الخميس، 8 أغسطس 2024

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

 

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

 

عماد أبو غازي



 

 لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثورة ١٩١٩ وساهم في تشكيل الحياة المصرية والوعي الثقافي في المجتمع منذ النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي.

 تعرفت على لطيفة الزيات لأول مرة مثل كثيرين من أبناء جيلي من خلال الباب المفتوح، فيلمًا في مرحلة الصبا، ثم رواية بعد ذلك، وفي السبعينيات الأولى عرفتها من كتاباتها في مجلة الطليعة عندما كانت تشرف على الملف الثقافي بالمجلة، لكن اللقاء الفعلي بها للمرة الأولى كان من خلال لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، لقد تأسست اللجنة في أعقاب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ثم معاهدة السلام عام ١٩٧٩، وانتشار دعاوى التطبيع الثقافي، وقد ساهمت لطيفة الزيات في إنشائها وتولت رئاستها لأكثر من ١٧ عامًا، وقد وضعت هذه اللجنة على كاهلها عبء "مقاومة التطبيع في المجال الثقافي والأكاديمي، والدفاع عن الثقافة المصرية ضد المؤثرات الأجنبية الضارة، لحماية المنطلقات الفكرية التحررية للشخصية الوطنية".

 وقد نجحت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية برئاسة لطيفة الزيات في التأثير في حركة المثقفين المصريين في مواجهة التطبيع مع إسرائيل، فأصبح رفض التطبيع الثقافي والأكاديمي الموقف الأساسي في الوسط الثقافي والأكاديمي وما عاداه الشذوذ، فاتخذت جميع النقابات الفنية ومعظم النقابات المهنية قرارات برفض التطبيع الثقافي، كما كان هذا نفس موقف معظم نوادي أعضاء هيئات التدريس في الجامعات المصرية، ولم يقتصر دور لجنة الدفاع عن الثقافة القومية على التوعية بمخاطر التطبيع الثقافي من خلال ندواتها وبياناتها وإصداراتها، لكنها خاضت كذلك معارك جماهيرية في الشارع في مواجهة استضافة إسرائيل في معرض الكتاب ثلاث مرات، وقُبض على بعض أعضائها في هذه المعارك.

 وقد أدى نشاط اللجنة بقيادة لطيفة الزيات إلى اعتقالها قبيل حملة سبتمبر ١٩٨١ في قضية ملفقة من أجهزة الأمن، وكان أخر لقاء معها قبل اعتقالها بفترة وجيزة في شرفة منزلها بالمهندسين مع بعض أعضاء اللجنة لصياغة بيان باسم اللجنة عن الفتنة الطائفية التي اشتعلت في بعض أحياء القاهرة في صيف ١٩٨١ الساخن، ذلك البيان الذي تهكم عليه السادات في خطابه الشهير يوم ٥ سبتمبر واعتبر أنه "كلام مكلكع".

 لم تتوقف لطيفة الزيات عن نشاطها في مقاومة التطبيع ومقاومة الفساد بعد الإفراج عنها، بل استمرت في مسيرتها النضالية حتى أيامها الأخيرة؛ تلك المسيرة التي بدأتها في منتصف أربعينيات القرن الماضي عندما كانت طالبة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن).

***

  لقد ارتبط اسم لطيفة الزيات باللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وبمظاهرة يوم الجلاء ٢١ فبراير ١٩٤٦، ولهذا اليوم أهمية بين أحداث النضال الوطني في تاريخنا الحديث عامة، وفي تاريخ الحركة الطلابية على وجه الخصوص، ذلك اليوم الذي أصبح يومًا عالميًا للتضامن مع كفاح طلاب مصر وطلاب المستعمرات إحياء لذكري شهداء المظاهرات الشعبية ضد الاحتلال البريطاني والتي قادها الطلاب في كل من مصر والهند.

 ولهذا اليوم أحداث سبقته، وجذور بعيدة مهدت له، فمنذ مطلع القرن العشرين ولدت الحركة الطلابية المصرية واتخذت مسارين متجاورين ومتشابكين عادة، مسار الحركة المطلبية التي يسعى خلالها الطلاب لتعديل لوائح الدراسة ونظم التعليم، وأخرى سياسية ذات أبعاد وطنية وديمقراطية تطالب بالجلاء والدستور، ومع اندلاع ثورة ١٩١٩ لعب الطلاب دورًا متعاظمًا في النضال الوطني وفي الدفاع عن الحريات العامة والحفاظ على الدستور.

 ومثلما تفجرت ثورة ١٩١٩ مع نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد شهدت مصر عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في صيف ١٩٤٥ تصاعدًا في الحراك السياسي المطالب بالجلاء التام للإنجليز عن مصر والسودان، وكانت فترة الحرب العالمية الثانية قد شهدت تحولات في الخريطة السياسية للأحزاب المصرية، فقد شهد حزب الوفد، حزب الأغلبية الذي كان يحظى بتأييد شعبي حقيقي انقسامات جديدة مؤثرة بانشقاق مكرم عبيد باشا وتأسيسه حزب الكتلة الوفدية، كما شهد الحزب استقطابًا داخليًا بين الجناح المحافظ الذي يعبر عن مصالح كبار الملاك، والجناح الداعي إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية، والذي عرف بالطليعة الوفدية، وكان يضم كثيرًا من الطلبة الوفديين، ويقوده مفكرين ومثقفين من ذوي الميول اليسارية مثل الدكتور محمد مندور، وفي نفس الوقت تصاعد نفوذ الأحزاب والحركات الجديدة التي تستند إلى مرجعيات دينية أو فكرية مثل جماعة الإخوان المسلمين، ومصر الفتاة، والتنظيمات الشيوعية المتعددة، وأصبح لهذه القوى الجديدة مع الطليعة الوفدية النفوذ الأكبر في وسط الحركة السياسية للطلاب.

 في هذه الأجواء بدأت الحكومة المصرية التي كان يرأسها محمود فهمي النقراشي باشا اتخاذ خطوات نحو العودة بالبلاد للأوضاع الطبيعية، فأُلغيت الرقابة على الصحف وأُبيحت الاجتماعات العامة ومُنع الاعتقال في يونيو ١٩٤٥، وفي أكتوبر ألغيت الأحكام العرفية تمامًا.

 ومع بداية عام دراسي جديد نشطت الحركة الطلابية مجددًا مناديةً بتحقيق الجلاء الكامل للقوات البريطانية عن مصر، وظهر البعد الاجتماعي في الموجة الجديدة من موجات الحركة الطلابية، فظهرت مطالب العدالة الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع مطالب الاستقلال الوطني والديموقراطية، كذلك تميزت هذه الفترة دعوات التضامن مع الحركة الوطنية في فلسطين ومع حركة المطالبة بالاستقلال في إندونيسيا، وتشكلت اللجان الطلابية المختلفة التي تولت قيادة الحراك الطلابي ومنها اللجنة الوطنية للطلبة.

  في الوقت نفسه طالبت الحكومة في ديسمبر ١٩٤٥ بريطانيا بالدخول في مفاوضات لتعديل اتفاقية ١٩٣٦، جاء الرد البريطاني سلبيا في ٢٦ يناير ١٩٤٦، كان الرد يؤكد على صلاحية معاهدة ١٩٣٦ للاستمرار، مع مماطلة واضحة في إمكانية تعديل بعض شروطها، ومن هذا الرد السلبي كفيلًا بتفجير الغضب الشعبي ضد الوجود البريطاني في مصر والسودان، وجاءت الشرارة من الجامعة؛ فتصاعدت الأحداث بسرعة ووصلت ذروتها في فبراير ١٩٤٦، انتفاضة طلابية يقودها طلاب الوفد والطلاب المنتمين إلى الحركة الشيوعية، فخلال الأسبوعين التاليين للرد البريطاني السلبي تصاعدت حركة الاحتجاج وسط طلاب الجامعة، ووصلت الأمور إلى ذروتها يوم السبت ٩ فبراير ١٩٤٦ عندما خرج الطلاب في مظاهرات حاشدة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) قاصدين قصر عابدين مقر الملك وهم يهتفون للجلاء، وعند كوبري عباس (الجيزة حاليًا) تصدت قوات الأمن للمظاهرة لمنعها من العبور إلى القاهرة، وفتحت قوات الأمن الكوبري لمنع المظاهرة من العبور إلى القاهرة، وتواصلت المظاهرات في اليوم التالي في القاهرة وفي عدد من المدن المصرية، وسقط فيها شهداء وجرحى فاضطر رئيس الوزراء للاستقالة.

 كانت لطيفة الزيات الطالبة بكلية الآداب قد انتمت إلى الحركة الطلابية وإلى تنظيمات اليسار المصري، وبرز اسمها كقيادة من قيادة انتفاضة ١٩٤٦، فبعد أيام من مظاهرات ٩ و١٠ فبراير، اتجه الطلاب الشيوعيين والوفديين إلى بناء تحالف بين الحركة العمالية والحركة الطلابية، وتشكلت بينهما اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، لتحل محل اللجنة الوطنية للطلبة في قيادة الحركة، وكان من أبرز قادتها من صفوف اليسار الماركسي والطليعة الوفدية لطيفة الزيات وثريا أدهم وعصام الدين جلال وفؤاد محيي الدين ومصطفى موسى وعبد المحسن حمودة.

 دعت اللجنة إلى مظاهرة كبرى في ٢١ فبراير ١٩٤٦ وأطلقت على اليوم يوم الجلاء، وكان ذلك اليوم الحدث الأكبر الذي ارتبط بانتفاضة فبراير ٤٦، وقد شارك في هذه المظاهرة المطالبة بالجلاء عشرات الآلاف، وعندما وصلت إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) أطلقت عليها القوات البريطانية الرصاص الحي من ثكنات قصر النيل، وسقط عشرات الشهداء، وقد دعت اللجنة لمظاهرات يوم ٤ مارس احتجاجًا على جريمة الاحتلال، وأطلقوا على الحدث يوم الشهداء.

لقد أثمرت انتفاضة ١٩٤٦ بعد شهور قليلة انسحاب القوات البريطانية من المدن المصرية وتركزها في منطقة القناة، وفي نفس الوقت كان من نتائجها سلسلة من حملات الاعتقال ضد أعضاء التنظيمات الشيوعية ويسار الوفد الذي عُرف بالطليعة الوفدية وبعض الكتاب والمثقفين التقدميين، وفي واحدة من هذه الحملات اعتُقلت لطيفة الزيات وصدر الحكم بحبسها مع إيقاف التنفيذ.

***

 لكن كيف تفتح وعي لطيفة الزيات السياسي؟ ومتى؟

 أترك المجال للدكتورة لطيفة الزيات لتصف كيف تكون لديها الحس الوطني وهي بعد صبية في الحادية عشر من عمرها، في سنة ١٩٣٤، من خلال كتابها "حملة تفتيش ـ أوراق شخصية"، الصادر سنة ١٩٩٢، تقول لطيفة الزيات:

 "كان ذلك في يوم من أيام ١٩٣٤، ورئيس الوزراء يرفض السماح لمصطفى النحاس، زعيم حزب الوفد والأغلبية بالقيام بزيارة للأقاليم تتضمن زيارة المنصورة، يوقف حركة القطارات، ويأتي موكب النحاس في السيارات، تحيل بلدية المنصورة شارعنا وبقية الشوارع الرئيسية إلى مجموعة متتالية من الخنادق لتحول دون موكب النحاس والتقدم. والشوارع تعج بآلاف المتظاهرين، وشارعنا يتقدم منه البعض بعد البعض يحمل سيارة النحاس باشا على أكتافه، يتجاوز بها خندقًا بعد خندق في شارعنا، والموكب يتقدم رغم كل شيء، وصيحات انتصار عارمة، انتصار إرادة الجماهير، وبنادق سوداء كابية تصنع حدًا نهائيًا للموكب والمظاهرة... ومع الدم كما النافورة فار أحمر قانيًا فوق رؤس الكتلة البشرية المتخبطة وانحسر مع الهدير المنتصر للجماهير وقد اغتيل، وموجة من البشر تنحسر بعد موجة، مع أزرار نحاسية تضوي في أشعة الشمس مع بنادق طويلة سوداء كابية، مع قذائف الطوب تنهال على رجال البوليس مع الأجساد تتعرى للرصاص، والملابس تتحول إلى مشاعل توقد شعلة العشق، الموت، مع أربعة عشر قتيلًا بعد قتيل وعدتهم الصبية قتيلًا بعد قتيل وعربة الإسعاف في كل مرة تنطلق مع شارع العباسي في مدينة المنصورة في يوم من أيام ١٩٣٤، وقد تفجرت أحشاؤه وانطرح، وحفنة من رجال البوليس، ودم لم يعد يفور كما النافورة أحمر قانيًا، ينزلق قطرة قطرة مختلطًا بطين الشارع، ينحبس أسود مفحمًا. تحولت الطفلة إلى الصبية تتعرف الشر مجسدًا على مستوى الدولة".

 ملابسات اليوم الذي تحكي عنه وسياقه التاريخي بدأت في صيف ١٩٣٠،  عندما قدم مصطفى النحاس استقالة حكومته في ١٧ يونيو ١٩٣٠، وأكد فيها أن سببها عدم تمكنه من تنفيذ برنامجه، واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب وأعلن أن الوزارة قدمت استقالتها وحدد أسباب الاستقالة، وغادر البرلمان، إلا أن المجلس قرر بعد مناقشة قصيرة تجديد الثقة بالحكومة، لكن الملك فؤاد قبل استقالة الوزارة يوم ١٩ يونيو، وفي اليوم التالي كلف إسماعيل باشا صدقي بتشكيل الوزارة لينفذ نية الملك المبيتة بالتعدي على دستور الأمة ويغتال حقوقها التي اكتسبتها عبر نضال طويل، وفي غضون أربعة أشهر من تشكيل حكومة صدقي، كان الرجل قد نفذ ما دبر له الملك ورجاله، فألغى دستور ١٩٢٣ وأصدر بدلًا منه في ٢٢ أكتوبر ١٩٣٠ دستورًا جديدًا مشوهًا معيبًا، وطال الانقلاب الدستوري وامتد لخمس سنوات وعدة أسابيع، كانت سنوات صعبة عرفت مصر خلالها طريق الاستبداد كما عرفت طريقها إلى الحرية.

 قاد الوفد بزعامة النحاس باشا حركة المقاومة، وكانت المشاهد التي روتها لطيفة الزيات جزء من هذه المقاومة التي تواصلت حتى خريف ١٩٣٥، عندما اشتعلت "ثورة الشباب" في نوفمبر ١٩٣٥، ونجحت بعد عدة أسابيع، وتحديدًا في يوم ١٢ ديسمبر ١٩٣٥ في إرغام الملك على إعادة دسنور ١٩٢٣، وكان من بين قادة الحركة في ١٩٣٥ المعيدة بكلية الآداب سهير القلماوي.

  نعود إلى حملة لطيفة الزيات للتفتيش في ذاكراتها وأوراقها، وهي تصف مشاعرها في ذلك اليوم؛ تقول: "لا أجد في حضن أمي الملاذ من شرور الدنيا وأنا في الحادية عشر من عمري، أطل من شرفة بيتنا في شارع العباسي بالمنصورة، لا أحد يجيرني، لا أحد يملك أن يجيرني، لا أبي يحاول انتزاعي من الشرفة حتى لا أرى ولا أسمع، ولا أمي تبكي بلا صوت، وأنا أنتفض بالشعور بالعجز بالأسى بالقهر، ورصاص البوليس يردي أربعة عشر قتيلًا من بين المتظاهرين ذلك اليوم، وأنا أصرخ بعجزي عن الفعل، بعجزي عن النزول إلى الشارع لإيقاف الرصاص ينطلق من البنادق السوداء، أسقط الطفلة عني، والصبية تبلغ قبل أوان البلوغ مثخنة بمعرفة تتعدى حدود البيت لتشمل الوطن في كليته، ومصيري المستقبلي يتحدد في التو واللحظة وأنا أدخل باب الالتزام الوطني من أقسى وأعنف أبوابه، يضنيني الرجوع ولو قليلًا عنه، ويحملني هذا الرجوع الشعور بالإثم، ويعذبني اختناق صوتي حين نختنق، ويحدوني رجاء لا يبين أن أظل قادرة على قولة: لا لكل مظالم الدنيا."

 وقد ظلت بالفعل تقاوم كل مظالم الدنيا وتقول لا حتى رحيلها عنا.

 تعرضت لطيفة الزيات للاعتقال في شبابها في الأربعينيات، وتعرضت للاعتقال في شيخوختها في مطلع الثمانينيات، لكنها لم تتوقف عن العطاء للوطن في المجال الأكاديمي حيث عملت في تدريس الأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس، أو في المجال العام من خلال كتاباتها في الصحف والمجلات، أو من خلال إبداعها الأدبي، أو من خلال مشاركتها في النشاط السياسي، خلفت ورأها إسهامًا بارزًا في بناء الثقافة المصرية، وتراثًا من العطاء للوطن، من خلال أعمالها النقدية والإبداعية، ومن خلال دورها البارز في النضال الوطني والديمقراطي منذ الأربيعنيات وحتى رحيلها؛ لقد وهبت لطيفة الزيات حياتها لهذا الوطن، للدفاع عن حريته واستقلاله، للدفاع عن ثقافته وكل ما فيها من قيم إيجابية.

 لقد رأيت الدكتورة لطيفة الزيات في الشهور الأخيرة بعد أن علمت بمرضها، ونحن نعمل على إنجاز "موسوعة الكاتبة العربية ذاكرة للمستقبل" التي كانت ترأس تحريرها، يومها رأيت فيها نموذجًا للقوة الإنسانية في مواجهة الموت، كان شغلها الشاغل كيف تنظم وقتها فيما بقى لها من أسابيع تعيشها لكي تضع أولويات إتمام الأعمال التي بدأتها.

 لقد رأيت فيها كما كتبت وأنا أنعيها تجسيدًا حيًا لثقافة الإنسان المصري الذي يتحدى الموت، رأيت فيها عبارة عالم المصريات جيمس هنري بريستد التي يصف فيها إبداع المصري القديم لمتون الأهرام بأنه:

 "الاحتجاج الملح بل الاحتجاج الحماسي ضد الموت... والثورة ضد الظلمة والسكون العظيمين."

كانت لطيفة الزيات هرمًا من أهرام الثقافة المصرية لذلك ستظل ذكراها باقية ما بقيت الأهرام. 

 

الثلاثاء، 27 فبراير 2024

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

عماد أبو غازي

 إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به تمر هذا العام؛ ففي شهر ديسمبر يكون قد مر خمسة وثمانون عامًا على صدور كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر"، وقد أثار الكتاب عند صدوره معارك فكرية واسعة النطاق، كما طرح على العقل المصري أسئلة مهمة، ورغم مرور كل هذه السنوات إلا أن أصداء هذه المعارك ما زالت تتردد إلى يومنا هذا، كما أن الأسئلة التي طرحها الكتاب ما زالت ملحة في حياتنا لم تلق إجابة بعد.



 فمن اللافت للنظر أن الكثير من القضايا التي طرحها طه حسين في كتابه ما زالت مطروحة للنقاش، وبعض المشكلات التي تعرض لها وقدم تصوراته لحلولها عالقة إلى الآن لم تجد لها حلًا، فالكتاب رغم مرور كل هذه السنوات ما زال مثيرًا للنقاش، ليس فقط باعتباره علامة من علامات تاريخ الفكر والثقافة في مصر، بل كذلك لأن القضايا التي طرحها حية إلى الآن.

 لقد استحضرنا الكتاب عند المنعطفات المهمة واللحظات الحرجة في تاريخنا، ففي عام 1992، وفي مواجهة موجة الإرهاب التي شهدتها مصر، صدرت طبعة مصورة عن الطبعة الأولى للكتاب، وفي عام 1996 صدرت طبعة ثانية من الكتاب بمناسبة اقتراب الذكرى الستين لصدور طبعته الأولى، وفي أعقاب ثورة 25 يناير صدرت عدة طبعات للكتاب، وما زالت الطبعات تتوالى.

 واليوم ونحن نتذكر طه حسين بعد خمسين عامًا من رحيله، علينا أن نتوقف عند الكلمات التي ختم بها طه حسين كتابه:

"فإن مصر التي انتصرت على الخطوب، وثبتت للأحداث وظفرت بحقها من أعظم قوة في الأرض في هدوء وأناة وثقة بالنفس وإيمان بالحق، خليقة أن تنتصر على نفسها وتظهر على ما يعترض طريقها من العقاب، وترد إلى نفسها مجدًا قديمًا عظيمًا لم تنسه ولن تنساه".

 ونتساءل: هكذا كان الحلم وكان الأمل، فترى إين نحن منهما بعد مرور خمسة وثمانين عامًا؟

  وعلينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة التي طرحها الرجل لكنها لم تجد إجابة شافية إلى الآن، لن نناقش كتاب طه حسين بل نناقش الأسئلة الجوهرية التي طرحها الرجل على معاصريه، لكنها لم تلق إجابة بعد.

أول هذه الأسئلة وأهمها: سؤال المستقبل؛ هل نملك رؤية واضحة للمستقبل؟ هل وضعنا سيناريوهات بديلة لمستقبل هذا الوطن في عالم يموج بالمتغيرات؟

 ربما يمكن أن نعتبر أن كتاب الدكتور طه حسين الذي صدر سنة 1938 "مستقبل الثقافة في مصر" من أقدم الخطط المستقبلية على المستوى القطاعي في مجتمعنا، ورغم أنه لم يكن يشغل موقع المسئولية التنفيذية في ذلك الحين إلا أنه من واقع خبراته الحياتية ورؤيته كمفكر منحاز للتقدم نجح في أن يقدم هذه الخطة المستقبلية التي سعى إلى تنفيذ بعضها عندما تولى منصب وزير المعارف العمومية في حكومة الوفد الأخيرة (12 يناير 1950-27 يناير 1952).

 فماذا عن خططنا المستقبلية منذ ثلاثينيات القرن الماضي؟ وما مدى جديتها؟ وما قدر التزامنا بها؟

السؤال الثاني: سؤال الهُوية، وأظنه سؤال مثير للاستغراب، ففي بلد يمتد تاريخه المكتوب لما يزيد عن خمسة آلاف عام ما زلنا نتساءل حول الهوية!

 وفي مستقبل الثقافة في مصر انطلق طه حسين أيضًا من الماضي ليبني تصوراته للمستقبل، مستقبل الثقافة، التي رأى فيها مدخلًا لمستقبل الوطن؛ لقد بدأ طه حسين كتابه بالبحث في الهُوية، هُوية مصر وانتمائها، ربما كانت الفصول التي تدور حول الهوية هي أكثر ما أثار الجدل والنقاش حول كتاب مستقبل الثقافة في مصر، في حين صدور الكتاب، وإلى الآن، بل حول طه حسين نفسه.

 ناقش طه حسين قضية الهوية في وقت كانت مصر قد انسلخت حديثًا انسلاخًا كاملًا من الإطار العثماني، واستكملت بناء هويتها القومية المصرية بعد ثورة 1919 التي توجت نضالًا ممتدًا من أواخر القرن الثامن عشر، لكن كانت هناك بقايا لمقاومة فكرة القومية المصرية، وكانت هناك تيارات ترفض الجديد وتحاول إعادة مصر إلى زمن سابق، وإذا كان البحث عن الهُوية مفهومًا في تلك الفترة التي كانت مصر تمر فيها بمنعطفٍ تاريخيٍ، فالغريب أن يستمر البحث عن هويتنا بعد مرور كل هذه السنوات، وأن تصبح قضية الهوية محورًا للصراع السياسي والاستقطاب المجتمعي.

ثالث الأسئلة يدور حول الموقف من التراث، هل تراثنا قابل للنقد؟ هل نجحنا أن نعيش عصرنا فكرًا وممارسةً، أم أننا مازلنا رهائن للماضي؟

  لقد كان طه حسين مفكرًا مهمومًا بالمستقبل، مستقبل وطنه، ومستقبل الأجيال الجديدة، ومستقبل الفكر والعلم والثقافة، وهو مثل الكثير من المستقبليين ينطلق إلى المستقبل من دراسة الماضي، وكان ينظر إلى الماضي من زاويتين: الزاوية الأولى الماضي/التاريخ/التراث كحجر عثرة في طريق التقدم بسبب أسلوب تعاملنا معه، وتحويله إلى مقدس غير قابل للنقد والنقض، والزاوية الثانية الماضي/التاريخ/التراث كنقطة انطلاق نحو المستقبل نتعامل معه برؤية نقدية ونأخذ منه بقدر احتياجنا ونبني عليه.

 للأسف ما زلنا نعيش في مجتمع ماضوي تحكم تفكيرنا أفكار الموتى من قبورهم، مجتمع يقدس الماضي ويتركه يتحكم في حاضرنا ومستقبلنا، مجتمعنا يتعارك حول أي ماضٍ ينبغي أن نستلهمه ونجعل منه مرجعية لحياتنا المعاصرة ولمستقبلنا، بدلًا من أن تدور معركتنا حول مستقبل جديد، ما زلنا عالقين في فخ الماضي.

 كيف نواجه العلم الكاذب؟

سؤال رابع طرحه طه حسين وما زلنا في حاجة إلى الإجابة عليه، كان طه حسين يرى في العلم الكاذب شرًا يهدد الأجيال الصاعدة، فقال: "إذا كان هناك شر يجب أن نحمي منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب، الذي يكتفي بظواهر الأشياء ولا يتعمق حقائقها، فلننظر كيف نرد عن أجيال الشباب هذا الشر، وليس إلى ذلك سبيل، إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساس متين."

 هل نجحنا بعد أكثر من ثمانين عامًا أن نتمكن أو نُمكن الأجيال الجديدة من أدوات مواجهة العلم الكاذب؟ أظن أننا في موقف أسوأ مما كان عليه الحال عندما كتب طه حسين عبارته تلك، فقد أتاحت ثورتا المعلومات والاتصالات المجال واسعًا أمام نشر العلم الكاذب من خلال أدوات العصر الجديد.

هل نحن في مجتمع يحترم قيمة العمل؟

  في عام 1938 كان أحد هموم طه حسين الدعوة لاحترام "العمل الصادق النافع"، كان ينادي بضرورة   "أن نأخذ أمورنا بالحزم والجد، وأن نعرض عن الألفاظ التي لا تغني، إلى الأعمال التي تغني، وأن نبدأ في إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين." فهل يحترم مجتمعنا بعد مرور هذه السنوات قيمة العمل؟

 أسئلة التعليم...

 تشكل أسئلة التعليم المحور الأساسي عند طه حسين؛ واللافت للنظر أننا بعد مرور ثمانية عقود على مشروع طه حسين أصبحنا في وضع متراجع في التعليم عما كان عليه الحال زمن صدور الكتاب، فالقسم الأكبر والأهم من كتابه يناقش فيه قضايا التعليم في مصر، وما يعانيه من مشكلات، وما يقترحه من حلول لها، واعتبر أن التعليم يلعب الدور الأكبر في التكوين الفكري والمعرفي للإنسان.

 ويدور فكر طه حسين عن التعليم حول ثلاثة محاور رئيسية، أولها التعليم والهوية القومية، وثانيها دور التعليم في الحفاظ على الديمقراطية والاستقلال الوطني، وثالثها التعليم والعدالة الاجتماعية، ومن خلال هذه الركائز الثلاثة في فكر الرجل نستطيع أن نفهم كل أفكاره حول المستقبل المرجو للتعليم.

 فهل نملك اليوم تعليمًا يسهم في تكوين وعي الأجيال بانتمائهم الوطني؟

 وهل نجحت منظومة التعليم في بناء الديمقراطية وحمايتها؟ وهل لدينا اليوم عدالة اجتماعية في نظامنا التعليمي؟

 هل نجحنا في دمج منظومة التعليم الديني داخل منظومة تعليمية وطنية؟

 وهل نملك جامعات تتمتع بالاستقلال الصحيح كما دعا إليه طه حسين؟ وهل لدينا احترام لحرية البحث العلمي؟ وهل ننفق على التعليم والبحث العلمي ما ينبغي أن ننفقه؟

 أزعم أن الإجابة على كل هذه الأسئلة ليست في صالحنا.

  أسئلة الثقافة

  أما مستقبل الثقافة في مصر الذي يحمل كتاب طه حسين عنوانه فقد رسم له خارطة طريق لصيقة الصلة بمستقبل مصر المستقلة الديمقراطية، إنه مستقبل يرتكز على تكوين المواطن المصري بالتعليم والثقافة؛ ويؤكد طه حسين أن الثقافة ليست محصورة في المدارس والمعاهد، وأن تنظيم شئون التعليم وحده ليس كافيًا من أجل تحقيق المستقبل الذي نرنو إليه للثقافة المصرية، وهو يرى أن العمل الثقافي مسئولية مشتركة بين الدولة والشعب، ينبغي أن تتجه نحو تمكين المثقفين من أن ينتجوا ما يضيف إلى الثقافة المصرية ويجددها، وأن يتعاونوا على تحقيق الصلة بين مصر والثقافات العالمية، ويدعو لتطوير العمل الأهلي في مجال الثقافة ودعمه.

 فكيف يمكن أن نرى حال ثقافتنا في عالم اليوم؟ ما الذي حققناه؟ وما الذي فشلنا في تحقيقه؟ وهل ثقافتنا اليوم بخير؟

مقالي في أخبار الأدب في ملف طه حسين أكتوبر 2023