500 سنة على الاحتلال العثماني لمصر
عماد أبو غازي
على اسم مصر التاريخ
يقدر يقول ما شاء
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
وأحبها وهي مرمية جريحة حرب
بدأت
بهذا المقتطع من كلمات شاعرنا الكبير صلاح جـاهين من ملحمته الشعرية "على اسم
مصر"، لأن موضوع اليوم يقدم مصر في لحظة من لحظتها "وهي مرمية جريحة
حرب".
في مثل هذا الأيام من خمسمائة عام
كانت القاهرة وضواحيها ساحة لقتال مشتعل بين أبناء البلد وفلول جيش المماليك من
جانب وجيوش الاحتلال العثماني من جانب آخر.
ففي الأسبوع الأخير من شهر يناير
سنة 1517 ميلادية الموافق لبداية شهر محرم من سنة 923 هـ، كانت مصر تعيش لحظة حرجة
في تاريخها، لحظة تحديد للمصير، وحسم لمستقبل البلاد، إنها لحظة امتدت آثارها
لأربعة قرون طوال، بل إن بعض هذه الآثار مازلنا نعيشها إلى الآن.
نعود اليوم مرة أخرى إلى الأيام الأخيرة من عصر دولة المماليك الجراكسة في
مصر، واللحظات الأولى لسقوط البلاد في قبضة الاحتلال العثماني، لقد كانت سنتا 1516
و1517 سنتين من السنوات العصيبة في التاريخ المصري، سنتان شهدتا سقوط دولة
المماليك الجراكسة وفقدان مصر لكيانها المستقل؛ ليبدأ عصر جديد من عصور التبعية
لقوة خارجية صاعدة في سماء المنطقة، فأصبحت مصر ولاية في دولة كبرى مركزها استنبول
على مضيق البسفور، وبعد أن استمرت القاهرة لعدة قرون المركز الحضاري والسياسي
الأول في المشرق العربي والإسلامي، زوت لتصبح مجرد عاصمة لولاية يديرها باشا مبعوث
من قبل السلطان العثماني.
سنتان كانتا مليئتين بالحوادث
والوقائع فقدت فيهما دولة المماليك اثنين من سلاطينها على يد عدو خارجي، وسقط
فيهما آلاف من القتلى من المماليك ومن أبناء الشعب، وغادر مصر لسنوات عدد من أمهر
صناعها وحرفيها ومبدعيها، علاوة على عدد من شيوخها وفقهائها ومفكريها، ليبدأ عصر
ظلام وجمود طويل في تاريخ مصر.
لقد كان وقع الكارثة فادحًا على
وجدان المصريين فوصف المؤرخ المصري محمد بن أحمد بن إياس الغزو العثماني لمصر شعرًا،
فقال:
الله أكبر إنها لمصيبة وقعت
بمصر ومالها مثل يرى
ولقد وقفت على تواريخ
مضت لم يذكروا فيها بإعجاب ما جرى
وفي موضع آخر من تاريخه المعروف باسم "بدائع الزهور في وقائع الدهور"
يقول ابن إياس:
"ومن العجائب أن مصر صارت نيابة بعد أن كان سلطان مصر أعظم السلاطين
في سائر البلاد قاطبة... ولكن ابن عثمان انتهك حرمة مصر، وما خرج منها حتى غنم
أموالها وقتل أبطالها ويتم أطفالها وأسر رجالها وبدد أحوالها وأظهر أهوالها... وأشيع
أن ابن عثمان خرج من مصر وبصحبته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة، هذا خارجًا عما
غنمه من التحف والسلاح والصيني والنحاس المكفت والخيول والبغال والجمال وغير ذلك،
حتى نقل منها الرخام الفاخر، وأخذ منها من كل شئ أحسنه، ما لا فرح به آباؤه ولا
أجداده من قبله أبدًا".
لكن ماذا كان تأثير الاحتلال
العثماني على مصر؟
لقد كان للاحتلال العثماني لمصر
تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على تطور البلاد، فرغم أن مصر عرفت عبر تاريخها الطويل موجات
وراء موجات من المستعمرين الأجانب، ورغم أن أوضاع البلاد في أواخر عصر المماليك
كانت متردية للغاية، إلا أن الأثر السلبي الخطير للاحتلال العثماني لمصر والمشرق
العربي عموما يكمن في أمرين اثنين:
الأول: إنه قطع الطريق على
التحولات الاجتماعية التي كانت أخذه في التطور في مصر، والتي كان يمكن أن تخرج
البلاد من أزمتها التاريخية وتنتقل بها إلى عصر جديد، فأتى الاحتلال العثماني
ليجمد الوضع الاجتماعي لعدة قرون أخرى، وليستنزف فوق ذلك موارد مصر الاقتصادية
لصالح الخزانة العثمانية.
أما مكمن الخطورة الثاني فكان
التوقيت الذي أحتل فيه العثمانيون مصر، فقد احتلوها في لحظة كان العالم فيها يعيش
في مفترق طرق بين عصرين، وقد نجح الغرب في كسر الحاجز والانتقال إلى عصر جديد،
بينما بقي المشرق في ظل الاحتلال العثماني ثابتًا في مكانه.
لكن ماذا كان موقف المصريين من
الغزو العثماني للبلاد؟
لقد كان أبناء الشعب المصري
محرومين من حقهم في حمل السلاح للدفاع عن بلادهم منذ احتل الرومان مصر باستثناء
لحظات نادرة مثل مواجهة حملة لويس التاسع على المنصورة وغارات القراصنة على
الإسكندرية، ومن هنا فلم يكن الشعب مستعدًا للمواجهة مع جيوش الاحتلال العثماني
بالقدر الكافي، ومع ذلك؛ فبمجرد تولى السلطان الأشرف طومان باي لعرش السلطنة في
رمضان سنة 922 هجرية 1516ميلادية عقب وصول الخبر بسقوط عمه السلطان الغوري قتيلًا
في مرج دابق، دعى المصريين إلى حمل السلاح للدفاع عن وطنهم، وقد شاركوا بالفعل في
موقعة الريدانية، لكن قوة المدفعية والأسلحة النارية العثمانية كانت أكبر من قدرة
الجيش المملوكي والمقاتلين المنضمين إليه من المصريين، فانتصر العثمانيون ودخلوا
إلى القاهرة واستولوا عليها، ومع ذلك لم تتوقف المقاومة فسرعان ما جمع طومان باي
فلول الجيش المملوكي وتجمع حوله أبناء البلد ليهاجموا قوات الاحتلال ويستردوا
القاهرة من أيديهم مره أخرى، لكن لأيام معدودة عادت بعدها سيطرة العثمانيين.
وهذا هو ما يرويه لنا نص مقتطع من
رسالة بعث بها السلطان العثماني سليم الأول إلى نائبه في الشام يبشره فيها بنجاحه
في الاستيلاء على القاهرة والقضاء على المقاومة فيها، قال سليم في رسالته بعد أن
روي انتصاره في الريدانية على جيوش طومان باي:
"وكان قد فضل بقية من العساكر المصرية، فهربوا واجتمعوا هم والسلطان
طومان باي وجمعوا العربان، والتموا نحو العشرة آلاف، ليلًا من نهار الثلاثاء خامس
شهر المحرم الحرام سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة خفية، ودخلوا البيوت الحصينة، وحفروا
حولها الخنادق، وستروا التساتير، واجتمعوا في الحارات، وأظهروا الفساد، وابرزوا
العناد، فعلمت عساكرنا المنصورة بهم، فربطوا الخيالة لهم الطرقات، لئلا ينهزم أحد،
وصاحت عليهم مماليكنا الإينكشارية والتفكجية، وحملت عليهم حملة رجل واحد، ودخلوا
عليهم إلى البيوت التي تحصنوا فيها، ونقبوا عليهم البيوت يمينًا وشمالًا، وطلعوا
على أسطحة تلك البيوت التي تحصنوا فيها ورموا عليهم بالبنادق والكفيات، واستمر
الحرب بين عساكرنا المنصورة وبينهم ثلاثة أيام... وفي هذه الثلاثة أيام يستمر القتال
من الصبح إلى العشاء، وبعون الله تعالى قتلنا جميع الجراكسة، ومن انضم إليهم من
العربان، وجعلنا دماءهم مسفوحة وأبدانهم مطروحة ونهب عساكرنا قماشهم وأثاثهم
وديارهم وأموالهم، ثم صارت أبدانهم للهوام، أما طومان باي سلطانهم فما عرفنا هل هو
مات أم بالحياة..."
هذه هي رواية وقائع المقاومة في
القاهرة كما وردت على لسان المحتل العثماني، وقد أقر فيها باستمرار المعركة ثلاثة
أيام كاملة، فما هي الصورة كما قدمها الجانب المصري، يقول ابن إياس في وقائع شهر
المحرم سنة 923هـ:
"فلما كان ليلة الأربعاء خامس
الشهر، بعد صلاة العشاء، لم يشعر ابن عثمان إلا وقد هجم عليه الأشرف طومان باي
بالوطاق واحتاط به، فاضطربت أحوال ابن عثمان إلى الغاية، وظن أنه مأخوذ لا
محالة... واجتمع هناك الجم الغفير من الذعر وعياق بولاق من النواتية وغيرهم وصاروا
يرجمون بالمقاليع وفيها الحجارة، واستمروا على ذلك إلى أن طلع النهار فلاقاهم
الأمير علان الداودار الكبير من الناصرية عند الميدان الكبير فكان بين عسكر ابن
عثمان وعسكر مصر هناك وقعة تشيب منها النواصي... واستمر السلطان طومان باي يتقع مع
عسكر ابن عثمان ويقتل منهم في كل يوم مالا يحصى عددهم، من يوم الأربعاء إلى يوم
السبت طلوع الشمس ثامن المحرم..."
لقد كانت هذه صورة من صور المقاومة المصرية لقوى الاحتلال الأجنبي، ورغم أن
نتيجة هذه المعركة لم تكن في صالح المصريين، إلا أن جذوة المقاومة ظلت كامنة في
النفوس لسنوات طويلة، لتعود مرة أخرى فتشتعل في أواخر القرن الثامن عشر...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق