مقالي المنشور في
العدد الجديد من عالم الكتاب...
من
ذكريات ليمان طرة
عماد أبو
غازي
مررت في شبابي بثلاث تجارب قصيرة مع السجن، ما
بين حبس احتياطي واعتقال، لم تتجاوز أطوالها ستة أشهر، كان ذلك في ما بين عامي
1980 و1982، واختلفت فيها العلاقة بالكتاب والمكتبة داخل الأسوار، التجربة الأولى
والأطول في ليمان طرة، كانت في عام 1980، كان متاح لنا خلال فترة الحبس الاحتياطي
أن نتعامل مع مكتبة السجن، لكني فضلت ومجموعة من زملائي أن نكون مكتبتنا الخاصة
مستفيدين من أن عددًا منا كانوا من الطلاب سواء في المرحلة الجامعية الأولى او
مرحلة الدراسات العليا، حيث كانت إدارة السجن تسمح بدخول الكتب الدراسية لنا.
ولما كنت طالبًا للدراسات العليا بمعهد البحوث
والدراسات العربية، فقد سمح لي وضعي هذا بإدخال أعداد كبيرة من الكتب المتنوعة في
موضوعاتها ومجالاتها، ما بين كتب في التاريخ والقانون والعلوم السياسية والأدب،
ونادرًا ما منعت إدارة السجن دخول كتاب لنا، ونجحنا الصديقان فريد زهران ومصطفى
الخولي وأنا، في أن نكوّن مكتبة كبيرة داخل السجن، كان مقرها الرئيسي في زنزانة 6
حيث أقمت مع بعض الزملاء السكندريين، تجاوز عدد الكتب مائتي وخمسين كتابًا، هذا
بخلاف الصحف واليومية والمجلات الأسبوعية التي كنا نشتريها من رصيدنا بأمانات
الليمان، فأصبح لدينا رصيد يفي باحتياجات "الحبسة" كلها ويزيد، بحيث
يمكن لكل رفيق أن يكون معه كتابان في نفس الوقت، فقد كان عددنا 125 متهمًا، أضيف
لنا خمسة من أهالينا وأصدقائنا تم القبض عليهم أثناء حضورهم أول جلسات تجديد حبسنا
بمحكمة شمال القاهرة بالعباسية.
أتذكر جيدًا أني أنهيت في هذه الحبسة قراءة
كتاب لويس عوض المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث، الذي أرخ فيه للفكر
المصري الحديث، وكنا نتبادله فريد زهران وأنا، ونسجل تعليقاتنا على هوامش صفحاته،
كما قرأت الشوقيات المجهولة التي جمعها محمد صبري السوربوني في مجلدين، وكذلك
كتابه عن مطران، وأعدت قراءة خمسة من كتب بدر الدين أبو غازي ـ والدي ـ وهي كتابيه
عن مختار وكتابه الأول عن محمود سعيد وكتابي الفن في عالمنا وجيل من الرواد. وكان
من الكتب التي قرأتها كذلك الدراسة المهمة التي كتبها السيد يسين وعلى الدين هلال
عن الصراع العربي الإسرائيلي وصدرت في مجلدين عن معهد البحوث والدراسات العربية،
وفي هذه الأشهر أعدت قراءة تاريخ الحركة الوطنية من 1918 إلى 1936 لعبد العظيم
رمضان.
وخلال هذه الأشهر الخمسة تمكنت من الانتهاء من
كتابة رسالة الدبلوم التي كنت أعدها بعنوان "اليابان الحديثة دراسة في تطور الاستعمار الياباني" تحت إشراف
أستاذي الراحلين الدكتور محمد أنيس والدكتور جمال زكريا قاسم، وذلك رغم الصعوبات
في دخول بعض مراجع الدراسة حيث اعتبرتها إدارة السجن كتب ممنوعة، لأن بعضها للزعيم
الصيني ماو تسي تونج، وبعضها يحمل في عنوانه كلمة الإمبريالية، فرفضت إدارة السجن
دخولها!
ولما
كان المحاضرات المنسوخة بخط اليد والمصورة يسمح بدخولها لي، فقد قام أبي وأمي
وأختي وعمتي بنسخ الأجزاء المطلوبة من هذه الكتب وإدخالها مع المحاضرات الدراسية،
وهكذا تمكنت من إنهاء الرسالة، وإرسالها للطبع على الألة الكاتبة ومراجعتها قبل
خروجي من السجن، وكان مقررًا أن أذهب من السجن لجلسة المناقشة في نهاية شهر يونيو
مثلما ذهبت لأداء الامتحانات، لكن قرار النيابة بالإفراج عن من تبقى منا رهن الحبس
الاحتياطي صدر قبل موعد المناقشة بأيام.
كانت
المشكلة كيف نخرج بهذه الكمية من الكتب والملابس والأدوات، ففي ذلك الزمن كان يسمح
لنا بارتداء ملابسنا المدنية طوال فترة الحبس الاحتياطي، كان لدينا عدة صناديق من
الكتب بخلاف متعلقاتنا الأخرى، ولما كانت إجراءات الإفراج تتطلب المرور على مباحث
أمن الدولة بلاظوغلي وربما قضاء ليلة كاملة هناك، فقد حملنا أهلنا فريد وأنا
بالكتب والمتعلقات قبل خروجنا من السجن، وكان من بينها عود للصديق حسن الدمشاوي من
المنيا، الذي قبض عليه ومعه عوده، واتفقنا على أن يحضر إلينا بعد إتمام إجراءات
الإفراج ليأخذ كل منهم متعلقاته.
أما
المرة الثانية فكانت أثناء الاعتقال بليمان طرة أيضًا في أكتوبر 1981، هذه المرة
كانت المعاملة مختلفة تمامًا، كانت الكتب والصحف والمجلات والزيارات ممنوعة، كنا
معزولين تمامًا عن العالم الخارجي، ولا يسمح لنا بالتريض أو الخروج من الزنازين
سوى لمدة ربع ساعة في أول النهار ومثلها قبل المغرب لقضاء الحاجة.
في
الليل كنا في زنزانة 12 ننظم إذاعة يومية للعنبر من على شباك الزنزانة، إن لم تخني
الذاكرة فقد شارك فيها فريد زهران ومصطفى الخولي والصديق الراحل نزار سمك الذي
استشهد في حريق قصر ثقافة بني سويف، كنا نقدم في هذه الإذاعة بعض ما نحفظه من
أشعار، أو موضوعات تاريخية وسياسية تعيها الذاكرة، كما نجحنا بعد أيام قليلة في
تدبير وسائل للحصول على الأخبار، فأصبحت زنزانة 12 تقدم نشرة أخبار ليلية أزعجت
إدارة السجن، التي كانت تقوم بتفتيش الزنزانة بحثًا عن الراديو الذي نعرف منه
أخبار مصر والعالم، أو الصحف التي تصلنا، لكن دون جدوى. ومع استمرار سوء المعاملة
بدأنا إضرابًا عن الطعام استمر ثلاثة عشر يومًا أسفر عن مجموعة من المكاسب كان من
بينها دخول الصحف والكتب والراديو، لكن الاعتقال لم يطل حتى نكون مكتبة أخرى، وتم
الإفراج عنا تدريجيًا.
إلى
اليوم كثيرًا ما أرجع إلى كتاب قديم في مكتبتي فأجد على صفحة الغلاف ختم ليمان طره
واسمي بخط يد أبي، أو أجد بعد التعليقات بخطوط الزملاء في "حبسة 80" أو
القضية 706 على هوامشه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق