قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر ( 3 )
1907 عام الأحزاب
عماد أبو غازي
يعتبر
المؤرخون الذين درسوا تاريخ الأحزاب السياسية في مصر عام 1907 عامًا للأحزاب، فقد شهد ذلك
العام موجة من موجات تأسيس الأحزاب في مصر جعلته يحتل المرتبة الأولى من حيث عدد
الأحزاب التي تأسست فيه، ولم يتراجع عام 1907 عن المرتبة الأولى إلا بعد ثورة 25
يناير 2011 التي أعقبها تأسيس عدد من الأحزاب غير مسبوق في التاريخ المصري.
ففي هذا العام
تحولت ثلاثة تيارات سياسية كانت تعبر عن نفسها من خلال الصحافة إلى أحزاب سياسية؛
فأسس مجموعة من كبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار رجال العائلات وبعض رجال السياسة
والقانون والصحافة حزب الأمة في 21 سبتمبر سنة 1907، وكان من أبرز قادته ومفكريه
أحمد لطفي السيد مُصدر جريدة "الجريدة"، كما شارك في تأسيسه محمود باشا
سليمان وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك وحمد الباسل بك وحسن صبري بك ومحمود
عبد الغفار بك وأحمد فتحي زغلول، وكان حسن باشا عبد الرازق هو الذي أعلن تأسيس
الحزب في اجتماع الجمعية العمومية لشركة الجريدة، وقد تبنى الحزب الفكر الليبرالي
ورأى أن الارتقاء بالتعليم وبناء ديمقراطية على أساس من النظام الدستوري الطريق الوحيد
لتحقيق رقي مصر واستقلالها، ويعتبر الدكتور يونان لبيب رزق أن حزب الأمة كان أول
الأحزاب المصرية التي تحمل سمات الحزب السياسي كما ظهر في الغرب الأوروبي، من حيث
وجود برنامج سياسي ولائحة وهيكل إداري ومقار، وعضويات بلغت خلال ثلاثة أشهر فقط
645 عضوًا.
أحمد لطفي السيد
وبعدها بأشهر
قليلة أسس الشيخ علي يوسف صاحب جريدة "المؤيد" ومُصدرها حزب "الإصلاح
على المبادئ الدستورية" في 9 ديسمبر من نفس العام، وكان حزبًا مواليًا
للخديوي عباس حلمي الثاني ومؤيدًا له، وقد انتهى الحزب بوفاة مؤسسه سنة 1913.
الشيخ علي يوسف
أما مصطفى كامل
صاحب جريدة "اللواء" فأعلن عن تأسيس الحزب الوطني في 27 ديسمبر سنة 1907، وقد اعتبر حزب مصطفى كامل قضية
الاستقلال الوطني همه الأول وإن كان قد تبنى أيضا الدعوة إلى الدستور.
مصطفى كامل
وتطورت
مواقف الحزب فيما بعد وفاة مصطفى كامل في 10 فبراير سنة 1908، فاكتسبت أبعادا اجتماعية
في ظل زعامة محمد فريد فبدأ يهتم بالنقابات العمالية والتعاونيات ومدارس الشعب
وغيرها من المشروعات، وقد أضطر فريد لمغادرة البلاد إلى منفاه الاختياري بين تركيا
وسويسرا وألمانيا، لكنه ظل زعيما للحزب حتى وفاته في نوفمبر سنة 1919.
وكان الحزب الوطني
اسمًا يطلق على التيار المعادي للاحتلال قبل تأسيس الحزب، وكانت الصحف الغربية قد
بدأت الحديث عن هذا التيار باعتباره حزبًا وطنيًا، وعن مصطفى كامل كزعيم لهذا
الحزب، منذ ألقى خطابه الشهير في باريس في 31 أغسطس سنة 1895، ذلك الخطاب الذي شن
فيه هجومًا حادًا على الاحتلال البريطاني للبلاد، ويرى الدكتور يونان لبيب رزق أن
الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل قد خرج من عباءة الحزب الوطني السري الذي تشكل
في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر، وكان يضم الخديوي عباس حلمي إلى جانب رواد
صالون لطيف باشا سليم من الوطنيين الراديكاليين، وأصدقاء وتلاميذ محمد عبده الميالين
إلى الاعتدال، وبهذا المعنى يكون كل من حزب الأمة والحزب الوطني قد خرجا من عباءة
هذه الجماعة السرية.
عباس حلمي الثاني
وقد سبق الإعلان
عن تأسيس الأحزاب الرئيسية الثلاثة في تلك التجربة التي تعد الثانية بين التجارب
المصرية في التعددية الحزبية، تكوين الحزب الوطني الحر في 26 يوليو من عام 1907،
وكان هذا الحزب الذي أسسه محمد وحيد بك الأيوبي حزبًا مواليًا للاحتلال البريطاني،
وقد اختار جريدة "المقطم" التي كانت تعتبر بمعنى ما لسان حال سلطات
الاحتلال في مصر، ليعلن من خلالها برنامجه، وقد علقت صحيفة الديلي تلجراف اللندنية
على قيام الحزب بقولها: "إن هذا الحزب الحر قد قام لمناهضة مصطفى كامل في
حملته ونمائمه، ولدفع الضرر الذي لحق من تلك الحملة بمصالح مصر وبمبدأ الحرية"،
في إشارة إلى حملة مصطفى كامل في الداخل والخارج ضد سياسة الاحتلال، خاصة بعد
حادثة دنشواي التي وقعت في صيف 1906، وقد تغير اسم الحزب فيما بعد إلى حزب الأحرار
بعد أن أصدر جريدة تحمل هذا الاسم في عام 1908، وقد انتهى هذا الحزب في أغسطس من
عام 1910 بعد أن أدين مؤسسه في قضية تبديد أموال وحُكم عليه بالسجن لمدة شهرين.
وشهد عام 1907
أيضا تأسيس الصحفي حافظ أفندي عوض لحزب سياسي حمل اسم الحزب الوطني، وقد نشر
برنامجه في جريدة المؤيد التي عمل فيها لمدة عشر سنوات، وكان برنامجه يتحدث عن
التعاون مع سلطات الاحتلال، وقال فيه: "إننا رجال الحزب الوطني نعتقد أن
مصالح مصر وإنجلترا واحدة"، ويبدو أن حزبه كان حزبا على الورق فقط، وقد انضم
في يناير عام 1908 بعد تأسيس مصطفى كامل للحزب الوطني الحقيقي إلى حزب الإصلاح على
المبادئ الدستورية، كذلك تأسس في ذلك العام حزب صغير حمل اسم الحزب الجمهوري دعا
إلى انهاء حكم أسرة محمد علي، أسسه مجموعة صغيرة العدد من الصحفيين والمثقفين،
وكان هذا الحزب يرى أن النظام الجمهوري أقرب النظم إلى مبادئ العدل والإنصاف، ولم
يستمر هذا الحزب في الوجود واختفى تمامًا.
وفي الأعوام التي
تلت عام الأحزاب عام 1907، تأسست في مصر مجموعة أخرى من الأحزاب نعرف منها الحزب
المصري الذي أسسه أخنوخ فانوس في سبتمبر سنة 1908، ونشر برنامجه في صحفية المقطم،
وتقوم فلسفته على محاولة الحصول على استقلال مصر عن طريق الصداقة مع إنجلترا وكسب
ثقة الإنجليز، ولم يعش هذا الحزب طويلًا ولم يترك أثرًا في الحياة السياسية.
ومن الأحزاب
الأخرى التي ظهرت على الساحة ولم تستمر أيضًا في الأعوام التي سبقت الحرب العالمية
الأولى حزب العمال الذي تأسس في يوليو سنة 1908 وأسسه الصحفي محمد أحمد، وحزب
النبلاء الذي تأسس في أكتوبر 1908، والحزب الاشتراكي المبارك الذي رأسه الدكتور
حسن فهمي جمال الدين وتم الإعلان عن تأسيسه في أكتوبر 1909، وتضمن برنامجه تحسين
أحوال الفلاحين ومنح معاشات للعجزة والمرضى منهم
وتنظيم العلاقة بينهم وبين كبار الملاك.
وفي سنة 1910 تأسس
حزب جديد من الأحزاب الموالية للإنجليز باسم الحزب الدستوري، أسسه إدريس راغب،
وانتهى وجوده في عام 1911.
لقد نجحت الدراسات
التي قام بها مؤرخون أجانب ومصريين حول تطور الحياة الحزبية في مصر في إجمالها،
ومن أهمها دراسات جاكوب لاندو والدكتور يونان لبيب رزق والدكتور محمود متولي في
رصد كثير من الأحزاب من خلال تتبع برامجها وأخبارها المتفرقة في الصحف، لكن
يبدو أن معظم أحزاب تلك المرحلة كانت مجرد
برامج وأخبار في الصحف باستثناء الأحزاب الثلاثة الرئيسية، حزب الإصلاح على
المبادئ الدستورية وحزب الأمة والحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، بل ربما نستطيع
القول أن هذه المرحلة انتهت إلى تيارين رئيسيين: تيار الحزب الوطني وتيار حزب
الأمة امتد تأثيرهما إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وخلال الفترة من
عام 1907 حتى عام 1918 كان الحزب الوطني اللاعب الرئيسي في الساحة السياسية
المصرية، لم يفقد قوته برحيل زعيمه مصطفى كامل، بل استمر وتطور في ظل زعامة محمد
فريد، ولم يتوقف بمغادرة فريد للبلاد بل استمر نشاطه في الداخل والخارج، بل حتى لم
تستطع الحرب العالمية الأولى أو الأحكام العرفية والمصادرات المتوالية لصحفه من
قبل السلطة إخماد صوته، واتجه بعض شبابه إلى العمل السري المسلح ضد الاحتلال، بل
لجأ بعضهم إلى تنفيذ محاولات لاغتيال السلطان حسين كامل وبعض رجاله.
وعندما انتهت
الحرب العالمية الأولى كان الحزب الوطني الحزب الوحيد الذي استمر من أحزاب تلك
المرحلة بمسماه وهياكله وبرنامجه إلى أن تم حل الأحزاب السياسية في يناير 1953.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق