريين من أجل حريتهم. 
يروي بهاء في كتابه ست وقائع من تاريخنا الحديث، يبدأها بحكاية "الأدباتي خطيب الثورة"، عبد الله نديم ورحلة حياته التي تحول فيها من فتى متمرد إلى أدباتي ثم لسانًا لحال الثورة العرابية، خطيبًا وكاتبًا، إلى أن انتهى به الحال هاربًا ملاحقًا لتسع سنوات، انتهت بوشاية قادت السلطات إلى القبض عليه ونفيه، انها حلقة من حلقات ثورات المصريين ونضالهم من أجل حقهم في إدارة شؤون بلدهم، وفي الحكاية الثالثة التي تحمل عنوان "للجلاء والدستور والفن الجميل"، يقف بنا عند محطة ثانية من محطات النضال الوطني، الحزب الوطني ورجاله والمواجهة بينهم وبين الاحتلال والسلطة الموالية له، وفي الحكاية الرابعة "إمبراطورية زفتى" يتوقف عند ثورة ١٩١٩ من خلال واقعة من وقائعها الشهيرة، في ريف الدلتا، إعلان يوسف الجندي لجمهورية زفتى، ثم يستكمل حكاية ما آلت إليه الثورة، في فصل بديع عن العظيمين - كما أطلق عليهما - سعد وعدلي، وكان عنوان هذا الفصل "الأمة بين سعد وعدلي"، يحكي فيه عن انقسام الأمة بين سعديين وعدليين، بعد أن يحلل خصائص شخصية الزعيمين، ويحاول أن يربط بين هذه الخصائص ونشأتهما الأولى. 
أما الحكاية الثانية والحكاية الأخيرة فقد تناول فيهما قضيتين من القضايا التي تعكس جوانب من الصراع الفكري والثقافي في المجتمع بين التقاليد البالية ومحاولات التجديد، القضية الأولى قضية "زواج الشيخ علي يوسف" في بدايات القرن العشرين، وهي من القضايا التي شغلت المجتمع في حينها، وفتحت نقاشًا واسعًا حول حق المرأة في أن تتزوج ممن تشاء حتى ولو كان ذلك بخلاف رغبة وليها، كما فتح الباب لمناقشة قضية الكفاءة في الزواج، والقضية الثانية قضية "الإسلام وأصول الحكم" التي أثارها صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي يحمل هذا العنوان سنة ١٩٢٥لقد كشفت هذه القضية بوضوح عن ضيق المساحة المتاحة لحرية البحث العلمي، وعن رفض المؤسسة الدينية لأية محاولة للتجديد. 
أيام لها تاريخ الكتاب الثالث من بين مؤلفات أحمد بهاء الدين سبقه كتابان؛ كتابه الأول "الاستعمار الجديد أو برنامج النقطة الرابعة" الذي صدر في شهر مايو ١٩٥١، والكتاب صغير في حجمه كبير في قيمته، قدم فيه بهاء دراسة تحليلية نقدية لبرنامج النقطة الرابعة، والذي شكل جزءًا من مشروع الرئيس الامريكي هاري ترومان في مستهل فترة رئاسته الثانية لإعادة تشكيل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان المشروع يتضمن رؤية أمريكية جديدة للتعامل مع الدول غير المتقدمة بضخ رؤوس الأموال الامريكية إليها، وكشف بهاء في هذا الوقت المبكر تحولات القوى الدولية وانتقال مركز ثقل الرأسمالية العالمية إلى الولايات المتحدة التي كانت تسعى سعيًا حثيثًا لتحل محل القوى الاستعمارية القديمة، وحذر من مغبة قبول هذا البرنامج وتأثيره السلبي على استقلال مصر. 
 في ٢٥ أغسطس ١٩٥٢" صدر عن دار روزاليوسف كتاب فاروق ملكا ١٩٣٦ - ١٩٥٢" ثاني كتب أحمد بهاء الدين، بمقدمة لإحسان عبد القدوس، الذي طلب من بهاء بعد رحيل فاروق أن يكتب كتابًا عن سقوط الملكية، وقد تحمس بهاء، حسب روايته، للفكرة، لتكون تقيمًا سياسيًّا وتاريخيًا لحقبة الملك فاروق في مواجهة الكتب والكتابات التي أسرع البعض بإصدارها في الأيام التالية لعزله، والتي كانت تتناول ما أسمته بليالي فاروق وسهراته الحمراء، كأنما المشكلة في العصر الملكي كانت مجرد مشكلة أخلاقية.
وكتاب فاروق ملكًا نموذجًا آخر من نماذج كتابة بهاء التاريخية، ويقول رشاد كامل في مقدمته للطبعة التي أصدرتها مكتبة الاسرة لكتاب فاروق ملكًا في أغسطس ١٩٩٩ بعد ٤٧ عاما على صدور طبعته الاولى: 
"ونفذ الكتاب تمامًا وأصبح مرجعًا مهمًا وأساسيًا في مئات الكتب التاريخية والسياسية التي صدرت بعد ذلك، كما اعتبره أساتذة التاريخ أحد الوثائق المهمة التي لا غنى عنها للباحث التاريخي."
وأذكر بالفعل أنني بناء على توجيه أستاذي اعتمدت على الكتاب في بحثي في السنة النهائية بقسم التاريخ عن حريق القاهرة، كما اعتمدت قبلها على كتاب برنامج النقطة الرابعة في مجلات الحائط التي كنت أكتبها في عامي ١٩٧٤ و١٩٧٥ مع عودة الولايات المتحدة بقوة إلى مصر.
لكن يبقى "أيام لها تاريخ" الأبرز في كتابات بهاء التاريخية، وفي ظني أن بهاء شق بكتابه أيام لها تاريخ مسارًا جديدًا في الكتابة التاريخية في مصر، المسار الذي أسميه التاريخ للناس، فقد كان يخاطب في كتابه القارئ غير المتخصص، يقدم لقطات من التاريخ بلا ترتيب منهجي يجمع بينها قضية واحدة الدفاع عن الأفكار والمبادئ، وقد كانت الكتابة التاريخية قبل "أيام لها تاريخ" إما كتابة أكاديمية متخصصة أو كتابة موجهة لها منطلقات سياسية حزبية مثل كتابات الرافعي، أو صياغة روائية للتاريخ مثلما كان يفعل جورجي زيدان؛ فتح أحمد بهاء الدين بهذا الكتاب بابًا واسعًا لتقديم التاريخ بصورة شيقة وجاذبة للقارئ، فمد جسورًا بين الناس وتاريخهم. 
انطلق أحمد بهاء الدين من مقولة قدم بها لكتابه: "إن الإنسان حيوان ذو تاريخ"؛ فما معنى هذا؟ يجيب بهاء في مقدمة الكتاب:  
"معناه أن الميزة الأولى التى تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هى أن كل جيل من البشر يعرف تجارب الجيل الذى سبقه ويستفيد منها.. وأنه بهذه الميزة – وحدها – يتطور..
وليس يكفى أن تعرف حوادث التاريخ لكى تحسب انك قد تعلمت التاريخ.. فألاهم أن تستخلص من هذه الحوادث عبرتها: على أى شيء تدل؟.. وفى أى طريق يمضى التاريخ؟.. فان ذلك يجعلك تعلم ما سوف يحدث وما لا يمكن أن يعود.. فيجنبك أن تكون رجعيًا، ويحميك من السير وراء دعوات براقة فات وقتها..
والتاريخ هو الفرق بين الإنسان الواعي، وغير الواعي"

سار على نهج بهاء كثيرون؛ فكتب حسين فوزي "سندباد مصري" في أوائل الستينيات ، وكتب صلاح عبد الصبور "رحلة الضمير المصري" في مطلع السبعينيات، وجمع صلاح عيسى "حكايات من مصر" في السبعينيات أيضًا، والقائمة تطول حيث بدأ بعض الأكاديميين المتخصصين يسلكون هذا النهج، لكن يبقى لأحمد بهاء الدين فضل أنه من فتح الباب وشيد الجسر للوصول بالتاريخ إلى الناس بأسلوب سلس وبسيط.

رابط المقال في أخبار الأدب
http://adab.akhbarelyom.com/newdetails.aspx?sec=%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86&g=8&id=279789

رابط ملف أخبار الأدب

http://adab.akhbarelyom.com/newssection.aspx?sec=%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86&g=8&id=251

هناك تعليقان (2):

  1. السلام عليكم أستاذي العزيز . رغم أني قرأت الكتب الثلاثة من سنوات كثيرة إلا أني قرأت مقالكم الكريم فشعرت أني أقرأ شرح مبسط وسلس لكتاب الاستاذ أحمد بهاءالدين يلخص رسالة الكتاب في سطور قليلة . شكراً أستاذي جعلك الله دائماً مناراً للعلم

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...